أفكار متقاطعة تتداعى على يد هايدغر التصوّرات الكبرى للعالم وأوهام الما بعد

جورج كعدي

في محصّلة فلسفته، لم يأتِ هايدغر، وربّما مثل معظم الفلاسفة على مرّ التاريخ، منذ الإغريق إلى الفلسفة المعاصرة، بحلّ أو جواب لإشكاليّة الوجود وحقيقته وقلق الإنسان ومأزقه الوجوديّ وحيرته وأسئلته وإحساسه بالوحشة والفراغ وغياب المعنى أو الجوهر والغاية الأصيلين، فالنزعة الإنسانيّة التي يتغنّى بها «فكر الوجود» بحسب ما صاغه هايدغر فكريّاً وأنطولوجيّاً لا يمكن أن تكون فعليّاً مثل النزعات الإنسانيّة الأخرى الناهضة على أفكار ومبادئ: الله، العالم، العقل، العلم، الحريّة… إلخ، إذ ترتبط بـ«حقيقة الوجود» فحسب، بالمعنى الذي أتينا عليه في المقالة السابقة. النزعة الهايدغريّة هذه تترك الإنسان على هامش التفكير «الأساسيّ» وتفكّر في «الماهية الحقّة للإنسان» من زاوية نزع الصفات الإنسانيّة كلّها عنها، أيّ من خلال ما هو لا إنسانيّ أصلاً: «حقيقة الوجود» كموت وعدم، وكإحالة على لا شيء، وكأساس لا أساس له! كأن ماهيّة الإنسان، بحسب هايدغر، تشبه ماهيّة الوردة التي تزهر وتتفتّح ثم تذبل وتختفي، من غير أن يخطر لها أن تسأل هل أثارت إعجاباً أو تركت أثراً، ومن دون أن تكترث بطرح السؤال «لماذا»!

ينفي المفكّر عبد الرزّاق الدَوَاي في دراسته البديعة «موت الإنسان في الخطاب الفكر المعاصر» صفة «الوثبة الكبرى» التي تُنعت بها فلسفة هايدغر، فهذا الفكر لم يفلح في رأيه، رغم محاولات التقويض والتفكيك، في مغادرة أرض الميتافيزيك. ويمكن هنا استعادة عبارة هايدغر نفسه في انتقاده نيتشه ثم هوسرل: «لا أحد يستطيع أن يقفز فوق ظلّه» من كتاب هايدغر «مقدّمة إلى الميتافيزيك» .

يستمدّ خطاب هايدغر التفكيكيّ للميتافيزيك مبرّراته من طلبه لنفسه هذا الوضع الفريد: أن يُعترف له بأنّه خطاب فلسفيّ لا يشبه أيّ خطاب فلسفيّ آخر، خطاب لا هو ميتافيزيكيّ ولا فلسفيّ عقلانيّ ولا علميّ ولا تصوّفيّ مألوف! يطلب لنفسه بامتياز الإعفاء من مستلزمات الوضوح، والتحرّر من إلزامات لغة الاستدلال والبرهان. وبهذه الوضعيّة الخاصة وحدها يتمكن من الاحتماء في غياهب ومتاهات لغته المعقدة ومفاهيمه المبهمة، ويكتسب نوعاً من الحصانة تدفع عنه كلّ اعتراض وتجعله في منأى عن أيّ نقد محدّد قد يستهدفه!

بعد تقويض أسس النزعة الإنسانيةّ وتفكيك «ميتافيزيك الذاتيّة» لم تبق من مهمّة ملقاة على عاتق الفلسفة سوى «أن تقذف بالإنسان أمام مصيره القاسي … وترغمه على التخلّي عن عادة الحرص على ألاّ يهتمّ بعمل الفكر، إلاّ بما يعود عليه بمنافع عمليّة»، بحسب تعبير هايدغر نفسه. كأنّه يقول إنّ على الفلسفة أن تضفي على المشاكل الإنسانيّة، الاجتماعيّة والسياسيّة، طابع القدر المحتوم الذي لا رادّ له، وأن تعتبر الوضع البشريّ غير قابل البتّة للتحسّن مهما كبرت طموحات البشر واشتدّت عزيمتهم، ومهما تعاظمت الإمكانات التي يوفّرها تقدّم العلوم. وأنّ على الفلسفة، كذلك، أن تهزأ بجميع القيم التي أبدعتها البشريّة عبر تاريخها الشاقّ والمضني، لأنّها قيم بلا أساس، ولأنّها ليست سوى محاولات لنسيان ما هو أساسيّ، والأساسيّ بالنسبة إلى هايدغر هو أنّ لا أمل يُرجى من أيّ عمل يمكن القيام به. بذلك، يتحتّم على الإنسان الذي أدرك ماهيّته الأصلية على ضوء «حقيقة الوجود» الهايدغريّة أن يحيا كلا شيء… ولأجل لا شيء! وأن يكون الكلام الغامض عن حقيقة الوجود زاده الوحيد، وإن ناله منه سأم! وخلال وجوده وحياته، على الإنسان الانتظار وترقّب حدوث «معجزة في الوجود»، فالاهتمامات والانشغالات والطموحات لدى الإنسان لا يمكن أن تغيّر شيئاً في العالم والوضع البشريّ الراهن، و«وحده مجيء إله قادر على خلاصنا» بحسب ما ردّد هايدغر في آخر حوار أجري معه ولم ينشر بتوصية منه إلاّ بعد وفاته، قد يكون هو الحلّ والخلاص. لكن حتى هذا الإله «الأمل» يظلّ مجهولاً ومختلفاً عن كلّ ما اتّخذه البشر حتى الآن من آلهة، بحسب تعبير برنار دوبوي في كتابه «هايدغر ومسألة الله».

مع «فكر الوجود» الهايدغريّ يُعلن عن خسوف الفكر الذي أُفرغت سماؤه وانطفأت نجومه وغابت شمسه وحُجبت أقماره وعمّ الظلام أرضه وفقد الإنسان كلّ إمكان لمعرفة وجهته في هذا الوجود. ورغم ذلك، فإن أهميّة «فكر الوجود» لدى هايدغر أنّه كدّر صفو راحتنا وأيقظنا من سباتنا الإنسانيّ العميق، ومن نسياننا للوجود، وأرغمنا على عبور صحراء الوجود القاحلة في ليل دامس، بلا هادٍ أو معين، وذكّرنا إلى حدّ الإزعاج بأن ليس من طريق آخر لتجنّبها. فهل لا يزال في وسع المرء، وقد أوشك على نهاية رحلته الاضطراريّة في غياهب الفكر القاتمة، أن يتحدّث عن الفلسفة وعن الحقيقة والفهم والعقل، بعدما دخل في منطقة تلاشت فيها صراحة الفكر وبدا كلّ شيء كأنّه يومض في ضفاف الشعر والتصوّف؟

أن يوصف «فكر الوجود» مثلما عرفناه، مناهضاً للنزعة الإنسانيّة ومعادياً للعلم والعقل ومفككاً لقيم الفعل البشريّ ومفضياً إلى هذا الليل الحالك، بأنّه فكر «أساسيّ» وقفزة نوعية كبيرة في الفكر الغربيّ المعاصر، فهذا ضربٌ من الاستخفاف بالإنسان وفكره. إنّه بالأحرى شكل من أشكال التصوّف، سلبيّ ومعتم، لا أثر فيه حتّى للحبّ الذي يطبع كلّ تصوّف. إنّه فشل للفكر، وفكر للفشل… وفقدان الأمل والرجاء.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى