اتفاق 17 أيار… وتشريع التطبيع الإقتصاديّ نهضت المقاومة وهُزم المخطط «الإسرائيلي» 3
حسن حردان
في هذه الحلقة الثالثة والأخيرة، نتناول ما احتواه الاتفاق من بنود تحقق أهداف «إسرائيل» لناحية التطبيع الاقتصادي، وتحويل لبنان إلى ساحة لتسويق السلع والمنتجات «الإسرائيلية» وتسربها إلى الدول العربية. فالاتفاق لا يحتوي على الأهداف «الإسرائيلية» والأمنية فحسب، بل يطول أيضاً تحقيق الأهداف الاقتصادية التي لطالما سعت إليها «إسرائيل» واعتبرتها من المسائل الجوهرية والأساسية التي تريدها من غزو لبنان، فلا تخفى على أحد أطماعها إن كان على مستوى احتلال موقع لبنان الاقتصادي كبلد خدمتيّ في المنطقة، أو السعي إلى الاستيلاء على ثروته المائية، خاصة في الجنوب حيث منابع المياه، الوزاني والحاصباني ونهر الليطاني.
كيف تبدى ذلك في الاتفاق، وعلى أرض الواقع؟
أولاً: هدفت «إسرائيل» من خلال اتفاق 17 أيار إلى فرض التطبيع الاقتصادي وتشريع لبنان أمام غزو السلع والبضائع «الإسرائيلية» ومنه إلى المنطقة العربية، إذ نصت المادة 8 الفقرة ب من الاتفاق على الآتي: «تهتم لجنة الاتصال المشتركة بصورة متواصلة بتطوير العلاقات المتبادلة بين لبنان و«إسرائيل» بما في ذلك ضبط حركة البضائع والمنتوجات والأشخاص والمواصلات، إلخ».
كما نصت المادة الثامنة في البند /2/ على الآتي:
«خلال فترة الستة أشهر التالية لانسحاب القنوات المسلحة «الإسرائيلية» من لبنان ووفقاً للمادة الأولى من هذا الاتفاق وبعد الإعادة المتزامنة لبسط السلطة الحكومية اللبنانية على طول الحدود الدولية بين لبنان و«إسرائيل»، وفي ضوء إنهاء حالة الحرب، يشرع الفريقان في إطار لجنة الاتصال المشتركة بالتفاوض بنيّة حسنة بغية عقد اتفاقات حول حركة السلع والمنتجات والأشخاص وتنفيذها على أساس غير تمييزي».
إن قراءة ما تقدم تُظهر بوضوح أن نظام أمين الجميل، الذي فاوض «إسرائيل» وقبل بهذا الاتفاق المذل، وافق على القبول بجعل الحدود مفتوحة بين لبنان و«إسرائيل» والالتزام بتطوير العلاقات المفروضة على لبنان بصورة متواصلة وعلى تنظيمها ضمن اتفاقات تعقد لهذه الغاية، وذلك بنيّة حسنة وبالسرعة الممكنة وعلى أساس غير تمييزي.
على هذا الأساس وافق النظام اللبناني في حينه على السماح لـ«إسرائيل» بإقامة مكتب اتصال في ضبية، قرب بيروت، يقوم بمهمات شبيهة بالمهمات التي تقوم بها السفارات والدوائر القنصلية التابعة لها.
ثانياً: مطامع «إسرائيل» في لبنان، إذ يندرج هذا التطبيع الاقتصادي الذي نص عليه الاتفاق في سياق غزو صهيوني يستهدف تحقيق المطامع «الإسرائيلية» الحاضرة منذ بدايات تحرك قادة الحركة الصهيونية لاحتلال فلسطين، وهذه الأطماع تتوزع في اتجاهين:
1 ـ أطماع «إسرائيل» في جنوب لبنان الذي يمثل 20 في المئة من مساحة لبنان و25 في المئة من الأراضي الزراعية و18 في المئة من الأراضي المروية، واشتهار الجنوب بزراعة الحمضيات والتبغ غير المتوافر في «إسرائيل».
كما أن لـ«إسرائيل» مطامع معروفة في مياه لبنان وتريد الاستيلاء على هذه الثروة لتأمين ري صحراء النقب في فلسطين المحتلة، وكان واضحاً طوال فترة الاحتلال «الإسرائيلي» للجنوب على مدى 22 عاماً، السرقة «الإسرائيلية» المتواصلة للمياه اللبنانية وحرمان المدن والبلدات الجنوبية منها.
وإلى ذلك، ثمة في الجنوب آثار صور التاريخية التي عمدت «إسرائيل» إلى سرقتها أو تدميرها في محاولة لإلغاء ماضي لبنان وحاضره ومستقبله من ذاكرة شعبه، فيما يشكل الجنوب ممراً طبيعياً للمنطقة العربية حيث لا توجد مرتفعات مثل الجولان أو أودية مثل وادي الأردن، ولا صحراء مثل صحراء سيناء.
2 ـ أطماع «إسرائيل» في غزو السوق اللبنانية والأسواق العربية، إذ سعت عبر احتلالها للجنوب للنفاذ منه إلى قلب لبنان والمنطقة العربية بغية تحقيق جملة أمور:
تقويض دعائم الإنتاج اللبناني، ما شكل أحد أهداف الغزو العسكري، إذ دمّر جيش الاحتلال على نحو مقصود البنية التحتية، وحرق المصانع، وجرف البساتين، وإغلاق نقاط العبور.
السيطرة على السوق اللبنانية وإغراقها بالبضائع «الإسرائيلية» وهذا ما حصل طوال فترات الاحتلال، إذ جرى تهريب وتسريب البضائع «الإسرائيلية» إلى لبنان واستعمال الماركات والعلامات اللبنانية وتزويرها في عمليات تعبئة وتغليف هذه المنتجات، للتمكن من ترويجها في السوق اللبنانية وتصديرها عبر تجار لبنانيين إلى الأسواق العربية، سجلت قيمة الصادرات «الإسرائيلية» إلى لبنان ارتفاعاً من 400 ألف دولار شهرياً خلال الأشهر الخمسة الأولى التي تلت الاجتياح، إلى 15 مليون دولار شهرياً في الفترة الممتدة من كانون الثاني إلى نيسان 1983، وبلغ مجموع هذه الصادرات 5040 مليون دولار عام 1982 مقابل 3.4 مليون دولار عام 1981.
أكثر القطاعت «الإسرائيلية» استفادة من انفتاح السوق اللبنانية كان قطاع الصناعات الغذائية، والسكاكر، والمعلبات، والبسكويت، والألبان، والأسماك، والمشروبات الخفيفة والروحية، والمنتجات الزراعية، والزهور والنباتات، فيما نشطت السياحة «الإسرائيلية» على حساب السياحة اللبنانية.
لكن الفوائد «الإسرائيلية» الكبرى من الغزو كانت كامنة في تدمير الاقتصاد اللبناني بفعل الاجتياح والخسائر الجسيمة التي لحقت لضرب دور لبنان الخدمتيّ الذي يشكل منافساً لدور «إسرائيل».
كان من نتيجة ذلك أن تراجعت الصادرات اللبنانية إلى الأسواق العربية، وأفادت «إسرائيل» من انفتاح السوق اللبنانية على الأسواق العربية ذات القدرة الكبيرة على الاستهلاك، ولاحظ المراقبون في حينه أنه على عكس اتفاقية كامب ديفيد، كان اهتمام «الإسرائيليين» أكبر باتفاق 17 أيار مع لبنان من الناحية الاقتصادية، إذ كان هناك إصرار «إسرائيلي» على أن يرد في نص الاتفاق تأكيد على حرية انتقال الأشخاص والبضائع بين «إسرائيل» ولبنان، وقد يعود ذلك إلى فشل التطبيع مع مصر.
في هذا الإطار يقول الخبير الاقتصادي الدكتور الياس سابا: «يشكل لبنان المنافس الاقتصادي الأول لـ«إسرائيل»، والعقبة الأهم أمام أطماعها في السيطرة الاقتصادية على العالم العربي، كما أن إمكانات اللبنانيين ومواقعهم في العالم العربي يمكن استغلالها بأعلى مردود في مخطط «إسرائيل» الاستعماري، وعلى عكس مصر، لا تفصل الصحراء بين لبنان و«إسرائيل» ما شكل أحد أهم الأسباب لاختيار لبنان فريسةً وحلقةً ثانية بعد مصر لفرض اتفاق صلح منفرد معه».
خلاصة القول أن اتفاق 17 أيار كان في مجمله اتفاقاً أملته «إسرائيل» على لبنان لتحقيق أهدافها السياسية والأمنية والاقتصادية، في سياق مخططها الهادف إلى الهيمنة على المنطقة العربية وجعلها تدور في الفلك «الإسرائيلي» الذي يشكل مرتكز الغرب الاستعماري لضمان المحافظة على مصالحه.
غير أن قيام المقاومة في لبنان وبنائها استراتيجية تحرر وطني وخوض غمار النضال المسلح الطويل النفس واستنزاف جيش الاحتلال أدى إلى إلحاق الهزيمة بهذا المخطط الصهيوني عام 2000 وعام 2006 واليوم يجري إلحاق الهزيمة بقوى الإرهاب في سورية أدوات أميركا و«إسرائيل»، ما يعزز مشروع المقاومة في المنطقة ويضعف مشروع الهيمنة الأميركي ونفوذ الدول الدائرة في فلكه وينتج بيئة استراتيجية جديدة في صالح محور المقاومة تدعم نضال الشعب الفلسطيني ومقاومته ضد الاحتلال على أرض فلسطين المحتلة.
hassan.hardan56 yahoo.com