مختصر مفيد… الدرع الصاروخية من أوروبا إلى الخليج

عندما قرّرت واشنطن خطة الدرع الصاروخية ونشرها في أوروبا، خصوصاً في الشطر الشرقي منها، لم تكن تستشعر خطر حرب مع روسيا ولا مع إيران، بقدر ما كانت ترمي إلى ثلاثة أهداف: الأول، تعزيز ميزان الردع في وجه روسيا وإفهامها أن صواريخها الباليستية التي تشكل قوة هجومية يعتدّ بها، صارت مدعوّة إلى حل عقدة القدرة على اعتراضها من شبكة صاروخية معقدة تغطي مجموع زوايا الحركة المفترضة للصواريخ الروسية، وما يعنيه نشر هذه الشبكة لاسترداد شبكة الصواريخ الروسية عافيتها الردعية، من فرض المزيد من الجهود والتطوير، أمام وجود شبكة صدّ واعتراض مزوّدة بأحدث تقنيات التعرّف إلى حركة الصواريخ مربوطة بالأقمار الصناعية، وبأحدث شبكات الرادارات.

والهدف الثاني، يتمثل في ما سيترتب على نشر الدرع الصاروخية لهذا الاعتبار من إنفاق ماليّ يستنزف مقدرات روسيا المالية، إذا أرادت الحفاظ على التوازن العسكري الذي تظن أنها تملكه في وجه الغرب، وما عليها من تبعات جدّية للحفاظ على مستواه. ولهذين السببين قامت روسيا لتقف على قدميها بكامل قامتها، وتجعل من مشروع الدرع الصاروخية سبباً كافياً لتوتر واشتباك كادا يصلان إلى حافة الحرب خلال سنوات وضع الفكرة في التداول.

أما الهدف الثالث للمشروع، فقد تمثل في منح قوى معارضة في دول ليست من دائرة النفوذ التقليدي للغرب عسكرياً، ولا هي جزء من الحلف الأطلسي، وتقع في الجوار القريب من روسيا، الطمأنينة الكافية لخوض المواجهات سعياً إلى استلام الحكم والرهان على تشكيل الدرع التي تشمل تغطيتها أجواء هذه الدول سبباً لمنع الجيش الروسي من التدخل في النزاعات المتوقعة على الحكم في هذه الدول، طالما سلاح الجو الروسي سيكون عاجزاً عن التحليق في سمائها بوجود صواريخ قادرة على التحرك للنيل من طائراته.

خاضت روسيا من ضمن معاركها لاسترداد مكانتها كقوة عظمى في العالم مواجهة ضارية، عنوانها منع نصب الدرع الصاورخية في أوروبا، واعتبرتها عملاً عدوانياً على أمنها القومي. وتحوّل الأمر إلى بند دائم في المفاوضات الأميركية ـ الروسية، والأوروبية ـ الروسية، وفي ذروة المواجهة التي دارت حول سورية وإيران وتالياً حول أوكرانيا، بقيت الدرع الصاورخية قضية روسيا السياسية كعلامة جدّية على التوصل لتسوية، وهذا ما بدا أن النجاح فيه يقترب، وأنه مصدر الابتسامة التي شاهدناها على وجه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في ختام لقائه وزير الخارجية الأميركي جون كيري.

ماذا ستفعل واشنطن؟

لم تعد واشنطن بعد سنوات المواجهة التي شهدتها ساحات عالمية كثيرة هي نفسها التي كانت قبلها، لأن أوّل ما تغيّر كان التوزان العسكري في أوروبا بتأثير نتائج حرب أوكرانيا التي انتهت أو هي في طريق النهاية، وفقاً لما رسمته وهيأته روسيا بعدما نجحت بوضع اليد نهائياً على شبه جزيرة القرم، التي أمسكت عبرها بعنق البحر الأسود من جهة، وبوسط أوكرانيا من جهة أخرى، وببوابة جورجيا من جهة ثالثة. ومع كل ذلك أفهمت أوروبا أن الطريق إلى التفكك يبدأ من العبث بخطوط الفواصل بين المذاهب الدينية وتقسيم أوروبا على أساسها، إضافة إلى الرسالة التي لا تقلّ قوة عن عزم موسكو على خوض المواجهة حتى النهاية دفاعاً عن مكانتها ودورها العالميين؟، ولكن أولاً وأخيراً، مكانتها ودورها في أوروبا، وأنها مستعدة لتحمل العقوبات والحصار إذا كان هذا هو الثمن الذي سيترتب على هذا الثبات.

أوروبا تغيرت أكثر مما تغيرت أميركا، وظهرت في ذورة المواجهة أصوات أوروبية تدعو إلى إعادة النظر في المواجهة مع موسكو، إما من باب الحرص على وحدة الكيانات الأوروبية التي بدت مهدّدة إذا ما تفجرت حرب الأرثوذكس والكاثوليك في أوكرانيا وبدأت كرة النار تلتهم وحدة دول كرومانيا وبلغاريا وغيرهما، أو من زاوية الآثار الاقتصادية لسياسة العقوبات والحصار على روسيا. فخرجت كل من فرنسا وألمانيا كقوّتين تقليديتين تمسكان بالقرار الأوروبي، تضعان أولوية الحساب لخسائر الشركات الأوروبية من جرّاء الحصار والعقوبات على روسيا. وأوروبا هذه ستكون أشدّ انفتاحاً على روسيا بعد صوغ التسويات الجديدة من دون الدرع الصاورخية التي لا تشكل حاجة أوروبية بقدر ما كانت حاجة أميركية، والتي كان على أوروبا تسديد أكلافها وتحمّل تبعاتها فقط، بينما لعلاقة تعاون أوروبي ـ روسي مزيد من النتائج الإيجابية على أمن أوروبا واستقرارها، من جهة وازدهار اقتصاداتها من جهة أخرى.

أميركا لن ترمي الدرع الصاروخية في البحر. فقد وجدت في التفاهم مع إيران من جهة، والخوف الذي يتنامى في الخليج بعد فشل حرب اليمن من جهة أخرى، سببين للتفكير بنصب الدرع الصاروخية في دول الخليج بدلاً من أوروبا، وبذلك تتحقق أربعة أهداف معاً.

الهدف الأول دفع إيران إلى عدم التصرّف كمنتصر على الساحة الإقليمية بنتيجة التفاهم حول ملفها النووي، وأخذ الكثير من بريق الانجاز ووهجه، ونقل الخطاب الإيراني من خطاب الاحتفال والنصر إلى خطاب مواجهة المزيد من التحدّيات. والهدف الثاني استنزاف المال الإيراني الوافد بحصيلة التفاهم النووي وفكّ الحصار والعقوبات، ودفع القيادة الإيرانية إلى سباق تسلح يستنزف الكثير من الموارد ويكون خلافاً للّذي أنفِق على الملفّ النووي، غير قابل للاستثمار في المجالات التنموية والعلمية وتحقيق المزيد من التقدّم عمرانياً واقتصادياً. أما الهدف الثالث، فالتحكم بالأنظمة الخليجية المذعورة من إيران عبر مساومتها مالياً وسياسياً على الأثمان التي ستدفعها لقاء نشر هذه الدرع الصاروخية لحمايتها من خطر إيرانيّ مفترض وغير موجود. ففي السياسة تضغط واشنطن لتغييرات هيكلية على قادة الخليج انطلاقاً ممّا تشهده قمة «كامب ديفيد» من طلبات أميركية واضحة باعتماد أنظمة تقترب من مفهوم الملكية الدستورية ونموذجها. ومالياً سيكون لواشنطن أن تفرض الثمن الذي تراه للدرع الصاروخية ولتشغيلها وحمايتها وأكلاف الخبراء وقطع الغيار وسواها من المستلزمات، التي تقدر بمئة مليار يورو بداية، وعشرة مليارات كل سنة، وهو نتاج لا يفوّت بالنسبة إلى واشنطن. أما رابع الأهداف، فهو التوازن الذي سينتج عن نشر هذه الدرع الصاورخية في المنطقة التي يشكل الخليج قلبها والتي كانت المعارضات الوطنية فيها تستعد مع تطورات المنطقة، خصوصاً نهاية حرب اليمن، بفشل سعودي ذريع، لإطلاق عملية نهوض سياسي تسمح بالدفع نحو تغيير يتخطى مجرد المشاركة الشكلية في الحكم والثروة، إلى الشراكة في صوغ السياسات العليا لبلادها، وما يطال مضمون الاستقلال الوطني، وبالتالي العلاقة بواشنطن كمشروع هيمنة يصادر القرار الوطني، والتي ستجد نفسها محاصرة مع هذا التطور بما يعقد مهمتها ويجعل الوصاية الأميركية على الحكم والقرار أشد متانة وتعقيداً.

جولة مواجهة جديدة سيتّجه نحوها الخليج هذه المرة، وسيكون لهذه المواجهة إذا نجحت واشنطن في ما تخطط له، امتداداتها لسنوات مقبلة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى