إلى حضرة العميد الذي عاش النهضة من ألفه إلى يائه ومن ألفها إلى يائها
زهرة حمود
أتقدّم منك بالاعتذار حضرة الأمين المؤتمن على قسمه، والصبحي الذي غادرنا مع الصباح، وتردّد أنّ القلب خانك وتوقف عن النبض، فطويت شراع سفينتك وغادرتها من دون وداع.
صحيح، أنك لم تصب برصاصة ولم تغدر بك شظية، ولم يطعنك خنجر داعشي، أو تحرقك نار الحقد التي تجتاح أنحاء أمة حملتَها بين حناياك والروح، وغادرت بحال موت فجائي، لكنك شهيد، بكلّ ما للشهادة من قدسية.
تركت الطفل الذي سكن جسدك لحظة الولادة يغفو، وعبرت أيام الطفولة والصبا والمراهقة، بخطى الإرادة والإيمان، واعتنقت الرجولة والبطولة والعقيدة.
استيقظ الطفل يطالبك بلعبه فأخذته إلى أحضان أحراش الصنوبر، تعلّمت معه كيف ترعى الأعمار الغضّة لتحوّلها إلى بطولة الحياة الجديدة دورة مفوض أشبال ، وعدت معه إلى الأمكنة تعدّ أجيالاً لم تولد بعد، وهناك أغريته معهم بتسلق سلم الحياة نحو المجد، اختصرت به الطريق، شئته رجلاً قبل الأوان.
احتجّ الطفل، يريد صباه ومراهقته وشبابه، فتنقلت معه فوق أرض عطشى، قاد معك مجايليه إلى المعاهد والجامعات، ومنهم من ذاب في شعاب الأمة وأوديتها وتلالها يذود عنها بالمهج والدماء.
غادرك الطفل غاضباً، وتركك وحيداً، وإنْ أطلّ من وقت إلى آخر من ابتسامة عينيك، لم تتفقّده، ومضيت تعبر المسؤوليات والمواقع، تمارس التثقيف، الإشراف، الصراع، الحياة، نسيك ونسيته، وكان كلما أحسست بالوحدة يزورك في الحلم، ويمسح جبينك حباً وحناناً.
لكنه في الأسبوع الأخير من الرحلة حاول أن يحميك، زارك يدغدغ وجعك، يحاول التخفيف من آلامك، يرجوك أن تحفظه، لكن أنت، أنت الصلب، رويت له كم مرة هزئت من الموت، وكم تحدّيته فكنت كما قال المتنبي:
تَمَرّسْتُ بالآفاتِ حتى ترَكْتُهَا
تَقولُ أماتَ المَوْتُ أم ذُعِرَ الذُّعْرُ
فَتًى لا يضُمّ القلبُ هِمّاتِ قَلبِهِ
ولَوْ ضَمّها قَلْبٌ لمَا ضَمّهُ صَدرُ
لكن همّة قلبك خانتك هذه المرة، جثا الطفل قبالتك يستعرض معك المواقف الصعبة والمخاطر الجمة التي واجهتك، فكنت سيد اللحظات، شجعك أخذ بيدك، ارتديت ثيابك واصطحبته إلى المكتب، وقّعت بريدك، أنهيت ما كان عالقاً من أعمالك للمرة الأخيرة، شعرت بالتعب، زرت طبيبك، بعد إصرار المحبّين، لكن وكما في كلّ مرة، لم تهب الموت، ولا التحذيرات بوجوب دخول المستشفى، وأجلت الموعد إلى غدٍ!
انتظروك في غد نكبة حوّلتها عندنا إلى فاجعة هذا العام، لم تحضر، لم تتصل، لم تجب، احتضنت صبحي الطفل واحتضنك، وغادرتما.
أنت لم تستسلم، آلمتك الآفات التي واجهتها وتحدّيتها، كنت الطالب النجيب في مدرسة سعاده، اجتزت المواقف بتفوّق مبهر، لكن ما تراكم عندك في المواجهات أثقل كاهل نفسك العظيمة، فأخذك موت طالما تحدّيت زياراته في مواقع العز.
من كان مثلك سورياً قومياً اجتماعياً عاش النهضة من ألفه إلى يائه، ومن ألفها إلى يائها، واقتدى بمعلمه بالحياة، وكذلك في الرحيل، لا بد أن يكون شهيداً.
عذراً من الطفل الذي أتعبته، وعذراً من الأهل الذين أحزنتهم، عذراً من أمّ فجعت ببكرها، وأهمس لها مع اعتذاري، لن يهرم صبحي وسيبقى الشاب البهيّ الطلعة.
ومن الحزب الذي افتقدك، ومنك لأنك لم تكن بيننا لتسمع ما قيل فيك من ألقاب تليق بحضورك، منذ نعومة أظافرك، ولحظة رفعت يمينك تقسم بحقيقتك وشرفك ومعتقدك كنت مشروع شهيد، وفي غيابك الموجع أرفع يميني بالتحية لجلالة شهادتك، يا حضرة العميد الجزيل الاحترام.
ناموس الدائرة الإعلامية في الحزب السوري القومي الاجتماعي