حزب الله إقليمياً
د. إبراهيم علوش
إذا كان تحرير جنوب لبنان عام 2000 قد كرّس حزب الله قطباً رئيسياً في المعادلة اللبنانية المحلية، ومرجعيةً معنوية في الشارع العربي وتاريخ الصراع العربي – الصهيوني، فإن إيقاف التمدد الصهيوني في لبنان ميدانياً في صيف عام 2006 جعل منه قوة ردع استراتيجية على مستوى الإقليم، يدخل مكونها المقاوِم في أي حسبة موضوعية لميزان القوى العربي الصهيوني. أما قدراته الصاروخية الهجومية، والتي تم تطويرها في ما بعد لتتمكن من الوصول إلى كل النقاط الحيوية في الكيان الصهيوني فعلياً، فقد أمست إحدى المكونات الموضوعية لمشروع تحرير فلسطين.
مثل هذا الوضع لم يكن أمراً يمكن التعايش معه بالنسبة إلى الطرف الأميركي -الصهيوني وأذنابه في المنطقة. لذلك كان لا بد من تفكيكه سياسياً ما دام الكيان الصهيوني قد أثبت عجزه عن تفكيكه عسكرياً. وقد سار مشروع تفكيكه على خطين أحدهما لبناني والآخر عربي. وكان عنوان التفكيك في الحالتين هو محاصرة المقاومة بالخطاب الطائفي. وبعد أن تمكن الحزب وسورية من اجتياز الرمال المتحركة والعواصف الهائجة اللاحقة لاغتيال الرئيس رفيق الحريري بنجاح، مع وضع مطلب تخلي حزب الله عن سلاحه بنداً رئيسياً لأيّ حل سياسي للأزمات المتلاحقة التي تم افتعالها في الساحة اللبنانية من قِبل قوى 14 آذار، أي التخلي عن أحد أهم عناصر الردع الاستراتيجي للكيان الصهيوني في المنطقة، تحول التركيز الأميركي – الصهيوني في مشروع التفكيك إلى حاضنة المقاومة في لبنان وعمقها الاستراتيجي: سورية.
من البديهي أن مشروع استهداف سورية من قِبل الطرف الأميركي – الصهيوني بعد احتلال العراق وتدميره عام 2003 خصوصاً، وزيارة كولن باول لدمشق بعد شهر من احتلال بغداد، وضع نصب عينيه منذ البداية، وعلناً، احتضان سورية للمقاومات العربية، ومنها المقاومة في لبنان، إضافة إلى المقاومة في فلسطين والعراق، ورفض سورية الانخراط في مشاريع التطبيع والاستسلام. وبعد أن تبنت إدارة بوش الابن استراتيجية «تغيير الأنظمة» بالقوة، ظهر من وثائق ويكيليكس أن واشنطن انخرطت في تمويل جهات في «المعارضة السورية» على نطاق واسع منذ عام 2006، كما كشفت لاحقاً أربع وثائق نشرتها صحيفة «واشنطن بوست» في 18 نيسان 2011، وأنها بدأت تميل منذ ذلك الوقت لفكرة «إسقاط النظام» من الداخل.
وإذا كانت قوانين الجغرافيا السياسية تعني أن من المستحيل على أي نظام يحكم في سورية أن يتغاضى عمّا يجري في لبنان، خاصرة سورية الحيوية، فإن القوانين نفسها تعني أن من المستحيل على أي قوة فاعلة في لبنان أن تتغاضى عما يجري في سورية. ولم تعد سورية بعد «الربيع العربي» بالنسبة إلى حزب الله، مجرد خط إمداد وعمق لوجيستي واستراتيجي وحاضنة سياسية، بل تحولت إلى مصدرٍ محتملٍ للخطر مع تغلغل العصابات المسلحة المدعومة من قوى إقليمية ودولية ولبنانية معادية، بعدما ظهر من أنماط تحرك تلك العصابات في أرياف حمص ودمشق والقنيطرة ودرعا، أنها تستهدف مواقع حزب الله من الشرق، وأنها اصبحت حاضنة لقوى التطرف والتكفير في لبنان نفسه، وأن لبنان برمته بات مستهدفاً من قِبلها.
منذ لحظة إدراك تلك الحقيقة الاستراتيجية لم يعد دخول حزب الله على خط القصير أو غيرها مجرد عمل تطوعي لرد الجميل للدولة السورية التي احتضنت المقاومة على مدى عقود، مع أن رد الجميل أضعف الإيمان، ومع أنه فعل مبرر بحد ذاته، بخاصة عندما تنقلب بعض قوى المقاومة الأخرى على سورية في زمن الشدة بعد كل ما قدمته سورية لها، إنما دخل حزب الله على خط الأزمة السورية ليحمي نفسه أولاً، وليحمي لبنان من التمدد التكفيري، كما دخل ليسهم في حماية حاضنته وعمقه الاستراتيجي من ذلك التمدد. لقد دخل حزب الله على خط الأزمة السورية مجبراً في الواقع، لا بل إنه تأخر قليلاً في دخوله الميداني لسورية من ذلك المنظور.
المعضلة هنا تكمن بالضبط في التناقض بين العنوان الذي قدم به حزب الله نفسه، باعتباره مقاومة لبنانية، أو مقاومة إسلامية في لبنان، كما يقول شعاره الرسمي، وما بين حقيقة الوجود القومي وقوانين الجغرافيا السياسية التي لا تلتزم الحدود الوهمية التي رسمها اتفاق سايكس بيكو. ومن هنا، راحت القوانين نفسها تفرض على حزب الله التدخل في أماكن أخرى غير سورية، فالواقع الموضوعي فرض على الحزب، بشكلٍ متزايد، مهمات عربية، تتجاوز حدود لبنان، وهو ما تطلب من الحزب بالضرورة أن يتجاوز خطابه اللبناني إلى خطاب عربي، والواقع أنه راح يتطلب من الحزب أن يجد سردية مقنعة للجمهور العربي تستطيع تجاوز الضخ الطائفي المسعور الذي ينفثه البترودولار وأدواته في المنطقة.
لقد أدرك حزب الله منذ البداية أن حماية ظهر المقاومة في لبنان متعدد الطوائف والمرجعيات تطلب تكريس بيئة لبنانية: 1 وطنية، 2 ومناهضة للعدو الصهيوني، ولم تكن معادلة الشعب والجيش والمقاومة إلا تجلياً لتلك الفكرة، فقد كانت تلك المعادلة فكرةً وطنية لبنانية حاول السيد حسن نصرالله أن يعممها على الصعيد العربي في خطابه الأخير في عيد تحرير جنوب لبنان. لكن عنوان محاربة التكفير وأدواته، على رغم أهميته وراهنيته القصوى في الواقع العربي المعاصر، لا يكفي بحد ذاته لتغطية التدخل الضروري للحزب لمواجهة التكفير في ساحات عربية مختلفة في جوٍ من التحريض الطائفي المنفلت من عقاله، إذ لا بد للحزب في ظروفٍ من هذا النوع، أن يتبنى فكرة المواطنة العربية العابرة للطوائف والمناطق، ليتمكن من جعل محاربة التكفير مشروعاً قومياً على مستوى الشارع العربي، كما تمكن من جعل محاربة العدو الصهيوني مشروعاً وطنياً على مستوى الشارع اللبناني.
العبرة هي أن وجود حس قومي، هو حس عابر للطائفية بالضرورة، بات شرطاً من شروط حماية الحزب، وسورية، وللحديث بقية.