صيف ملتهب من طرابلس حتى صنعاء وفلسطين

راسم عبيدات

حروب ومعارك طاحنة ستخاض على أكثر من جبهة عربية على مدار الصيف المقبل، ومشروع الفوضى الخلاقة الأميركي الذي يهدف إلى تفكيك الجغرافيا العربية وإعادة تركيبها على أسس: مذهبي وطائفي وثرواتي، يتقدم خطوات إلى الأمام، وبتسارع كبير إذا هزم السوريون وحزب الله في معركة القلمون. تلك المعركة التي ستكون لنتائجها أبعادها الاستراتيجية، خارج الفضاءين السوري واللبناني لتطاول كامل الإقليم، وكذلك هي الحرب العبثية والوحشية التي تشنّ على اليمن، والتي يبدو أن الحوثيين قد استوعبوا الضربات السعودية الهادفة إلى قتل كل ما يدبّ على الأرض، وتدمير كامل البنى المؤسساتية والاقتصادية والتحتية اليمنية والمشافي والمدارس والمطارات..الخ. وهم الان يقومون بنقل المعارك إلى داخل السعودية، ويبدو انه ـ في الأفق القريب ـ لا لحلحة أو فكفة للأزمات العربية التي وجدت بفعل ما يسمى «الثورات العربية»، والتي كان التجيير والاختطاف لها من قبل جماعة الإخوان المسلمين كأكبر جماعة ممتدة ومنتشرة جماهيرياً ومنظمة في العالم العربي، وبفعل حنفيات المال والبنى التحتية والمؤسساتية الدينية والاجتماعية والخدماتية التي انشأتها وراكمتها بفعل المال الخليجي وما تجمعه من مال بِاسم الدين من مختلف دول العالم. إذ أجريت عملية تزاوج لا شرعي بين الأميركيين أصحاب مشروع الفوضى الخلاقة، وجماعة الإخوان الطامحة إلى الحكم لخدمة مشروع حركة الإخوان المسلمين كأولوية على أي مشروع وطني أو قومي عربي، فهي لا تعترف بالمصالح الوطنية أو القومية لأي قطر عربي، بل مصلحة الجماعة الإخوان فوق أي اعتبار.

وكان التشارك مع مشيخات النفط والغاز الخليجية مال وبترودولار ، وفتاوى «فقه» البداوة من اجل حفظ عروشها وممالكها وإقطاعياتها من أي اهتزازات أو تأثيرات لما يحدث في المنطقة العربية، مقابل مشاركتها في هذا المشروع تمويلاً وتسليحاً وضخّاً بشرياً لكل أشكال الجماعات الإرهابية بمسمياتها المختلفة، العناوين والأسماء للمنتج الوهابي التكفيري نفسه، وفي إطار الواقع الملموس وجدنا كيف أن ليبيا التي تمت فيها الإطاحة بموافقة ومشاركة أميركية وأوروبية غربية بمعمر القذافي، تلك البلاد المفتقرة إلى مؤسسات المجتمع المدني ومؤسسات الدولة، والتي هي اقرب إلى العشائرية والقبلية منها إلى دولة مركزية، فما إن غادر القذافي، حتى دخلت ليبيا في أتون حروب عشائرية وقبلية، وصراعات بين الميليشيات المسلّحة والمافيات متعدّدة الولاءات والانتماءات على السلطة والنفوذ والثروات، ودخلت ليبيا مرحلة التقسيم الفعلي، وأصبحت ملاذاً لكل أشكال وأنواع العصابات والقتلة والمجرمين، ولتزداد مأساة الشعب الليبي جوعاً وفقراً وتخلفاً وجهلاً، ولتصبح الدولة المنتجة والمصدّرة للنفط مستوردة له، وتفتقر للأمن والأمان.

أما في العراق فخطر التقسيم تحول إلى واقع فعلي… فأميركا نائب رئيسها جو بايدن يتحدث عن التقسيم… والبرزاني أثناء وجوده في أميركا، مقتنصاً فرصة الموقف الأميركي هذا يقول إنّ الفرصة مواتية لدولة كردية… وكذلك هي العشائر والقبائل السنّية يستهويها التقسيم، وهناك من يغذي هذا التقسيم من المحيط العربي قبل غيره، يضاف إلى ذلك المسلمون السنّة يعانون من أزمة هوية وتمثيل وقيادة وتعدد الولاءات، في حين النظام السياسي القائم والمركّبات السياسية الداعمة له، يبدو أن قدراتها على لجم «داعش» ومنع تمدّده، ودحره محدودة، خصوصاً أن ما يسمى قوى التحالف لا تستهدف تصفية «داعش» بقدر ما تعمل على تدجينه، وبقائه مهدّداً الاستقرار في العراق خدمة لمشروعها في المنطقة.

أما سورية، فهي المستهدفة بشكل أساسي بهذه المشاريع الاستعمارية، لكون سورية تشكل القاعدة المتقدمة للمشروع القومي العربي في المنطقة، وهي من حضنت قوى المقاومة ودعمتها بغض النظر عن انتماءاتها وهويتها السياسية والفكرية. وكذلك لسورية أهميتها الجغرافية والسياسية عربياً وإقليمياً ودولياً، ومن هنا كان الرهان الأميركي ـ الإسرائيلي ـ التركي ـ الخليجي ـ العربي، على كسر الحلقة السورية وسقوطها من أجل الإجهاز النهائي على المشروع القومي العربي، ولكن صمود الحلقة السورية، بعثر أوراق الحلف المعادي فتارة يتحدثون عن خيار حلّ سياسي ببقاء الرئيس الأسد، وتارة أخرى يتحدثون عن حلّ عسكري ينهي حكم الرئيس الأسد. ولعل ما حدث مؤخراً من اندفاعات كبيرة لآلاف من القوى الإرهابية من شيشان وتركمان وعرب وأجانب، بدعم غير مسبوق عسكرياً ومالياً ولوجستياً واستخبارياً وإعلامياً من قبل جماعة التتريك ومشيخات النفط السعودية وقطر على وجه التحديد، كان يستهدف قلب الموازين العسكرية على الأرض، وخلق مناخات إحباطية في الشارع السوري، مترافقاً مع حملة مضللة عن قرب سقوط النظام السوري. ولكن تلك الحملة التي تشبه ما يسمى «عاصفة الحزم» السعودي على اليمن فشلت، وإن حققت سيطرة على إدلب وجسر الشاغور، لكنها في الميزان العسكري العام لم تحدث أي اختراق جدّي، بل ما يجري في القلمون من عملية تطهير لأوكار الجماعات الإرهابية من «نصرة» وجماعة «الفتح» وغيرها من التشكيلات الإرهابية، يؤكد أن النظام وحزب الله مقبلان على معارك طاحنة مع تلك القوى، انتصارهما فيها يفتح الطريق لعملية تنظيف شاملة للوطن من كل دنس تلك الجماعات الإرهابية، وإن كانت مدة الحسم ستطول، ولكنها ستشكل عمقاً استراتيجياً لقوى المقاومة في مواجهة «إسرائيل» وأدواتها في المنطقة.

واليمن ليست ببعيدة عن هذا الواقع، حيث حرب مضى عليها أكثر من ستة أسابيع لا تبقي ولا تذر، حرب إبادة ترتكبها السعودية ضدّ فقراء اليمن، تطاول كل شيء، مؤسسات مدنية وعسكرية وبنى تحتية ومؤسسات تعليمية ومطارات وموانئ ومستشفيات، وحتى المساجد لم تسلم من التدمير. وعلى رغم كلّ الجرائم المرتكبة، ووصول الوضع في اليمن إلى مستوى الكارثة الإنسانية، حيث تمنع السعودية بحصارها وقصفها وصول المواد الطبية والإنسانية، ولكن على رغم كل ذلك لم يستسلم الحوثيون، ولم يرفعوا الراية البيضاء، ولم ينسحبوا من مراكز المدن، بل استمرّوا في التقدم لإحكام السيطرة على الوضع واليمن بشكل كلي، ولم تنجح السعودية في إعادة هادي، أو إجبار الحوثيين على الحوار تحت الحراب في الرياض أو أي عاصمة خليجية أخرى تحدّدها الرياض، بل استوعب الحوثيون الضربات السعودية، وانتقلوت إلى مرحلة الردّ، وبما يؤكد أنهم سيكونون قادرين على فرض شروطهم في التفاوض، ولا مجال لأن يكون اليمن ما قبل ما يسمى «عاصفة الحزم»، كما هو عليه بعدها، فلن يكون هناك نظام «كرتوني» يمني يتلقى أوامره مباشرة من الرياض، بل هناك حرب ستطول ستدفع السعودية ثمنها مالاً ورجالاً، وحتى خروجاً على النظام بما يهدّد بقاءه واستمراره، وتشكيل خطر على وحدته الجغرافية والمجتمعية.

لبنان أيضاً له مشاكله وأزماته المتعددة والكثيرة، فلا حلّ قريباً لمشكلة الرئاسة، حيث الخلافات العربية والإقليمية والدولية تمنع ذلك، وكذلك الأوضاع الأمنية سواء في الداخل أو ما يجري على الحدود مع سورية، وخطر انتقال الجماعات الإرهابية إلى لبنان، وتفجير الأوضاع الداخلية والأمنية الهشة، وتهديد السلم الأهلي والاجتماعي، ودفع لبنان نحو الاحتراب الطائفي والمذهبي… وإذا كان هذا البلد الصغير قد نجا نسبياً حتى الآن، بفعل «شبكة الأمان» الإقليمية الدولية التي توفر عليها، فليس من المؤكد أن يستمر الحال على حاله، خصوصاً إذا ما تفاقمت الأزمة وبلغ الصراع نقطة «اللاعودة» أو لحظة تكسير العظام.

على الجبهة الفلسطينية المشهد نفسه وعلى نحو أسوأ، حكومة يمينية متطرفة، تبدّد أي آمال بحل للدولتين، لا بل أنّ نتنياهو سيكرس جهده ووقته لتوسيع الاستيطان والتهويد وتعميقهما ومواصلتهما، من دون الالتفات إلى أي مبادرات هنا أو هناك. فهو يعرف حدود سقفها، وهي تأتي في إطار إدارة الأزمة وسياقاتها لا حلّها.

أما ملف المصالحة الفلسطينية الداخلية، فهو لا يتقدم، لا بل أنّ الانقسام يطول ويتعمق ويتسيد بفعل الصراع بين طرفي الانقسام على اقتسام كعكة سلطة خالية من الدسم، وكذلك سياسات المحاور والأجندات والتدخلات العربية والإقليمية لها دور كبير في هذا الشأن.

الأمور قد تندفع إلى ما هو أبعد من ذلك على خلفية الصراع في سورية واليمن، نحو حرب إقليمية شاملة، لا يبقى فيها القرار والمشاركة للوكلاء، بل مشاركة فعلية من قبل الأطراف المتصارعة: إيران من جهة، والسعودية و«إسرائيل» من جهة أخرى.

Quds.45 gmail.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى