«الدبلوماسية الصامتة» إذ تصخُب
خضر سعاده خرّوبي
خلال الأعوام الماضية، نشطت تحركات القوى الدولية كالصين وغيرها في منطقة شرق آسيا والمحيط الهادئ، لا سيما مع الإعلان الأميركي «استراتيجية الاستدارة نحو الهادئ». وساهمت التطورات الأخيرة التي شهدتها منطقة بحر الصين الجنوبي المتنازع عليها بين الصين وجيرانها في قرع جرس الإنذار في تلك المنطقة الحساسة اقتصادياً وجيو سياسياً، علماً بأنها صنفت ضمن خمسة محاور ساخنة حول العالم يمكن أن تندلع فيها حرب عالمية ثالثة وفق تقرير لجيمس هاردل من مؤسسة «جين الدفاعية». وقد عمد الأميركيون في ذلك الإقليم، البعيد والذي بات يرتبط بعلاقة جدلية حادة مع منطقة الشرق الأوسط، على تعزيز تحالفاتهم فيه عبر اتفاقات وتفاهمات ينظر إليها غالباً على أنها تمت على حساب «الشغف الأميركي» المتوارث في «هلال الأزمات»، كتلك المتصلة بتوثيق التعاون الدفاعي مع اليابان، أو استكمال مساعي التفاوض حول مبادرة «الشراكة عبر الهادئ» لمواجهة النهوض الصيني. إلى جانب التغيرات الدولية المشار إليها، فقد بدا الوضع الداخلي في اليابان مواتياً لتعديل العقيدة اليابانية السلمية مع تسلم اليمين الياباني بزعامة شينزو آبي رئاسة الحكومة منذ عام 2012، إثر وعوده بعودة اليابان إلى مصاف ما اعتبره «دولة طبيعية» وتعزيز صلاحيات الجيش. وبعد الإشارة إلى عين القلق التي باتت تنظر بها طوكيو إلى ما تراه «نزعات عدائية» في دول مجاورة تشوب العلاقات معها خلافات حدودية لا سيما الصين التي تتصاعد موازنتها الدفاعية تباعاً في السنوات العشر الأخيرة، تنقل صحيفة «لوموند» عن مسؤول حكومي ياباني أن بلاده « تختبر مرحلة بالغة الدقة، فهي محاطة بدول خطرة تهدد أمنها»، وتؤكد أن «بكين ترغب في إنشاء قواعد عسكرية في المنطقة لتغيير الأمر الواقع والسيطرة على الجزر».
من جهتها، أوردت صحيفة «غلوبال تايمز» المملوكة لصحيفة «الشعب» الناطقة باسم الحزب الشيوعي الحاكم في الصين، أن المبادئ الجديدة للتعاون الدفاعي بين الولايات المتحدة واليابان تهدد الاستقرار الإقليمي في شرق آسيا والمحيط الهادئ على نحو غير مسبوق منذ نهاية الحرب الباردة. وأكدت أن «بكين مصممة على إنجاز عمليات البناء التي تجريها في سبراتلي». وأضافت: «لو كان الخط الأساسي للولايات المتحدة هو ضرورة وقف الصين نشاطاتها، سيكون نشوب حرب بين الولايات المتحدة والصين في بحر الصين الجنوبي، أمراً حتمياً. قوة الصراع ستكون أكبر مما يعتبره الناس عادة احتكاكاً».
لطالما مثلت بكين «دبلوماسية صامتة» لا تخلو من فاعلية في «رحلة الصعود السلمي» في مواجهة «استفزازات» واشنطن على مقربة من البلد الأضخم سكانياً على مستوى العالم. ما قد يسترعي الانتباه، هو أن الصينيين بدوا أخيراً أكثر جرأة في تحدي جهود واشنطن في جوارهم المباشر، وتحديداً في بحر الصين الجنوبي.
التقارير الاقتصادية تشير إلى أن الصين باتت القوة الاقتصادية الأولى في العالم لتتجاوز الولايات المتحدة كأكبر اقتصاد في العالم منذ عام 1872، فيما تتجه أنظار الصحف الغربية إلى استراتيجية الرئيس الصيني الجديد الذي عرف عنه انتقاده للأميركيين والغربيين في أكثر من خطاب له وتحذيره إياهم من الإشارة إلى صعود الصين، وهي استراتيجية تستند إلى نزع فتيل التوترات الإقليمية والجيو- سياسية عبر توفير الاستثمارات وفرص التجارة وتوسيع نفوذ الصين وتخفيف أثر التحول الأميركي نحو الشرق الأقصى. كما أنه لا يمكن تجاهل حجم الذهول المرفق بخيبة تشعر بها واشنطن جراء نجاح الصين في استقطاب أبرز الدول الغربية نحو مشروعها المتمثل في «البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية»، وهو ما يعكس تراجعاً أميركياً مشهوداً في نظر الحلفاء.
ومنذ زيارة الرئيس الصيني السابق هو جينتاو للولايات المتحدة في كانون الثاني من عام 2011، واعتراف واشنطن بـ «الصين المزدهرة» التي تلعب دوراًَ أكبر في شؤون العالم، في مقابل ترحيب بكين بالولايات المتحدة كـ «دولة باسيفيكية تسهم بدور في سلام واستقرار المنطقة»، تبادل كبار المسؤولين الأميركيين والصينيين الزيارات، وقاموا بمأسسة مشاوراتهما ووجهات نظرهما بشأن الموضوعات الاستراتيجية والاقتصادية المختلفة. وقد انشغلت الأوساط الدبلوماسية والأكاديمية الأميركية على مدار سنوات في رسم واستشراف آفاق العلاقات الأميركية الصينية المستقبلية. على سبيل المثال، تميل وجهة نظر وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر في هذا الشأن إلى ضرورة تقبل الولايات المتحدة لصعود الصين نظراً لأهمية وجود علاقات تعاونية بين البلدين انطلاقاً من مفهوم «المجتمع الباسيفيكي»، وتجنباً للصراع التراجيدي للسيطرة على آسيا مؤكداً صعوبات فرضية عزل أو معاقبة دولة بحجم ودور الصين في الاقتصاد العالمي.
في المقابل، فإن هناك من يعتقد بوجوب وجدوى أن تضع واشنطن حدوداً مناسبة لصعود الصين من خلال الحفاظ علي توازن موات للقوة في آسيا، وذلك يتطلب منها أن تتعهد «تدابير مكلفة وصعبة» كالحفاظ علي تحالفها مع اليابان وكوريا الجنوبية، وعلاقاتها التعاونية مع معظم جيران الصين الآخرين، وكذلك الاستمرار في تطوير الموقف العسكري لمطابقة التحديث العسكري الصيني، إلى جانب موازنة علاقاتها التجارية عبر المحيط الهادي. من الواضح أننا دخلنا عصر انحدار مذهلاً في الثروة الاقتصادية للغرب، والأمر نفسه ينطبق على الجغرافيا السياسية.
في هذا السياق، يذهب نيل فيرغسون، أستاذ التاريخ في جامعة هارفرد في كتابه بعنوان « الحضارة: الغرب والآخرون» إلى القول بـ «أن Chi- America وهو مصطلح يشير إلى علاقة المنفعة المتبادلة بين الصين والولايات المتحدة قد مات»، مضيفاً إلى أننا «دخلنا في عالم جديد، أعتقد أن الصين ستكون فيه أكثر حزماً وأقل هدوءاً». وبالفعل، هناك في الصين من يعتقد أن علاقة الشراكة أو التحالف بين بكين وواشنطن، إنما تحالف كاذب.