«موطني يا توأم التاريخ»

جورج كرم

في هذا العالم الجميل، لكلّ مكان رونقه وروعته. ومن المؤسف أنّ السياسة العالمية حوّلت بقاعاً عدّة من العالم في عقولنا إلى مناطق تعتبر معادية أو مكروهة أو حتى بشعة، قبل أن تراها أعيننا. وهو شعور مبرّر. فلنأخذ مثلاً دول الاستعمار المعروفة منذ القدم، من دول أوروبا، إلى أميركا اليوم، التي تتربّع على رأس التسلّط والظلم. ومن المنطق ان يعتبر الذي لم يزر أميركا بعد أنّ الشعب الأميركي نسخة عن حكامه. وهو الذي انتخبهم ووضعهم في موقع القوة والقرار. والدعم الأميركي الظالم للكيان الصهيوني الغاصب لا بدّ أن يكون بالنسبة إلى بعض المحللين أو الأناس العاديين، نابعاً من نفسية ما لدى الناخب الأميركي انعكس غطرسة وتسلطاً لدى حاكمه المنتخب. لكن الصورة تبدو مختلفة جداً لو اختلط المرء بعدد كاف من الأميركيين «الأصليين»، وأعني بذلك الأميركيين من أصول بيضاء أوروبية، لأنّ السكان الأصليين في القارة الأميركية هم من «الهنود الاميرنديين» كما سمّاهم المستكشفون. وهولاء «الهنود» ينتمون إلى قبائل مختلفة لا علاقة لها بالهند الغربية أو الهند الشرقية، كما ارتأى كولمبوس زمنذاك، ويعاملون من قبل السلطات الأميركية كدخلاء أو حتى طفيليات يجب تحمّلها، يعطونهم القليل لكي يبقوا على قيد الحياة، ويحرمونهم السبل الحقيقية لتحسين ظروف عيشهم. ولو أخذنا كندا بالاعتبار مثلاً، لوجدنا انّ المواطن من سكان البلاد الأصليين من الهنود يتمتع بإعفاءات ضرائبية معينة، لكن المحميات المعطاة لهم لسنين خلت ضيقة تقع في أماكن صعبة الحياة فيها من حيث الموقع والبيئة، وهي بالكاد تتسع لبيوتهم الصغيرة ولو تمدّدوا كما يجب بقصد الاسترخاء لوجدوا أقدامهم تكاد تتخطى حدود المحمية ولا أراض زراعية بقيت لهم لاستثمارها بعدما كانوا ومنذ عدة قرون، يتمتعون بخيرات القارة بكاملها ويجولون في أرجائها. واليوم يمنع عليهم صيد الكركند المربح مثلاً في ولاية نيو برنزويك، وإقامة أنظمة مصرفية على طراز «أوف شور» في محمياتهم المختلفة التي أضفي عليه طابع الاستقلالية بالنصوص الدستورية فقط، وهي بعيدة عن هذا المفهوم كلّ البعد مع التنويه بأنّ حال السكان الأصليين اليوم أفضل بكثير من حالهم في منتصف القرن الماضي، حين ظلمتهم الكنيسة الكاثوليكية وحرمتهم لغتهم وأسماءهم وحتى أباءهم وأمهاتهم، وأعطتهم لآباء بيض بالتبني في محاولة لمحو حضارتهم بوساطة هذا التطهير العرقي «اللطيف»، أي بغير القوة العسكرية. ومن السذاجة أن يبرّئ المرء الشعوب من ارتكابات حكامها وانظمتها وإداراتها، وهناك شعوب بطبعها استعمارية، كالانكليز والفرنسيين مثلاً، وهذا ينعكس في مسيرتهم منذ الزمن القديم وحتى اليوم، وتطور الحياة ومفهوم حقوق الانسان. في هاتين الدولتين نتيجة الرخاء الاقتصادي بعدما نهبتا الهند وأفريقيا وجنوب شرق آسيا، ما جعل من النظام الداخلي فيهما أكثر رأفة وعدلاً ومساواة بين أبناء الشعب الواحد، سواء كانوا من المهاجرين أو من السكان «الاصليين»، مع التنويه أن الانكليز وعلى رغم وحشية تاريخهم الاستعماري، خصوصاً المجازر التي ارتكبوها في الهند وحتى نكبتنا في الجنوب السوري في فلسطين، كانوا مجتمعا على الصعيد الداخلي متجانساً عادلاً خالياً من العنصرية إلى حد كبير، فيما لم يتعلم الفرنسيون شيئاً من تاريخهم الاستعماري في شمال أفريقيا مثلاً، وهمّشوا أبناء الجزائر في مدنهم الفرنسية لدرجة أن تقوم قيامة الاخيرين بين الفينة والاخرى بسبب القوانين غير العادلة كمنع الحجاب وغير ذلك من الامور، وتمثل الامتعاض الأخير بمجزرة «شارلي إيبدو» التي نفذها فرنسيون من أصل جزائري، ناهيك عن «المهابيل الثلاثة» الرؤساء شيراك وساركوزي وهولاند المتعطشين إلى الدماء وكأنهم لم يتعلموا شيئاً من التاريخ، وما برحوا يعيشون زمن مجلات «آستيريكس» الكوميدية، يتغذون على الخنزير البرّي ويضربون أعداءهم بالهراوات، وطبعاً لئلا نحسب أن بريطانيا أضحت مملكة عطف وحنان على طراز الأم تيريزا في وداعتها وإحسانها، ما زلنا نذكر رئيس الوزراء السابق طوني بلير الذي تورط في حرب العراق ككلب أميركا الوفي حتى أذنيه، وها هو لعاب البريطانيين يسيل مجدّداً لحرب جديدة مع الارجنتين حول جزر «فولكلاند» كما يسمونها، أو «مالفيناس» كما يعرفها الارجنتينيون، ومن الصعب التعاطف مع أي من الطرفين مع التنويه أن رئيسة وزراء الارجنتين جريئة في دعم قضايانا، والحرب المرتقبة ليست في النهاية سوى حرب اقتصادية على نفط مكتشف في هذه البقعة من العالم.

ويحتار خبثاء حول كيفية وصول القطع الحربية البريطانية إلى «مالفيناس» هذه المرة لو وقعت الحرب، علماً أنّ السفن التي يشار إليها لم تعد موجودة لدى بريطانيا «العظمى» التي أضحت عسكرياً اليوم بحسب التعبير العامي «جلدة على عظمة».

وعلى رغم كل ما تقدّم، إن تجربتنا الشخصية والبلاد المشار إليها آنفاً لا ترتبط دائماً بموقف البلاد السياسي وتاريخها الاستعماري، وشعوب البلاد تلك هم مثل البشر جميعاً يطمحون إلى حياة مريحة سعيدة ويعملون لذلك. طبعا باستثناء الكيان الصهيوني الغاصب ومستعمريه، وأخص بذلك الشعب الأميركي وهو شعب كريم له بلاد غنية شاسعة ونستطيع التعلم من الأميركيين كثيراً، خصوصاً في مجال الصدق. وهم في معظمهم صادقون، والطبيعة الجميلة في بعض أنحاء بلادهم أمر مغر للاقامة أو للزيارة. والانكليز أيضاً لهم خصوصيتهم في الرقيّ في التعامل التجاري والانساني على مستوى العلاقات الشخصية وعلاقة الدولة بالفرد. وفي فرنسا الطعام الشهيّ والمشروبات الروحية اللذيذة العريقة كالشمبانيا مثلاً، وهذه مقاربة من منظاري الشخصي ولكل شخص مقاربته وأموره المحببة على أنواعها في بلاد العالم المختلفة. ويبقى الناس الذين نعرفهم ونحبهم في البلاد المتعدّدة أفضل صورة لنا عن تلك البلاد، ونعشق بلادهم بقدر ما نعشقهم والعكس أيضاً صحيح، لكنه ينطبق فقط على البلاد التي لم نختبرها بعمق ولم نتعرف إلى عدد كاف من أبنائها.

طبعاً تبقى بلادنا «توأم التاريخ» وقبلة إثمنا الكنعاني، تشتعل بنا الطائرة تصفيقاً وفرحاً وبهحة حالما تلمس إطاراتها أرض مدرج المطار في بيروت مثلاً، ولا يثلج قلوبنا سوى رؤية بلادنا والحياة فيها، لكن لبعضنا أجزاء من أجسادنا وقطرات من دمائنا متناثرة في بلاد عدّة تركناها لتبقى هناك إلى الأبد، معظمها في قلوب أناس تنبض بالحب المتبادل بيننا، والبعض الاخر في تراب من رحلوا وودّعناهم وأضحى ترابهم جزءاً منّا ومن أرضنا. ولكل بلاد تركنا فيها بعضاً منّا سواء في قلوب البشر أو في التراب أو الطعام أو الطبيعة قصة مع التاريخ يفتخر بها أبناؤها ويرون بلادهم من خلالها توأماً لتاريخ آخر يعبّر عن حقيقتهم.

أبو أليسار ـ كاتب سوري من جبل لبنان موقعه على الإنترنت:

www.gkaram.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى