مؤتمر «الطريق إلى القدس» أم إلى التطبيع؟!

د. إبراهيم علوش

عندما وصلت «مبادرة كيري» و«العملية السلمية» إلى طريقٍ مسدود، وصار بيّناً أن المطلوب تنازلات مجانية وصكوك استسلام غير مشروطة، التأم في عمان الأسبوع ما قبل الفائت مؤتمرٌ أطلق عليه زوراً اسم «الطريق إلى القدس»، برعاية ملكية أردنية وبمشاركة سلطوية فلسطينية ووفود من مختلف أرجاء الوطن العربي والعالم الإسلامي، ليجيز زيارة فلسطين عامة والقدس خاصة في ظل الاحتلال، وليبطل فتوى سابقة من علماء ورجال دين مسلمين ومسيحيين بارزين سبق أن حرموا مثل تلك الزيارة باعتبارها تطبيعاً مع العدو الصهيوني.

قبل أن ينفض المؤتمر المذكور خرجت عنه فتوى غريبة، هي التتمة الطبيعية للتكفير والتشدّد اللاعقلاني، تدعو لزيارة القدس والمسجد الأقصى والمقدسات عامة، للفلسطينيين أيّاً تكن جنسياتهم، وللمسلمين الذين يحملون جنسيات دول أجنبية.

بعضنا أصرّ على عدم التعليق على نتائج مؤتمر «الطريق إلى التطبيع» كي يصدر بيانه الختامي، وتأخر ذلك البيان أسبوعاً بعد انفضاض المؤتمر، حتى نشرته وسائل الإعلام الأردنية يوم الاثنين 5/5/2014، ليبارك في فقرته الأخيرة فتوى زيارة القدس في ظل الاحتلال، مورداً نصها مثلما نُشرت، ومعدّلاً في مقدمتها تعبير «الفتوى التي صدرت عن عددٍ من العلماء المشاركين» إلى «الفتوى التي صدرت عن العلماء المشاركين في هذا المؤتمر من مختلف أنحاء العالم الإسلامي».

في اختصار، مثلما يحصل التلاعب بالدين لإثارة الفتن والحروب الأهلية وتبرير الممارسات الهمجية بين العرب والمسلمين أنفسهم، يحاول البعض أن يتلاعب به لإمرار التطبيع مع العدو الصهيوني، وكلا المسارين يقود إلى الآخر، في الاتجاهين، ويتممه. فالمقاومة هي التي توحد الشعب، ومنها مقاومة التطبيع، والتطبيع هو الذي ينتج الفرقة والفتنة، ومن يخض في دماء ابناء وطنه بذرائع دينية أو غير دينية لن يجد له حليفاً سوى حلف الناتو والعدو الصهيوني.

التطبيع، للمناسبة، هو كل قول أو فعل يكسر حاجز العداء مع العدو الصهيوني، والتعامل الطبيعي مع العدو الصهيوني يعني فعلياً الموافقة على الاحتلال ومنحه المشروعية، ويعطيه في هذه الحالة المشروعية الدينية والشعبية، كخطوة تتجاوز التطبيع الرسمي العربي والمعاهدات والتنسيق الأمني.

إن إقامة علاقات طبيعية مع من يهوّد الأرض ويتبع سياسات جائرة وعدوانيّة علناً يعني فعلياً الموافقة على تلك السياسات الصهيونية ومباركتها، أما من يرد أن يدعم أهلنا في الأرض المحتلة فثمة الكثير يستطيع أن يفعله ولا يفعل، لكن أهم شكل لدعم القابعين تحت الاحتلال هو تحريرهم، وتحرير الأرض، ودعم المقاومة، وهذا ما تحاربه في الواقع تلك الجهات الداعية لدعم القدس من خلال «زيارة الأقصى تحت الاحتلال».

يشار إلى أن لجنة مقاومة التطبيع النقابية في مجمع النقابات المهنية في عمان أصدرت بياناً يدين الفتوى التطبيعية ويطرح الكثير من التساؤلات المشروعة والمهمة حول المؤتمر والمشاركين فيها منها: 1 وجود أشخاص مطبّعين ومستمرّين في التطبيع علناً في اللجنة التحضيرية للمؤتمر، 2 الدور البارز لممثلي سلطة أوسلو فيه، 3 كون المؤتمرين يدعون الناس لزيارة الأقصى في ظل الاحتلال بفيزا صهيونية، فيما أهل الضفة الغربية وغزة ممنوعون من زيارته!، 4 كون مثل تلك السياحة تدعم الاحتلال مالياً الفيزا ليست مجانية مثلاً وتشكل نوعاً من الدعاية السياسية لانفتاح العدو الصهيوني على المسلمين أمام العالم…

إن ما تمخّض عن مؤتمر «الطريق إلى القدس» خطير جداً، فهو محاولة لليّ عنق الدين لخدمة التطبيع مع العدو الصهيوني، ما قد يؤثر في قطاعات واسعة من جماهير أمتنا. وما دامت الزيارة للأقصى مسموحة في ظل الاحتلال، لن يطول الوقت قبل أن تصدر سلسلة فتاوى مماثلة حول جواز المتاجرة والبيع والشراء مع الاحتلال، وحول تحريم المقاومة ما دامت الدول العربية مرتبطة بمعاهدات واتفاقيات دولية تعطي الصهاينة الأمن والأمان، ومن ثم حول اعتبار اليهود في فلسطين أهل كتاب لا يمثل التطبيع والتعايش معهم اختراقاً لتعاليم الدين.

إذا كان مصدّرو مثل هذه الفتوى التطبيعية، والمؤتمر الذي كرّسها، قد استندوا إلى الآية الكريمة في سورة الإسراء سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله… ، فإنهم يأخذون تلك الآية خارج سياقها تماماً، لأن الإسراء يحمل بعداً روحياً يرتبط بسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، الذي لم يأخذ تصريحاً أو فيزا من العدو الصهيوني أو الاحتلال البيزنطي ليسري للأقصى، وشتان ما بين الإسراء وما بين السياحة أصلاً.

كان الأجدر بمن أصدر تلك الفتوى التطبيعية استناداً إلى حديث عن أبي هريرة، أيضاً خارج السياق، أن ينتبه أكثر إلى آية واضحة تماماً ضد التطبيع مع العدو الصهيوني لا لبس فيها ولا يمكن فهمها إلاّ بأنها تحرم التطبيع، وهي الآية التاسعة من سورة الممتحنة: إنّما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون.

الكلام واضح تماماً هنا لأولي الألباب. الإسلام ينهى عن التعامل الطبيعي مع من قاتلنا وأخرجنا من ديارنا الصهاينة ومن ظاهر، أي ساعد، على إخراجنا من ديارنا حلف الناتو ، ومن يفعل غير ذلك ويوالي أولئك الأعداء، فهو الظالم… فهل من كلام أوضح من هذا ضد التطبيع مع العدو الصهيوني؟! ولو أردنا تجاهل الاعتبارات الوطنية والقومية كلّها ولجأنا إلى المعيار الديني الذي ثبت أنه يعزز الاعتبار الوطني والقومي ولا ينفيه إلاّ لمن يسيء فهمه ويحاول تطويعه ضد مصلحة الأمة، وذاك ما لا يصمد طويلاً أمام أي تدقيق حقيقي في النص القرآني.

أخيراً، إذا كان هنالك من أيّد فتوى التطبيع «نكاية في الطهارة»… أو بالقرضاوي، فلا فرق بين استدعاء التدخل الأجنبي والتطبيع مع العدو الصهيوني، كما أن نقدنا لحماس لا يعني دعم السلطة الفلسطينية… أو التطبيع.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى