السياسة التربوية وبناء المواطن 1

د. نسيب أبو ضرغم

السياسية التربوية وبناء المواطن، عنوان يستبطن إشكالية، هي واحدة من عدة إشكاليات تعيق تحوّل لبنان السلطة ولبنان الطوائف الى لبنان الدولة الحديثة ولبنان الشعب بالمعنى التاريخي والحضاري.

أين هي الاشكالية المشار اليها؟ هل هي في إمكانية خلق مواطن في لبنان! وهل من الممكن وضع سياسة تربوية لبنانية تستهدف خلق مثل هذا المواطن؟ وإذا ما وضعت مثل هذه السياسة، هل يمكن ان تطبق؟

اننا سوف نتبع المنهجية التالية، في بحث الإشكالية المطروحة.

أولاً: المواطنية… محتواها وصفاتها؟

ثانياً: المعوقات التي تحول دون قيام المواطنية في لبنان؟

ثالثاً: نتائج غياب المواطنية على مستوى وعي الفرد في لبنان كما على مستوى وعي الجماعة الطائفية ـ المذهبية ـ العشائرية…

رابعاً: انعكاس ذلك على السياسة التربوية.

خامساً: استخلاص الرؤية.

أولاً: المواطنية… محتواها وصفاتها

المواطنية برأينا مصطلح يطلق على صفة العلاقة القائمة بين الفرد والوطن من حيث الانتماء المباشر للفرد الى وطنه نتيجة وعي وطني عام.

1 ـ في المحتوى: من الضروري القول إنّ الأمر يتعدّى في محتواه الانتماء الى الجغرافيا فقط، ذلك أنّ الانتماء الوطني يتضمّن اربعة أبعاد هي برأينا التالية:

أ ـ الانتماء الى الجغرافيا الوطنية.

ب ـ الانتماء الى التاريخ الوطني.

ج ـ الانتماء الى الحضارة الوطنية.

د ـ الانتماء الى الجماعة القومية في صيرورتها.

بهذا المعنى لم يعد يقتصر انتماء الفرد الى رقعة جغرافية حتى يكتسب صفة المواطنية. اذ يمكن أن يدّعي الفرد الطائفي او المذهبي أو العشائري انتماءه الى رقعة جغرافية ويبقى ولاؤه لطائفته أو مذهبه أو عشيرته كما هو حاصل في لبنان. حتى يكتسب الفرد صفة المواطن، عليه أن يشعر من أعماقه بالانتماء الى الرقعة الجغرافية الوطن والى التاريخ الوطني كاملاً، والى الحضارة القديمة المنتوجة من وجوده التاريخي وصراعه، وايضاً شعوره بالانتماء الى الجماعة القومية في تعاقب أجيالها منذ الوجود الأول وحتى انطفاء الشمس.

2 ـ في الصفة : للمواطنة أربع صفات أساسية:

أولاً: فرديتها، هي شعور فردي بالانتماء ـ ينبع من الفرد.

ثانياً: مباشرتها: هي مباشرة، بمعنى أنها تتولد في الذات الفردية نحو المجتمع برمته دون ان تكتسب اية صفة جمعية، collective أخرى ـ طائفية أم مذهبية أم عشائرية…

ثالثاً: شموليتها: بمعنى أنها في طبيعتها تتعلق وتندمج في المحتوى الذي أشرنا اليه أعلاه في أضلاعه الأربعة، دون أن تقف عند حدود مناطقية او اتنية.

رابعاً: انفعالها في السياق التاريخي العام للمجتمع وربما تكون هذه الصفة أرقى صفات المواطنة وأكثرها فعلاً وتأثيراً، بحيث يؤمّن هذا الانفعال والفعل في الصيرورة القومية العامة، العبور من محدودية الفعل الإنساني الفردي في حدوده الفردية الى الفعل الإنساني المجتمعي الذي يشكل فيه الفرد عبارة في النص القومي العام الذي لا ينتهي طالما انّ الجماعة القومية باقية. هذه العبارة الباقية والتي ترفد هذا النص بالمعنى الباقي أيضاً تستبطن قيمة الخلود الفردي الناتج عنه سلامة الترابط والصلة بين الفرد المواطن والجماعة القومية.

بهذا المعنى يصبح الفرد مواطناً، وبذلك يكون قد استحال هذا المواطن فعلاً حضارياً متواصلاً ومتداخلاً مع سياق تاريخي للجماعة القومية، ويكون بذلك قد خرج من محدودية الإنسان الفرد المنطوي في أفقه الضيق الفردي ـ العائلي ـ المذهبي ـ الطائفي ـ المناطقي… الى إطلاقية الوجود المجتمعي الأبدي الذي لا يزول. وهذا يجعل المواطنة في ذورة تألقها. وبذلك تكسب هذه المواطنة صفتها الأرقى، في أنها الدلالة على الارتباط المباشر للفرد بوطنه وأمته مسقطاً كلّ الانتماءات الأخرى لمصلحة الانتماء الوطني العام في أبعاده الأربعة.

ثانياً: المعوقات التي تحول دون قيام المواطنة في لبنان

إننا نميل الى الاعتقاد بأنّ المعوقات الأساسية التي تحول دون قيام المواطنة بالمعنى الذي أشرنا اليه هي خمسة:

أولاً: المعوق السوسيولوجي ـ البنيوي المتعلق بالمجتمع اللبناني.

ثانياً: المعوق الميثاقي ـ الدستوري ـ القانوني والعرفي والمتعلق بتشريع الواقع الطائفي ـ المذهبي ـ العائلي…

ثالثاً: المعوق المؤسساتي المتعلق بغياب المؤسسات الوطنية الشاملة والقومية.

رابعاً: المعوق السياسي، المتعلق بالسياسات المشوّهة التي تضعها الدولة من جهة وبانعدام السياسات الجامعة الموحدة الوطنية من جهة ثانية.

خامساً: تعذر وجود سلطة سياسية لها مصلحة في الخروج من هذا المأزق الطائفي ـ المذهبي ـ العشائري…

المعوق الأول: التركيب السوسيولوجي للمجتمع اللبناني

الثابت من الوجهة التاريخية، أنّ المجتمع اللبناني مركب من عناصر هي كناية عن طوائف ومذاهب واتنيات، وانْ كانت الطوائف والمذاهب قد طغى حضورها السياسي والثقافي على الاتنيات كالأكراد والأرمن . واننا لسنا الآن في صدد تعداد الأسباب التاريخية التي دفعت لتكون الهيئة الاجتماعية في لبنان على هذا النحو، انما من المؤكد انّ اللبنانيين يتكوّنون من ثمانية عشرة عنصراً، مواطناً وليس من أربعة ملايين فرد. هذا الواقع الذي كان قائماً قبل الانتداب الفرنسي كحاصل اجتماعي تاريخي، قام المنتدب الفرنسي لقوننته واعطائه بعداً تأسيسياً في عملية بناء الدولة اللبنانية آنذاك، الا أنه للأمانة التاريخية ينبغي الاشارة الى أنّ المندوب السامي الفرنسي هنري دي جوفنيل الذي أصدر بتاريخ 28 آذار 1926 القرار رقم 261، وهو مشروع عهد به للمحاكم المدنية بأمر البت في النزاعات المتعلقة بالأحوال الشخصية… لكن الاحتجاجات التي صدرت عن اللبنانيين اضطرت المفوض السامي الى إلغاء القرار، وكذلك الجنرال ويغان عام 1924 كان قد كلف لجنة مؤلفة من مستشاري المندوب السامي لوضع مشروع قانون للأحوال الشخصية، وبعد أن وضع المشروع رفضته الطوائف اللبنانية بشدة معتبرة أنه يحدّ من «الحصانات والامتيازات» التي تتمتع بها الطوائف من قديم الزمان، ولا بدّ هنا من ذكر المحطات القانونية التي رسخت وجود الطوائف والمذاهب كمكوّنات في جسم الدولة اللبنانية.

أولاً: اللجنة التشريعية عام 1920 عيّن أعضاءها الفرنسيون على القاعدة الطائفية.

ثانياً: المجلس التشريعي عام 1922 تألف من نواب منتخبين على أساس طائفي.

ثالثاً: دستور 1926 وقد تضمّن عدة مواد منها بشكل تورية ومنها بشكل صريح كلها تؤسّس دستورياً للطوائف كمكونات سياسية ـ تأسيسية في المجتمع اللبناني.

أ ـ المادة التاسعة من الدستور 1926 «حرية الاعتقاد مطلقة… احترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح المدنية».

ب ـ المادة العاشرة «… لا يمكن ان تمسّ حقوق الطوائف من جهة إنشاء مدارسها الخاصة».

ج ـ المادة 95 ـ وفيها النص الواضح حيث تقول: «بصورة موقتة وعملاً بالمادة الأولى من صك الانتداب والتماساً للعدل والوفاق تمثل الطوائف بصورة عادلة في الوظائف العامة…»

د ـ قرار 60 ل.ر الصادر بتاريخ 13/3/1936 الذي حدّد الطوائف غير المحمدية مضيفاً اليها «الطائفة الاسرائيلية».

هذا التأسيس الدستوري والقانوني والنظامي للوجود الطائفي المذهبي في لبنان، لا يزال يشكل القاعدة المسار للحياة السياسية والاجتماعية في لبنان حتى اليوم.

ولقد قال الدكتور ادمون رباط في مؤلفه «التكوين التاريخي للبنان السياسي والدستوري الجزء الأول ص 113 ما يلي:

«إنّ النظام الطائفي ـ أو المذهبية كما درج الناس خطأ على تسميته ـ هو اليوم من المجتمع اللبناني بمثابة بنية تحتية».

ان الطائفية في لبنان حيث تشكل العنصر التأسيسي في قيام الكيان والدولة، ومن حيث أنها تشطب وجود الفرد كفاعلية سياسية مستقلة، وتفرض عليه الانطواء السياسي والثقافي والاجتماعي في نطاق الطائفية، هذه الطائفية أعدمت نهائياً وجود المواطنة، لأنها ألغت وجود المواطن بالمعنى الصحيح، وأصبح «المواطن» فرداً من رعية، استطاعت في سياقها التاريخي ان تخلق لديه وعياً مشابهاً لماهيتها، وعياً مزيّفاً، وذلك لأنّ هذه الطوائف أصبحت ذات وجود مميّز وقائم بذاته وتاريخي كما يقول أيضاً الدكتور ادمون رباط: «فالواقع أنّ الشعب اللبناني مؤلف من طوائف متميّزة وقائمة بذاتها، يصحّ وصفها بأنها تاريخية بموجب الحقوق الوضعية» ادمون رباط ـ المرجع السابق ص 112 .

والجدير ذكره، هو أنّ المسار التصاعدي للوتيرة الطائفية آخذ بالترسّخ، فلم يعد الآن كما كان في البدايات التكوينية للدولة اللبنانية في العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، بل بدأ يتضمّن أبعاداً كثيرة أغنت الواقع الطائفي وجعلته أكثر امتلاء وأكثر تمايزاً واختلافاً، حيث بدأت كلّ طائفة منذ بداية تكوين الدولة اللبنانية ان يكون لها مدارسها، وأحوالها الشخصية وإعلامها، وجامعاتها، وبالتالي ثقافتها… ونمط حياتها، وفي ذلك ذروة الخطر.

وفي التحليل، نميل الى الاعتقاد أنّ هذا المسار الذي وصلت اليه الطوائف والمذاهب اللبنانية إنما نشأ عن عاملين هما:

الأول: الشعور بالتمايز.

الثاني: الشعور بالاستقلالية.

وهذان الشعوران شكلا الجذر الذي أخذ يغذي شجرة الطائفية في لبنان، بدءاً بالأحوال الشخصية والمدارس الدينية ـ الطائفية ـ المذهبية، ومروراً بالجامعات والإعلام الخاص وانتهاء بتنفيذ المشاريع السياسية الخاصة بكلّ طائفة.

وبناء عليه، فإذا نظرنا الى الواقع اللبناني بشكل شامل، نرى أنه كناية عن جغرافية غير ثابتة المساحة، فحيناً هي 10.452 كلم مربعاً وحيناً من كفرشيما الى المدفون وحيناً مساحة تقوم عليها الكانتونات وحيناً دول فدرالية.

هذه الجغرافية توجد عليها مجموعات طائفية ـ مذهبية لكلّ منها شخصيتها التي تجهد أن تتمايز بها عن سواها، الشخصية التي يطمح القيّمون على الطوائف والمذاهب أن تكون مرجع الولاء للأفراد المنتمين إلى هذه الطوائف، ومرجع الانتماء أيضاً، ويصبح هؤلاء الأفراد كائنات بشرية لا تجد معناها السياسي خارج أسوار الطائفة أو المذهب، كما لا يتكوّن لديها شعور بالانتماء الى المؤسسات الدولتية tatique العائدة الى الدولة خارج معبر الطوائف. ومن هنا يغيب مفهوم المواطنة ويحلّ مكانه مفهوم الكتلة المذهبية. فالثمانية عشرة كتلة مذهبية في لبنان هنّ حقيقة الوجود الاجتماعي البنية التحتية التي قامت عليها كلّ الأشكال السياسية والإدارية والاجتماعية والثقافية والقانونية البنية الفوقية . وسط هذا البطش الطائفي ـ المذهبي، هل يعقل أن يكون ثمة مواطنة؟ في ظلّ هذا التشويه البنيوي القائم؟ في ظلّ وجودات طائفية هي كقطع الفسيفساء التي تتقارب ولا تلتحم، تحتوي كائنات بشرية ترى معناها داخل كتلتها الطائفية، وترى سياساتها داخل هذه الكتلة، وكذلك أفقها وسقفها ومصالحها.

ليست الوجودات الأخرى الكتلة الطائفية الأخرى في أحسن الحالات حالات السلم سوى منافس لها، تهادنه حتى تستجمع قوتها وتبطش به، وهي في كلّ الأحيان في حالة ارتياب عُصابي منه.

أما الوطن فهو الجغرافيا التي ترى الكتلة انها ممسكة بها ومتسلطة عليها، وما عداها من القطع الجغرافية الأخرى فهي خارج نطاق الاهتمام.

عندما يصبح الفرد ابن الطائفة وهي كيانه، ومصيره، وثقافته وسقف مصالحه، وغايته يبطل بالمطلق أن يكون مواطناً هو ليس أكثر من قاطن، مقيم، وعند هذا الحدّ نرى لماذا سقطت المواطنة في لبنان.

المعوق الميثاقي: الدستوري ـ القانوني والمتعلق بتشريع الواقع الطائفي ـ المذهبي

نميل الى الاعتقاد بأنّ المعوقات في وجه قيام المواطنة على مستوى النص هي ثلاثة:

أ ـ المعوق الميثاقي: وثيقة الوفاق الوطني اللبناني

لا بدّ من الإشارة بدءاً إلى أنّ اتفاق الطائف قد تمّ على أيدي ممثلي الطوائف في البرلمان اللبناني، وذلك بعد حرب طائفية الى حدّ بعيد دامت أكثر من 15 عاماً، بالتالي فالوثيقة لم تخرج عن المفاهيم الطائفية في الحكم وتوزُّع الرئاسات أو في انبثاق السلطة عبر قانون للانتخاب الى حدّ بعيد، وفي توزيع وظائف الفئة الأولى.

واننا بمقارنتنا للوثيقة نرى لزوماً التوقف عند النقاط التالية، النقاط التي تستبطن تكريساً للطوائف كمكوّنات تأسيسية في الدولة اللبنانية.

اولاً : البند ي من المبادئ العامة للوثيقة:

يقول البند ي : «لا شرعية لأيّ سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك». هذا البند يمثل في نظرنا جوهر الفلسفة الدستورية والقانونية للدولة اللبنانية فهو للوهلة الأولى يوحي بقاعدة السلم الأهلي والرغبة في تحصين المجتمع على قاعدة العيش المشترك. لكن في التحليل، يريد هذا النص أن يقول: ينبغي ان يبقى مفهوم الشراكة هو المفهوم المتحكم بحياة اللبنانيين السياسية والاجتماعية.

انّ خطورة هذا المفهوم تكمن بنظرنا في النواحي التالية:

أ ـ الشراكة تقوم بين مكوّنات تتصف بالاستقلالية والذاتية.

ب ـ العيش المشترك، ليس أكثر من مساكنة cohabitation بين أفرقاء كلّ منهم يملك حق العصمة والطلاق ليس أبغض الحلال لديه.

ج ـ الاشتراك في الحياة. يؤكد مفهوم الانقسام والتشظي من الوجهة الأساسية، ومفهوم المشاركة والتعاون من الوجهة الشكلية.

د ـ أيّ تشريع يمكن أن يلغي ما أوردناه أعلاه، أي أن يلغي هذه الاستقلالية الثقافية والسياسية… وحتى الاقتصادية، تعتبره وثيقة الوفاق الوطني لا شرعياً. أي أنّ الشرعية الميثاقية حسب وثيقة الوفاق الوطني تقوم على تأييد التعدّدية الطوائفية والمذهبية مع كلّ ما تتضمّنه من تباعد في المشاريع والاتجاهات.

وإنني أعتقد بأنّ هذا البند ي هو تعبير يحمل كثيراً من الانسجام مع ثقافة المؤتمرين في الطائف مع الواقع الطوائفي المذهبي القائم، ويشكل جوهر الفلسفة الميثاقية للدولة اللبنانية التي قامت على أسس وثيقة الوفاق الوطني، التي تؤكد شخصية الطوائف على أنقاض شخصية المواطن، مما يساهم بشكل حادّ بإلغاء المواطنة في لبنان.

ثانياً: البند الخامس من باب الإصلاحات السياسية

ينص البند الخامس على ما يلي: «الى ان يضع مجلس النواب قانون انتخاب خارج القيد الطائفي توزع المقاعد النيابية وفقاً للقواعد التالية:

أ ـ بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين.

ب ـ نسبياً بين طوائف كلّ من الفئتين.

ج ـ نسبياً بين المناطق».

تبدو روحية الاتفاق الطوائفي ظاهرية من نص البند الخامس الوارد أعلاه، اذ كان بإمكان المؤتمرين لو أنهم فعلاً يريدون نقل لبنان الوطن والشعب، من مستنقع الطائفية، أن يتفقوا في ما بينهم على ضرورة المباشرة بوضع قانون انتخاب خارج القيد الطائفي، لا أن يحيلوا هذه المهمة الى المستقبل. وبالتالي يؤكدون القاعدة «الذهبية» لديهم وهي التأسيس على الوجود الطائفي بتوزيع المقاعد النيابية وفق فلسفة تؤكد وتثبت الركائز الاولى لبدايات الدولة اللبنانية. وسوف نقاربها كالتالي:

في البند أ ـ الذي يشير الى التساوي بين المسيحيين والمسلمين في توزيع المقاعد النيابية. هو بذلك يؤكد على اعتبار الانشطار الطائفي الثنائي أساسياً في عملية بناء الدولة. فعدالة التوزيع بالتساوي بين الطائفتين تخفي توكيداً على ضرورة الاستمرار في اعتبار الطوائف معطى تأسيسي في الدولة اللبنانية.

في البند ب ـ يظهر في البند ب مدى حرص البعد الطائفي التفتيتي على أن يكون المجتمع اللبناني مجتمعاً للمذاهب، فلم يكتف بالتوزيع بين الطائفتين الكبيرتين، بل تعمّد إعطاء المذاهب في كلّ منها وجوداً سياسياً مقونناً وموثقاً، وفي هذا تحلّ الروحية التي قامت واستمرّت في تفاصيل الحياة الدستورية ـ والقانونية في لبنان، وأعني المذهبية والطائفية، وها هي الآن ترقى الى مرتبة الميثاقية.

في البند ج ـ ولعلّ أخطر ما في هذا البند، هو توزيع الجغرافيا على المذاهب فليس التوزيع النسبي مقتصراً على التمثيل المتعلق بالأشخاص بل لا بد في نظر المؤتمرين من أن تدمج المناطق في لعبة النسبة الطائفية، وهكذا يرزح الوطن الجغرافيا والإنسان الجماعة تحت وطأة الثقافة الطائفية المتوالدة والآخذة بالتجذر أكثر في عمق التربية الحياتية في لبنان. وبذلك يسقط ايضاً معنى المواطنة.

وما أتى في البند السادس من الإصلاحات السياسية، والذي أشار الى زيادة عدد النواب من 99 نائباً الى 108 نواب مؤكداً ضرورة توزيع الزيادة مناصفة بين المسحيين والمسلمين، ما أتى في هذا البند ليس أكثر من استكمال للبند الخامس ولروحية وثيقة الوفاق.

ب ـ المعوق الدستوري

بالرغم من التعديل الذي طاول المادة 95 من الدستور، إلا أنّ الروحية الطائفية ما زالت أساسية في أحكامها وذلك في الفقرتين أ وب ففي الفقرة أ نصت المادة 95 صراحة على «تمثيل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة». على قاعدة المناصفة بين الطائفتين الكبيرتين الاسلامية والمسيحية مع مراعاة التوزيع داخل كلّ طائفة.

أما في الفقرة ب فلقد أكدت المادة 95 على ضرورة أن تكون وظائف الفئة الأولى مناصفة بين المسلمين والمسيحيين.

يبدو انّ الصفة الموقتة للمادة 95 التي ظهرت بها في دستور 1926 ودستور 1943 حتى ما قبل التعديل بتاريخ 21/9/1990 أصبحت أساسية ودائمة.

ولا يخفى ما لهذه المادة من مفاعيل انْ على مستوى القانون، والتي سنأتي على ذكرها لاحقاً أو على مستوى الأعراف المطبقة في التعيينات الإدارية. ما نوّد الإشارة اليه، هو أنه قد كرّست هذه المادة حضور الطوائف كمكوّنات أساسية تأسيسية على حساب المواطنة وفعلها في العمل الوطني العام.

ج ـ المعوق القانوني

لعلّ أهمّ مثال على المعوق القانوني هو قانون الانتخاب، فلهذا القانون قيمة أساسية في الصيرورة الوطنية، لأنه القانون الوحيد الذي ينتج السلطة. وبالتالي يتوقف عليه الاتجاه العام الذي سيسلكه المجتمع اللبناني في الحياة السياسية بكافة مستوياتها وجوانبها.

فإذا كان القانون الانتخابي طائفياً كانت السلطة المنتخبة بفضله طائفية والعكس صحيح. وعندما تكون السلطة الاشتراعية طائفية، سوف ينسحب ذلك على السلطة الإجرائية والقضائية وعلى الإدارة وكافة نواحي الحياة الوطنية.

من هنا تأتي أهمية قانون الانتخاب في بلد مثل لبنان، القانون الذي شكل المفتاح السحري لباب التطور الديمقراطي ولترسيخ مفاهيم المواطنة. فإذا استعرضنا كافة قوانين الانتخاب في لبنان منذ قانون 26/4/1960 وما قبله، أيّ منذ الاستقلال، والقانون رقم 154 تاريخ 22/7/1992 إضافة الى كافة التعديلات التي كانت تجري على هذا القانون مع كلّ دورة انتخابية، اذا ما استعرضنا ذلك يتبيّن لنا أنه يوجد ثابت واحد لا يتغيّر هو الأساس الطائفي الذي بات يشكل جوهر كافة قوانين انتخاب أعضاء المجلس النيابي. فالدوائر الانتخابية يجري العمل عليها قدر الإمكان ان تضمّ ناخبين من لون طائفي واحد، والمقاعد النيابية موزعة حسب الطوائف، وهذا ما يعزز وجود الطوائف والمذاهب كأشخاص مستقلي الشخصية، اشخاص تستوعب الأفراد وتهدر كثيراً من حقهم في العبور الى كافة المكوّنات والتفاعل معها لتشكيل نسيج وطني عام واحد.

إذا كان التركيب السوسيولوجي للمجتمع اللبناني طوائف ـ مذاهب ـ عشائر… هو البنية التحتية، فإن قانون الانتخابات للمجالس النيابية هو أدقّ تعبير عن البنية الفوقية وأكثر وفاء في تجسيد فلسفة الطوائف والمذاهب في ممارستها للسلطة العامة.

وحتى يصبح للبنان قانون انتخابي على مساحة الوطن وخارج القيد الطائفي، سيبقى لبنان جغرافيا الصراعات الأهلية، ويبقى قانون الانتخاب الطائفي المسؤول الأول بالمعنى القانوني ـ السياسي عن هذا المسار التدميري للمجتمع اللبناني، مواطنة واقتصاداً واستقراراً.

د ـ المعوق العرفي

من الملاحظ انّ للأعراف في لبنان قوة وفعالية تفوق قوة النصوص سواء الميثاقية منها أم الدستورية أم القانونية. وفي نظرنا تعود قوة الأعراف هذه الى تأصّل وعمق الثقافة الطائفية بين اللبنانيين مسؤولين وغير مسؤولين. وسنضرب على ذلك الأمثلة.

1 ـ ما تعلق بوثيقة الوفاق الوطني:

أ ـ الفقرة د من المبادئ العامة تقول:

«الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستورية». مصطلح الشعب يعني مجموع المواطنين كأفراد، فهل المواطنين كأفراد هم مصدر السلطات، أم الطوائف، والمذاهب كأشخاص سياسية مستقلة.

ب ـ في الفقرة ط من المبادئ العامة:

«… فلا فرز للشعب على أساس أيّ انتماء كان…» كيف يترجم هذا النص الميثاقي في التعيينات الإدارية القائمة على الأعراف والتي تنظر الى اللبنانيين على أنهم أكثريات وأقليات؟

ج ـ الفقرة ج من المبادئ العامة تقول:

«لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية تقوم على احترام الحريات العامة… وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز او تفضيل».

كيف يترجم هذا النص الميثاقي، وقد كرّس العرف طائفية الرئاسات الثلاث، وطائفية حاكمية مصرف لبنان، وقيادة الجيش وقيادة الدرك ورئاسة مجلس القضاء الأعلى ورئاسة ديوان المحاسبة الخ…

أين يمكن ان تجد دوراً للمواطنة وقد توزعت المراكز على الطوائف كالأسلاب. المواطنة انتماء عام شامل فوق التمايز والاختلاف والمذاهب، ولا يحميها الا النظام العلماني. ولا يلغيها الا النظام الطائفي.

في المحصلة، نرى كيف أنّ العرف يتجاوز النص، حتى الميثاقي منه، وذلك يعود في نظرنا الى الثقافة الطائفية التي تقف وراء النص وتفرض ظلها عليه.

د ـ في الفقرة ذ الغاء الطائفية السياسية ـ البند أ يرد ما يلي: «الغاء قاعدة التمثيل الطائفي واعتماد الكفاءة والاختصاص في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة والمصالح المستقلة وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني باستثناء وظائف الفتئة الأولى فيها وفي ما يعادل الفئة الأولى وتكون هذه الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين دون تخصيص أية وظيفة لأية طائفة».

هذا النص الميثاقي واضح، فهل يجري تطبيقه في نصه وروحه، المراقب لحركة التعيينات والمناقلات الإدارية، وكيف يجري الصراع بين المرجعيات الطائفية والمذهبية حول تعيين رئيس دائرة أو رئيس مصلحة او قائمقام أو أقلّ من ذلك على قاعدة أنّ هذا المركز أو ذاك هو للطائفة الفلانية بالعرف. وبالعرف تعود الطوائف لتلتهم النص الميثاقي وما تبقى من مواطنة يمكن أن توجد في يوم ما.

فهل غير المناخ الثقافي الطائفي المهيمن من يقف وراء نفاذ العرف؟

2 ـ ما تعلق بالدستور

تقول المادة السابعة من الدستور: «كلّ اللبنانيين سواء لدى القانون وهم يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية ويتحمّلون الفرائض والواجبات العامة دونما فرق بينهم»، هذا نص دستوري لنرى فعل الأعراف وما يمكن أن تفرضه من حقائق مادية وعملية في مواجهة النص.

أولاً: ليس صحيحاً أنّ كلّ اللبنانيين يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية وليسوا سواء لدى القانون، الأعراف تثبت ما نذهب اليه، فهل يحق لكل ّاللبنانيين أن يتبوأوا كلّ المراكز، أم أنّ بعضها مقتصر على أبناء طائفة معينة ولا يحق لأبناء الطوائف الأخرى مجرّد الحلم في الوصول الى مثل هذه المراكز. ألا يكون العرف هنا قد كسر القاعدة الدستورية، وأنهى المواطنة؟ اذ لو ان الانتماء هو للوطن والدولة فالوطن والدولة للجميع، لكن الانتماء هو للطائفة والمذهب وبالتالي فالدولة والوطن كلاهما للطائفة والمذهب.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى