حيفا هناك!

يامن نوباني

«… لم يُساعد الطقس البارد والوقت الضيق في التجول لأكثر من عشر دقائق في الطبيعة. خرّب البرد برنامج الزيارة، واكتفى بمنحنا إفطاراً من خبز الطابون المغمّس بالزيت والزعتر وأشياء أخرى كلّها من الأرض».

جاءت رجاء بكرية من حيفا، مارّةً بالقدس، إلى اللبن الشرقية في وسط الضفة الغربية، لا تحمل سوى رائحة البحر من هناك وصوراً لحيفا والقدس، ودفتراً صغيراً ستهديني إياه في ما بعد، كُتب فوق صفحته الأولى: لك من حيفا، لتكتب.

تأخر السائق كريم في النوم ساعة أخرى، نَدِم عليها في ما بعد، فالطريق التي سيمشي فيها للمرّة الأولى سيتوه فيها كثيراً، وستظلّ رجاء تتصل بي كل خمس دقائق لتسألني أين هما… وبحكم معرفتي بكلّ شجرة في الطريق وكل عمود كهرباء وحفرة صنعها المطر والاهمال، فإنني سأدلهما جيداً من لحظة الانطلاق من فندق «بيوتي إن» في المصيون إلى بيتي على بعد 27 كيلومتراً. «خلف المقاطعة يا رجاء عدة تفرّعات نحو اليمين، ادخلا إحداها وسيرا بخطٍ مستقيم حتى الوصول إلى الشارع الرئيس، شارع البيرة ـ نابلس، ثم الانعطاف نحو اليسار حتى دوّار البالوع أو سيتي إن، حيث كانت المواجهات مع قوات الاحتلال يومية في السنوات الأولى للانتفاضة الثانية. الآن سيرا في خطٍ مستقيم، على اليمين مغتصبة بيت إيل، على اليسار مخيم الجلزون، يبدأ بتلة ويمتد بشكل دائري نحو أراضٍ أقل انخفاضاً، حيث يصل جفنا الجميلة».

رجاء خائفة أن تتوه، ستخبرني أن أدلّها بشكلٍ أدقّ على الطريق، «نعم يا رجاء، هل تشاهدين نوافذ زرقاء على الجانبين، وجسراً برتقالي اللون، هذه مدارس أونروا على مدخل المخيم، وهذا جسر عبور الطلاب»!

أسرح قليلاً في صورة الذين خرجوا قبل 67 سنة عبر جسر الأردن الخشبي! وتلال صعدوها وبحر ركبوه، وبيوت تركوها خلفهم! وإلى الآن لم يعودوا. وكأنه قدر الفلسطينيّ ألّا يعود، أو يعود قليلاً بتصريح عبور لساعات إلى بلد عاش فيه أجداده وآباؤه. فيمرّ عن أثر البيوت والأشجار لا يبكي ولا يفرح! فقط يصاب بالصدمة.

سيتناول كريم الهاتف، ليكمل معي وصف الطريق التي بدت ملامحها تتضح شيئاً فشيئاً، «كريم سِر إلى الأمام فقط، بعد أربع دقائق ستصل إلى مفترق، إلى اليمين دورا القرع، إلى اليسار عين سينيا، بلد اليانبيع والمشمش، سِر مستقيماً، خمس دقائق وتصل إلى دوار عين سينيا، هناك استشهد محمد مبارك قبل سنة ونصف السنة، على الجانب برج عسكريّ للاحتلال».

يُدهَش كريم حين أقول له برج احتلالي وجيبات قريبة من المنطقة! «نعم يا كريم، أنت الآن تخرج من مناطق أ وتدخل مناطق س، على يسارك قبل اجتياز الدوّار طريق عطارة ـ بيرزيت، على يمينك طريق عيون الحرامية، الطريق المشهورة جداً منذ زمن طويل بفعل قطّاع الطرق القدماء الذين كانوا يسيطرون عليها، واشتهرت خلال الانتفاضة الثانية بعملية قنّاص عيون الحرامية ثائر حماد من بلدة سلواد المجاورة، إذ نفّذ عملية فردية على حاجز عيون الحرامية وأزيل الحاجز بعد العملية مباشرة، إذ قتل وأصيب العشرات من الجنود والمستوطنين ونجا حماد بأعجوبة قبل أن تُكشف خيوط العملية ويُلقى القبض على حماد، المحكوم الآن بالمؤبدات الكثيرة».

«بعد أربع دقائق، تصل إلى مفترق عيون الحرامية. على يمينك طريق مستقيمة تتوزّع على جانبيها قرى تتبع لرام الله وصولاً إلى حاجز جبع، وعلى يسارك طريق نابلس. خذ يسارك لدقيقتين وتظهر سنجل على يسارك، وعلى يمينك ترمسعيا التي ستعتقد رجاء أنها مستوطنة لكثرة سقوفها القرميدية، هي بلدة فلسطينية ومن أثرى القرى في فلسطين، يقيم ويعمل الكثير من أهلها في أميركا.

بعد دقيقتين تصل إلى مستوطنة شيلو العنصرية جدّاً، هنا يستغلون كلّ شبر من أرضنا لزراعة الخوخ والعنب والمشمش والزيتون، ويمتدّون!».

«خمس دقائق وتبدأ اللبن الشرقية بالظهور، ستستدلّان عليها عن طريق اللوز المنتشر بكثافة على الجانبين، وطريقها المشهورة بقوربات اللبن، ومنها كتب إميل حبيبي فصل وأخيراً نور اللوز سنة 1968، وأدرجه في كتابه سداسية الأيام الستة . وكانت معروفة بأنها طريق نابلس ـ القدس».

«بين اللبن الشرقية شرقاً وعمورية غرباً، سلفيت شمالاً وسنجل جنوباً، يقع جبل طروجة، بضع شجرات ما زالت صامدة في وجه الظروف الطبيعية وتكسير رعاة الماشية والحطابين والشوّائين والمتنزهين، سنعدّها: أربع شجرات رمان، ولوزة، وخرّوبة، وتسع شجرات بلوط، وتسع شجرات سدر وسريس وقيقب». كريم يختار التوتة الوحيدة هناك ويصرخ في وجه الهواء النقي: «الله ما أجمل بلادكم، تُشبه الجليل! بينما تلاحق رجاء بيت نمل يدهشها ترتيبه.

أسأل نفسي بعدما أمشي مترين إلى أسفل بعيداً عنهما: هل حقاً صدق كريم أم أنه جاملني؟ هل فعلاً بلدي تشبه الجليل أم أنها مجرد صرخة عابرة من شاب لم يدخل الضفّة إلّا مرّات قليلة جدّاً؟ وغداً يعود إلى القدس ويافا وحيفا وقيسارية وطبريا وعكا وصفد وبيسان، وينسانا! لكن كريم أوقفني عن أفكاري المتشائمة عن بلدي حين ناداني لألتقط له مزيداً من الصور تحت التوتة وقرب المقام الذي يتربع قمة طروجة: صوّرني هنا، صوّرني هناك، عند الصخرة، مع خلفية يافا، وأنا أصعد الشجرة… صوّرني، صوّرني…

الاحتلال خلق لنا أمزجة مختلفة ومتحيرة! أراد لنا ألّا نفهم أيّ المدن نحبّ! هل حيفا أجمل من رام الله؟ هل يافا القديمة تشبه نابلس القديمة؟ وهل القدس كبيرة وضخمة كما نسمع عنها؟

أراد لنا أن نسمع عن البلاد من دون أن نتأكد بأنفسنا! أن نسمع روايات من يقطنون هناك ومن يزورن البلاد بعد خطوات طويلة ومعقدة من تقديم تصاريح وانتظار ردود، وغالباً ما يأتي الردّ: مرفوض أمنياً! إذ يمكن لمزاج الجندي ابن السنوات العشرين أن يمنع رجلاً هرماً عاش طوال حياته بين ذرّات تراب الوطن من أن يُكحل عينيه ببحرنا هناك، أو بسجدة في الأقصى. وكأنه يقول له: «عش حياتك في جنين وطولكرم وقلقيلية سلفيت والخليل وبيت لحم أما المناطق المحلتة عام 1948، ففقط مسموح لك أن تحلم بها».

نادتني رجاء لنمشي قليلاً على الطريق الترابية، تحدّثنا لدقائق قليلة عن براءة الجبال والأشجار والهواء والناس هنا، قبل أن يهاتفها الفندق لأمر ضروريّ، ونستعدّ للمغادرة.

لم يساعد الطقس البارد والوقت الضيق في التجوّل لأكثر من عشر دقائق في الطبيعة. خرّب البرد برنامج الزيارة، واكتفى بمنحنا إفطاراً من خبز الطابون المغمّس بالزيت والزعتر وأشياء أخرى كلّها من الأرض، صُنعت بأيدي الأمهات والجدّات. لكن شادي، الولد الصغير الذي وجدناه صدفة في الطريق وهو يهبط الجبل، أعطى الزيارة نكهتها المفقودة «الميرمية الجبلية». شادي من بلدة مجاورة، ولد بحدود 16 سنة، يقطف الميرمية كل جمعة ليبيعها في أسواق رام الله ونابلس، لمحه السائق كريم مُحمّلاً بالميرمية، فأوقفه وطلب منه بضع وريقات ليأخذها معه إلى الجليل الفلسطينيّ. تبسّم شادي وأعطاه «ضُمّة»، و«ضُمّة» لرجاء. وفاحت رائحة الجبل. قالت له رجاء: «سآخذها معي إلى حيفا، هل تعرف حيفا؟ أشار شادي بإصبعه إلى البعيد وقال: «آه… حيفا هناك»!

الطابون: التنّور

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى