عبد القادر الحسيني: «نصف كيسٍ من الرّصاص» فقط!

نصار إبراهيم

كان ذلك في أواخر آذار من عام 1948… مع الفجر نهض عبد القادر الحسيني، عانق القدس بعينيه الحزينتين الصارمتين… ومن بعيد… من جهة القسطل كان يأتيه صوت الرصاص، حيث يقف الرجال في مواجهة أمواج العصابات الصهيونية… رجال قاتلوا بكلّ ما لديهم من جرأة وبسالة… لكن الرصاص كان عزيزاً وشحيحاً… لم يكن أمام عبد القادر سوى طلب العون من «الأشقاء العرب»… حمل ذاته وأحلامه ويمّم وجهه صوب دمشق ذهب حاملاً هموم الرجال الذين يقاومون ويسقطون على ثرى فلسطين… ذهب ليقول للجنة العسكرية لفلسطين التابعة لجامعة الدول العربية: لا أريد منكم جيوشاً ولا رجالاً… أريد فقط سلاحاً ورصاصاً… ففي فلسطين ما يكفي من رجال… رجال يملكون إرادة القتال والمقاومة… يبيعون حليّ نسائهم اللواتي يقدّمنها بفخر وعن طيب خاطر مقابل بندقية أو مشط رصاص… أقول لكم ها نحن أبناء فلسطين… وبما نملك نطرد العصابات الصهيونية… نحمي القدس… فقط نريد السلاح… السلاح والرصاص فقط.

انتظر عبد القادر وانتظر… وانتظر… فيما قلبه يطوف هناك… حيث يقاتل رفاقه بما تيسّر من رصاص وبنادق… انتظر عبد القادر طويلاً…

وأخيرا جاؤوه وقالوا: ليس لدينا ما نقدّمه لك سوى هذا… وألقوا أمامه نصف كيس من الرصاص… هذا كلّ ما نستطيع…

نكّس عبد القادر عينيه… قرفص أمام نصف الكيس… تناول حفنة من الرصاص… فركها بين أصابعه… ثم أعادها… تناول نصف الكيس حمله واستدار خارجاً دون أن يقول كلمة واحدة… كانت أمواج الحزن تغمر قلبه… لقد أدرك لحظتها بأنه يضيع وقته… كما تضيع فلسطين…

انطلق حاملاً رصاصاته الأخيرة وهو يدرك أنه لن يعود… كان يعرف أنه ماض نحو حتفه كالرصاصة.

مشى عبد القادر وقلبه ينزف على أمة سقطت عند أسوار القدس دون أن تقاتل… مضى حزيناً، سار ليلاً ونهاراً، كان يذهب مسرعاً نحو قدره المحتوم…

مع ظهيرة السابع من نيسان وصل عبد القادر إلى القسطل… عانقته عيون الرجال المضيئة… نظر بحزن وألم في عيونهم المنتظرة… غامت عيناه… وغصّ قلبه… نظروا في عيني القائد ففهموا… لم يناقشوا ولم يسألوا… ألقى بنصف كيس الرصاص أمامهم… وهو يهمس: هذا ما حصلت عليه منهم… لا تنتظروا أحداً… انهضوا.. هيا لنذهب إلى أقدارنا واقفين…

نهض القائد… نهض الرجال… مضوا يلفّهم حزن غاضب… كان قرارهم موتاً… لم يتكلموا كثيراً، أعادوا تنظيم ذاتهم، ودّعت العيون العيون والقلوب القلوب… نظروا نحو القدس فبدت كصَبية كنعانية تقف وحيدة على مشارف الكون…

انتظم الرجال واتخذوا وضع الرحيل الأخير… تصدّى للميمنة في الجهة الشرقية المجاهد حافظ بركات وعلى الميسرة من الجهة الغربية الشيخ هارون بن جازي وفي القلب فصيلتان بقيادة إبراهيم أبو ديّة، وفي موقع القيادة كان عبد القادر الحسيني وعبد الله العمري وعلي الموسوس إضافة إلى فصيلتي إسناد في الجهة المقابلة.

في ذلك اليوم البهيّ من شهر نيسان مضى رجال فلسطين إلى حتفهم… مضوا وهم يعرفون أنهم لن يعودوا… مضوا وهم لا ينتظرون من السماء ولا من العرب شيئاً… ذهبوا أحرارا إلى أقدارهم… تصاعدت أهازيج القتال… غنت عيونهم وقلوبهم… فردّدت سفوح الهضاب صدى أصواتهم الباسلة ونبض عيونهم الذي لا يخون… تقدّموا واكتسحوا مواقع العدو واستحكاماته الأمامية… تقدموا… وتقدموا… وتقدموا… ومع تقدمهم وبسالتهم كانت حفنات الرصاص تنفذ… لكنهم واصلوا التقدم فليس خلفهم سوى القدس التي كانت تنظر إلى أبنائها وهم يشتبكون مع عدوهم حتى الموت… يقاتلون ويسقطون وهم يعرفون أنهم لن يعودوا… كانت القدس تتابعهم بقلبها الذي يعرف أنهم لن يعودوا، فقط كانت تهمس: مع السلامة يا أبنائي، لقد وعدتم ووفيتم، فاذهبوا في رعاية الله.

أصيب إبراهيم أبو دية مع ستة عشر من رجاله بجراح، فاندفع عبد القادر بما تيسّر من رجال ورصاص… واقتحم القرية تحت وابل من نيران الصهاينة.

مع فجر الثامن من نيسان، وفيما كانت الشمس تضيء قباب القدس وبيوتها، وفيما كانت عصافير الوطن تستيقظ، والعرب نائمون… كانت أصوات طلقات رجال فلسطين تتلاشى… راحوا يسقطون واحداً بعد الآخر، سقط عبد القادر ومن معه من رجال على تراب القسطل… وهم يغنّون للأرض والقدس والمقاومة.

ساد الصمت القسطل، صمتت ساحات المواجهة وعلى مداها تتناثر أجساد الرجال وهم يعانقون بنادقهم الفارغة، وحولهم تتلامع خراطيش الفشك الفارغة أيضاً، كانت أجسادهم مثقبة بالرصاص فبدت كحقل حنون شاسع…

هكذا كانت النكبة، التي لو لم تكن لكانت، هي نكبة العرب وليست نكبة فلسطين، لقد أسقط العرب فلسطين قبل أن تسقط، لقد باعوا دم ثوارها مسبقاً…

قال العربان الجبناء بعدها: بأنّ شعب فلسطين هرب ولم يقاتل! راحوا يكذبون ليُخفوا عارهم ويبرّروا جبنهم وعجزهم وتواطؤهم…

هم يعرفون أنّ فلسطين لم تسقط بدون قتال ولكن بما تيسّر، لقد قاتلت فلسطين بما تملك، لقد صمدت أكثر من كلّ جيوش العرب السبعة، سقطت فلسطين لأنّ كلّ ما استطاعت جامعة البؤس العربية أن تقدمه لها كان نصف كيس من الرصاص فقط… وبه استطاع عبد القادر الحسيني ورجال فلسطين أن يقتحموا القسطل وأن يعلِّموا الصهاينة كيف يقاتل الرجال، لكن الرصاص كان قليلاً كما الماء، ومع ذلك لم يغادر الرجال مصارعهم فسقطوا على أرض القسطل حيث هم، ومن هناك كان صعودهم الأخير…

اليوم في ذكرى النكبة، ها هو شعب فلسطين يواصل تقديم الشهداء والأسرى والجرحى والصبر والعناد والمقاومة، فأين العرب…؟ ها هو شعب فلسطين يقاتل منذ ستين عاماً ويزيد فأين العرب…؟

في هذه اللحظة يلوح عبد القادر الحسيني عند الأفق كسارية باسلة… ينظر في عيون كلّ القيادات الفلسطينية وكأنه يقول لهم بوضوح وصرامة: فلسطين لن تعود بمساومات ومفاوضات ودردشات، فلسطين لن يفديها إلا شعبها، فلا تخذلوها… لا تخذلوا من سقط شهيدا على أرضها… لقد قاتلنا وكنا نعرف أننا لن نعود… ومع ذلك ذهبنا إلى أقدارنا باسمين، لأننا نثق بأنّ فلسطين التي أعطيناها أعمارنا لن تنسى ذاتها ودمها وأحلامها!

صفحة الكاتب:

https://www.facebook.com/pages/Nassar-Ibrahim/267544203407374

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى