ما الذي يريده بوتين؟
إعداد وترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق
كُتب الكثير عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي ـ ومن دون أدنى شك ـ كان ولا يزال الظاهرة السياسية الأبرز خلال الحقبة الأخيرة من تاريخ روسيا وأوروبا وحتّى العالم.
ولا شكّ أنّ كثيرين يتذكرون هبوط روسيا بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي، ووصولها حد الاضمحلال في عهد الرئيس الضعيف بوريس يلتسين، ويذكرون أيضاً أنّ روسيا عادت وانتفضت على الاضمحلال، لتكون الرقم الصعب في هذا العالم، ما فرض على الولايات المتحدة الأميركية اجتراح الحلول الناجعة من أجل بقائها مسيطرةً على القرار العالمي، لكن هيهات. ففي روسيا شخص اسمه فلاديمير بوتين استطاع أن يبني روسيا الجديدة القوية، التي تقارع بالسياسة والسلاح والحق… والفيتو!
تقريرنا التالي فضّلنا نشره على حلقتين، لا اختصاره في حلقة واحدة، وذلك نظراً إلى أهميته في سرد الأحداث ـ وما وراء الأحداث ـ ونظراً إلى التشويق الذي يطغى على أسلوب الكاتب روستيلاف أوشينكو.
وإذ نترك للتقرير الحديث عن تلك الأحداث، لفتتنا حنكة الكاتب في ربط تلك الأحداث ببعضها، كقوله في المقطع التالي: « وكي نفهم كيف ومتى ووفقاً لأيّ شروط قد تنتهي العمليات العسكرية، علينا أن نعرف جيداً ما الذي يريده السياسيون وكيف ينظرون إلى شروط اتفاقية ما بعد الحرب. ثمّ سيكون واضحاً للغاية تحوّل العمليات العسكرية إلى حرب أهلية منخفضة الحدّة وتتخللها بعض الهدنات، ليس فقط في أوكرانيا، بل أيضاً في سورية. ومن الواضح أننا لا نهتمّ لسياسيّي كييف كونهم عاجزين عن تقرير أيّ شيء. فحقيقة أن الغرباء هم من يحكموا أوكرانيا لم يعُد خافياً على أحد. فلم يعُد يهمّ ما إذا كان الوزراء في الحكومة الأوكرانية إستونيين أم جيورجيين إنهم أميركيون والأمر سيّان».
وأيضاً عندما قال: « وفي الواقع، يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يختار ما إذا كان سيبقى أداةً في يد الولايات المتحدة، أو أنه يتقرّب أكثر من روسيا. واعتماداً على خيارها هذا، يمكن لأوروبا أن تقع في بعض الإرباك، كمثل انهيار بعض أطرافها واحتمال تفتّت بعض البلدان أو انهيارها تماماً».
جاء في مقدمة «Information Clear House»:
قد يكون هذا التحليل الأفضل منذ بداية الصراع في أوكرانيا. ولطالما عرضتُ مقالات تحليلية كتبها أوشينكو على صفحتي الخاصة، إذ أعتبره واحداً من أبرز المحلّلين في روسيا. لكن أوشينكو يقدّم لنا هذه المرة، تحفة مميزة جداً: إنه تحليل شامل للوضع الجيوستراتيجي في روسيا، وكذلك مراجعة دقيقة وشاملة حول «استراتيجية بوتين» الكاملة إزاء أوكرانيا. ولطالما آمنتُ بأن هذا الصراع الدائر لا يتعلق بأوكرانيا، إنما بمستقبل هذا الكوكب، وأنه لا حلّ «روسيا الجديدة» أو حتى أوكرانياً، لكن النتيجة الوحيدة الممكنة، تكمن في انتصار استراتيجي لروسيا أو للولايات المتحدة، والذي سيؤثر على الكوكب بكامله.
يقدّم لنا أوشينكو تحليلاً رائعاً حول المخاطر والخيارات لكلا الجانبين، وعرض للمرّة الأولى «مفتاحاً» شاملاً لسلوك روسيا غير المفهوم في هذا الصراع. وأخيراً، فإن أوشينكو يدرك تماماً بنية المجتمع الروسي الديناميكية الدقيقة والمعقّدة. وذلك عندما كتب «القوة الروسية موثوقة أكثر منها سلطوية». نحن ندين بالكثير من الامتنان لدنيس، جدعون وروبن الذين تطوّعوا لترجمة هذا النص، الذي كان من الصعب جدّاً ترجمته.
كتب روستيلاف أوشينكو
إنه لمن دواعي السرور أن «الوطنيين» لم يلقوا باللوم على بوتين بسبب فشله في تحقيق هزيمة واسعة النطاق على القوات الأوكرانية في دونباس في كانون الثاني وشباط الفائتين، أو لإجراء مشاورات في موسكو مع كلّ ميركل وهولاند.
ومع ذلك، فإنهم لا يزالون صبورين لناحية تحقيق النصر. أما الأكثر راديكالية وتعصبّاً، أنهم مقتنعون بأن بوتين سيتخلى عن روسيا الجديدة بتلك الطريقة نفسها. ويخاف المعتدلون كذلك أنه بمجرّد توقيع الاتفاقية ـ في حال حصل ذلك ـ من دون الحاجة إلى إعادة تجميع جيش روسيا الجديدة وتجديده والذي كان من الممكن القيام به من دون فكّ الارتباطات العسكرية ، أن تتصالح مع الظروف الجديدة على الساحة الدولية، والاستعداد للمعارك الدبلوماسية الجديدة. وفي الواقع، وعلى رغم كلّ الانتباه سياسياً وعسكرياً إلى الوضع في دونباس وأوكرانيا بشكل عام، ومن نقطة واحدة فقط على جبهة عالمية: فلا تُحدّد نتائج هذه الحرب في مطار دونتسيك أو على التلال خارج ديبالتسيفو، بل في مكاتب شوراع موسكو 1 ، وموسكو سكوير 2 ، وفي مكاتب باريس وبروكسل وبرلين. لأن العمليات العسكرية ليست سوى واحدة من المكوّنات المتعدّدة للشجار السياسي.
إنه العنصر الأقوى والأخير، والذي يحمل الكثير من المخاطر، لكن المسألة هذه لا تبدأ بحرب كما أنها لا تنتهي بها. فالحرب ليست سوى خطوة وسيطة تكون بديلاً عن الحلول الوسط. وتهدف إلى خلق شروط جديدة بعد استحالة اجتراح الحلّ الوسط أو لإظهار عدم الحاجة إلى ذلك، وهذا مع اختفاء جانب من الصراع. وعندما يحين وقت التسوية، ستنتهي الحرب وتعود القوات المقاتلة إلى ثكناتها، ويبدأ الجنرالات كتابة مذكراتهم والاستعداد إلى الحرب المقبلة، وهنا توضع اللمسات الأخيرة للمواجهة من قبل السياسيين والدبلوماسيين على طاولة المفاوضات.
لا تُفهم القرارات السياسية غالباً من قبل السكان أو حتى الجيش. فعلى سبيل المثال، وخلال «البروسية النمسوية» عام 1866، تجاهل المستشار البروسي أوتو فون بِسمارك آنذاك، الطلبات المتكررة للملك فليلهلم الأول «إمبراطور ألمانيا المستقبلي»، ومطالب الجنرالات البروسيين لأخذ فيينا، وكان فعلاً محقاً في تجاهله هذا. إذ إنّه سرّع بهذه الطريقة لتحقيق شروط السلام البروسية، كما ضمنت ضمّ المجر النمسوية إلى الأبد إلى أن تفككت بعد عام 1918 لتصبح شريكاً صغيراً لبروسيا وللإمبراطورية الألمانية لاحقاً.
وكي نفهم كيف ومتى ووفقاً لأيّ شروط قد تنتهي العمليات العسكرية، علينا أن نعرف جيداً ما الذي يريده السياسيون وكيف ينظرون إلى شروط اتفاقية ما بعد الحرب. ثمّ سيكون واضحاً للغاية تحوّل العمليات العسكرية إلى حرب أهلية منخفضة الحدّة وتتخللها بعض الهدنات، ليس فقط في أوكرانيا، بل أيضاً في سورية. ومن الواضح أننا لا نهتمّ لسياسيّي كييف كونهم عاجزين عن تقرير أيّ شيء. فحقيقة أن الغرباء هم من يحكموا أوكرانيا لم يعُد خافياً على أحد. فلم يعُد يهمّ ما إذا كان الوزراء في الحكومة الأوكرانية إستونيين أم جيورجيين إنهم أميركيون والأمر سيّان.
يرتبط وجود الجمهوريين بالدعم الروسي، وطالما يوجد هذا الدعم، يجب أن تُحمى المصالح الروسية حتى في مجال القرارات والمبادرات المستقلة، التي قد يفكر زاخارشينكو أو بلوتنيزسكي باتخاذها يوماً. كما أننا لسنا مهتمين بموقع الاتحاد الأوروبي. قد نكون اعتمدنا على الاتحاد الأوروبي أكثر خلال الصيف الماضي عندما توقعنا قدرته ونيّته إيقاف الحرب منذ البداية.
كانت هناك حاجة إلى اتخاذ موقف مبدئيّ ضدّ الحرب، والوقوف في وجه مبادرات الولايات المتحدة المشجّعة للحرب، الأمر الذي كان سيحوّل الاتحاد إلى لاعب جيوسياسي بارز ومستقلّ. لم يستغلّ الاتحاد الأوروبي هذه الفرصة الثمينة، لا بل على العكس، بدا وكأنه تابعاً مخلصاً للولايات المتحدة.
ونتيجة لذلك، تقف أوروبا على حافة انهيار داخليّ مخيف. ففي السنوات المقبلة، تتعرّض أوروبا لأن تعاني مصير أوكرانيا نفسه، ويترافق ذلك مع جلبة كبيرة، وفرصة أقلّ لإمكانية الاستقرار في المستقبل القريب ـ وبعبارة أخرى ـ لا بدّ لشخص ما أن يظهر ويعيد وضع الأمور في نصابها الصحيح.
خيارات الاتحاد الأوروبي
وفي الواقع، يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يختار ما إذا كان سيبقى أداةً في يد الولايات المتحدة، أو أنه يتقرّب أكثر من روسيا. واعتماداً على خيارها هذا، يمكن لأوروبا أن تقع في بعض الإرباك، كمثل انهيار بعض أطرافها واحتمال تفتّت بعض البلدان أو انهيارها تماماً.
وما يجدر الاهتمام به، آراء اثنين من اللاعبين الرئيسيين اللذين يحدّدان تكوين الجبهة الجيوسياسية، ويتقاتلان من أجل الفوز في المرحلة الجديدة من الحرب ـ الحرب العالمية الثالثة الشبكية المركزية. وهذان اللاعبان هما الولايات المتحدة وروسيا.
يبدو أن موقع الولايات المتحدة واضحٌ للغاية وشفاف. ففي منتصف التسعينات من القرن الماضي، خسرت واشنطن فرصتها الوحيدة لإصلاح اقتصاد الحرب الباردة من دون أيّ عقبات، وتجنّبت بالتالي الأزمة التي تلوح في أفق النظام الكوني الذي يواجه محدودية موارد هذا الكوكب، بمن فيهم البشر، وعقبات طباعة عدد لا نهائي من الدولارات. وبعد ذلك، قد تطيل الولايات المتحدة احتضار هذا النظام من خلال نهب ما تبقى من موارد العالم. ففي البداية، ذهبت ناحية دول العالم الثالث. ثمّ وراء المنافسين المحتملين. وبعدئذ إلى الحلفاء وحتى الأصدقاء المقرّبين. وقد يستمرّ نهب كهذا، طالما بقيت الولايات المتحدة دولة مهيمنة لا منافس لها.
وهكذا، وعندما أكدت روسيا حقها في اتخاذ قرارات سياسية مستقلة ـ قرارات الاستيراد على المستوى الإقليمي لا العالمي ـ أصبح التصادم بينها وبين الولايات المتحدة حتميّاً. ولا يمكن لهذا التصادم أن ينتهي بتسوية سلميّة.
فالتسوية مع روسيا بالنسبة إلى الولايات المتحدة ستعني التخلي طوعاً عن هيمنتها، والتي ستقود إلى كارثة نظامية وسريعة ـ ليس فقط على مستوى الأزمات السياسية والاقتصادية، إنما أيضاً في شلّ مؤسسات الدولة وقدرة الحكومة على المضيّ قدماً بأعمالها. وبعبارة أخرى، «تفكك لا مفرّ منه».
أما إذا ربحت الولايات المتحدة، سترزح روسيا تحت وطأة الكارثة النظامية. فبعد رصد أنواع معينة من «التمرّد»، ستُعاقب الطبقات الحاكمة في روسيا على طريقة تصفية الأصول ومصادرة ممتلكاتهم وأيضاً سجنهم. ستخضع الدولة للتجزئة، وقد يتعرّض الجيش الوطني للتدمير.
إذاً، ستستمرّ الحرب حتى ينتصر أحد الجانبين. وينبغي النظر إلى أيّ اتفاقية موقّتة على أنها هدنة موقتة، وبمثابة مهلة لازمة لإعادة ترتيب الصفوف، وحشد موارد جديدة، واصطياد حلفاء جدد. وكي نكمل الصورة حول هذه الرؤية، فإننا نحتاج فقط إلى معرفة الموقع الروسي. فإنه لمن المهم جداً أن نعرف ما الذي تسعى القيادة الروسية إلى تحقيقه، وتحديداً رئيسها فلاديمير بوتين، الموثوقة سلطته، لا يعمل على توطيد شرعيته الاستبدادية، بل يقوم ببناء تفويض أنشأه وأصبح رئيسه ويعمل عليه بفعالية.
بوتين وثقة الروسيين
خلال وجود بوتين على مدى 15 سنة في السلطة، على رغم الأوضاع الصعبة داخلياً وخارجياً، حاول تضخيم عمل الحكومة والمجلس التشريعي وحتى السلطات المحلية. وهي خطوات منطقية وضرورية نحو نظام مستقرّ بغضّ النظر عمّن يتولى السلطة. لكن لسوء الحظ، فإن السيطرة الذاتية المستقلة، أي القدرة على العمل من دون إشراف الرئيس، لم تتحقق بالكامل. فقد بقي بوتين مفتاح الحلول في البلاد، إذ وضع شعبه كامل ثقتهم في شخصه. بينما تقلّ ثقتهم في النظام ومؤسساته الرسمية والخاصة.
وهكذا، أصبحت آراء بوتين ومخططاته السياسية العامل الأكثر حسماً في سياسة روسيا الخارجية. فإذا كانت عبارة «لا وجود لروسيا من دون بوتين»، مبالغاً فيها، فإن عبارة «ما يريده بوتين تريده أيضاً روسيا»، تعكس دقة الوضع بحسب رأيي. دعونا أولاً نلاحظ الرجل الذي اهتم بروسيا طوال 15 سنة لإعادة إحيائها بعيداً من الهيمنة الأميركية على السياسة العالمية، جنباً إلى جنب مع سياسة واشنطن المتبعة للتأثير على سياسة روسيا الداخلية. كان عليه أن يفهم خصمه جيداً، كذلك طبيعة المعركة، وإلا لما كان استطاع الصمود طويلاً.
سمحت روسيا لنفسها برفع مستويات المواجهة مع الولايات المتحدة رويداً رويداً حتى وصلت إلى مرحلة معينة. فعلى سبيل المثال، لم تتفاعل روسيا مطلقاً مع المحاولة الأولى للثورة الملوّنة في أوكراينا عامي 2000 و2002 في حالة غونغادزيه 3 ، وفضيحة الشريط المسجل 4 ، واحتجاجات كوشما غير الأوكراينة 5 .
اتخذت روسيا موقفاً معارضاً، ولم تتدخل في الانقلابات التي حدثت بين تشرين الثاني 3003 وكانون الثاني 2004 في جورجيا، وفي أوكرانيا بين كانون الثاني 2004 وكانون الثاني 2005. أما في عام 2008، فقد استخدمت روسيا قواتها العسكرية ضدّ جورجيا ـ حليف الولايات المتحدة في أوسيتيا وأبخازيا ـ وكذلك، أظهرت القوات الروسية عام 2012 استعدادها لمواجهة الولايات المتحدة وحلف شمالي الأطلسي في سورية.
روسيا وأوكرانيا
بدأت روسيا عام 2013 باتخاذ تدابير اقتصادية ضدّ نظام فيكتور يونوكوفيتش، الذي ساهم في إلحاق ضرر بمصالح النظام الروسي بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي.
لم يكن في إمكان روسيا إنقاذ أوكراينا من الانقلاب، وذلك بسبب لؤم القادة الأوكرانيين وجبنهم وغبائهم، ليس فقط يانوكوفيتش، إنما جميعهم من دون استثناء. وبعد الانقلاب المسلّح في كييف في شباط 2014، دخلت روسيا في مواجهة حقيقية مع واشنطن، وتدهورت العلاقات بشكل دراماتيكي إلى حدّ التخوّف من إمكانية إعلان الدخول في مرحلة الحرب النووية.
وهكذا، سيعمل بوتين ـ وفي أيّ وقت ـ على ضبط مستوى المواجهة مع الولايات المتحدة بما يتلاءم مع قدرات روسيا على الاحتمال. وهي البلاد التي لا تضبط مستوى المواجهات حالياً، علماً أنها تنوء تحت حمل حرب العقوبات، حرب الأعصاب، حرب المعلومات، الحرب الأهلية في أوكرانيا، والحرب الاقتصادية، ويؤمن بوتين بأن روسيا ستكسب الحرب.
هذا هو التوقع الأول، ما يريده بوتين وما يتوقعه. يتوقع أن يربح المعركة. وبالنظر إلى أنه ينتهج دقيقاً، ويسعى جاهداً إلى استباق أيّ مفاجآت، سنكون متأكدين أنه عند اتخاذ القرار بعدم التراجع تحت ضغط من الولايات المتحدة، لا بل للردّ من قبل القيادة الروسية التي تتمتع بضمانات ـ عالية التوقعات ـ لانتصارات مضمونة.
وأودّ أن أشير إلى أن قرار الدخول في مثل هذا الصراع مع واشنطن، لم يُحسم عام 2014، ولا حتى عام 2013. بل إن حرب 8 آب 2008، شكلت تحدّياً بعدم ترك الولايات المتحدة من دون عقاب. وبعد ذلك، أثارت كلّ مرحلة من المواجهة عدداً من الرهانات. فما لبثت قدرات الولايات المحدة تتقلّص تدريجياً بين عامي 2008 و2010، ليس فقط عسكرياً واقتصادياً، إنما أيضاً على كافة المستويات، بينما تشهد روسيا تطوراً ملحوظاً. وبعبارة أخرى، فإن مواجهة مفتوحة، تسقط فيها جميع الذرائع، ويفهم الجميع بأن الحرب الجارية ينبغي أن يُعمل على تأخيرها قدر الإمكان، وقد يكون من الأفضل تجنب حدوثها بالكامل.
ومع كلّ سنة تمضي، تضعف الولايات المتحدة وتقوى روسيا أكثر فأكثر. إنه تطوّر طبيعي وممكن الحدوث. وباستطاعتنا أن نجزم أنه ـ وبين عامَي 2020 و2025 ـ ستنتهي الهيمنة الأميركية ومن دون حدوث أيّ مواجهات، وسنوجه حينذاك النصائح لواشنطن حول السبل الأخرى التي عليها انتهاجها بهدف درء تراجعها الداخليّ الحادّ على كافة المستويات، لا في مسألة كيفية حكمها وإدارتها للعالم.
وبالتالي، فإن رغبة بوتين الثانية تبدو واضحة للغاية: الحفاظ على السلام ومظاهره لأطول فترة ممكنة. فالسلام مهم جداً بالنسبة إلى روسيا، إذ إن شروط هذا السلام ليس باهظة، فبمقدورها تحقيق النتائج السياسية نفسها إنما في أحوال جيوسياسية أفضل. هذا هو سبب امتداد صفة «غصن الزيتون» إلى روسيا. أما كييف ومجلسها العسكري فسينهاران مع توقيع شروط السلام العالمي في الدونباس، فكلّ الأنظمة المالية العالمية التي ابتدعتها الولايات المتحدة محكوم عليها بتدمير ذاتها. وبهذا، تكون تصرفات روسيا تتناغم باقتدار مع قول صن تسو المأثور: «إن أعظم انتصار هو ذلك الذي لا يتطلّب معارك».
إنه لمن الواضح أن من يقود واشنطن ليسوا مجموعة من البلهاء، بغضّ النظر عما يُقال في روسيا حول هذه المسألة في البرامج الحوارية أو المقالات المكتوبة. فالولايات المتحدة، تفهم بدقة حقيقة الموقف التي وضعت نفسها فيه، كما أنها تدرك تماماً أنه ليس في نيّة روسيا تدميرها، إنما التعاون معها على أنهما متساويين. وحتى مع فهمهم هذا، فإن الأوضاع: السياسي والاجتماعي والاقتصادي في الولايات المتحدة، لا تسمح لهم بقبول مثل هذ التعاون. إن انهياراً اقتصادياً وانفجاراً اجتماعياً في طريقهما إلى الحدوث في الولايات المتحدة، على رغم دعم موسكو وبكين ، حتى قبل أن يتسنى لواشنطن القيام بالإصلاحات الضرورية، خصوصاً إذا ما أخذنا بالاعتبار الإصلاحات التي على الاتحاد الأوروبي القيام بها في الوقت عينه. وعلاوةً على ذلك، فإن النخبة السياسية الأميركية التي اعتادت الهيمنة على مدى ربع قرن، لن تتفهم أبداً إمكانية أن يجرؤ أحد على تحدّيها ومواجهتها.
فمجرّد التفكير بأن هؤلاء الذين اعتادوا تقرير مصير الشعوب الوضيعة، أنه من المحتمل التفاوض معهم والجلوس معهم إلى طاولة واحدة، هي فكرة ـ بحدّ ذاتها ـ غير محتملة. وعلى عكس روسيا التي تنشد السلام كي تحقق تطورها، تعتبر الولايات المتحدة الحرب أمراً حيوياً وأساسياً لوجودها. وفي المبدأ، فإن أيّ حرب هي صراع على الموارد. والفائز التقليديّ هو من يضع يده على العدد الأكبر من الموارد، وفي نهاية المطاف، يمكن تعبئة المزيد من القوات، وبناء المزيد من الدبابات والسفن والطائرات. وحتى أولئك المحرومين استراتيجياً، ربما يحوّلون النصر تكتيكياً لمصلحتهم على أرض المعركة، تماماً كما حدث في حروب الإسكندر الكبير، وفريدريك العظيم، وكذلك حملة هتلر بين عامَي 1939 ـ 1945.
هوامش
1 «شارع موسكو» حيث يقع مقر الإدارة الرئاسية الروسية.
2 «مربّع موسكو» حيث تقع الوزارة الروسية للشؤون الخارجية.
3 جورجي غونغادزه: صحافي ومخرج سينمائي جيورجيّ المولد، اختطف وقتل عام 2000.
4 اندلعت «فضيحة الكاسيت» عام 2000 مع الإفراج عن الأشرطة الصوتية التي ناقشها ليونيد كوتشما بحجة إسكات غونغادزه للإبلاغ عن قضايا في الفساد على مستويات عالية.
5 نتيجةً لـ«فضيحة الكاسيت»، نُظّم احتجاج شامل مناهض لكوتشما في أوكرانيا في الفترة بين 2000 و2001.