«مكحلة مسمومة» لحسام الدين محمد… الحبّ حين يسمّم الحياة شعراً ويكحّلها سرداً
فاطمة ياسين
يعيد حسام الدين محمد تشكيل جزء من ذاكرته بسرد وقائع ذات طبيعة إنسانية لقصص مرت به، التقى خلالها «إناثا» اشتبك معهن بعلاقات تحمل عناوين عدّة، بعضها جنسي ذو طبيعة حسية خالصة، وبعضها عاطفي صرف لم يملك الوقت ليحولها إلى شكل آخر، وفي كل القصص كانت هناك وشائج إنسانية مبنية على نشاط الهرمونات أو حساسية الجملة العصبية.
يرقم الكاتب قصصه من الواحد وحتى ستة. تقاطع سرده العاطفي أبيات شعرٍ، تقرؤها وأنت تستحضر مقام العجم عجم الراست الفريد في أغنية «جفنه علم الغزل»، تحمل بعض اللمسات المشتركة مع كل قصة. يمكن التعامل مع المجموعة كوحدة أدبية منفصلة بدون الرجوع إلى السيدة صاحبة الفضل في خروج القصيدة إلى الورق المطبوع.
يَظهر الكاتب في كل القصص كبطلٍ شبه وحيد، وإن ظهر بطل آخر معه فإنه لا يطيل المكوث في المشهد، ولا يكون له دور فعال أو مؤثر، فيغادر الحلبة سريعاً مخلياً المساحة للكاتب.
لم تُعامل بطلات القصص جميعاً بالمثل، ففي بعض الأوقات يضع الكاتب في مقابله سيدةً أو اثنتين وتبدأ بعدها لعبة شد الحبال العاطفية فتهيمن الأجساد على الصورة، وربما الرغبة بمعناها الشبقي، وقد تظهر متخفية كملامسات مقتضبة أو حوارات ذات معان وربما «مماحكات» القصد منها إظهار الاهتمام.
يصوّر الكاتب انفعالاته خلال العلاقة وتحوّله النفسي إلى عاشق، ويبدو ناجحاً في شدّ القارئ ليكون مكانه متجاوزاً دوره الأدبي إلى ما يشبه كتابة الحلم الذي يرغب كل قارئ بالعيش فيه. يحترم الكاتب السيدات اللائي مررن به أو مر بهن ويظهر أدباً جماً في تناول حياته معهن، فلا تشعر القارئة بإهانة على رغم أن المجموعة تعج بالسيدات وفي المركز ذكرٌ واحد، إذ فصَّل الكاتب قصصه بقصائد محاولاً الإيحاء بأن كل سيدة قصيدة كاملة وليست مجرد بضع أوراق في مجموعة قصصية.
«ستيلا»، السيدة المخدوعة التي جاءت من رومانيا معللة نفسها بحياة أفضل وقعت بين ذراعي الكاتب، بعدما مرت على محتال صغير غثّ.
ينجح الكاتب في تحويل «ستيلا» من مجرد مغامِرة إلى عاشقة ويفصّل منها قصيدةً فاتنة. يمدّ لها يد المساعدة فتتلقف اليد الممدودة بامتنان بينما عيون المحتال، الذي حاول أن يوقع بها، ترمق المشهد بذهول العاجز.
كانت هذه القصة مقدمة تضعك في جو قصيدة «فراقيات» التي جاءت كمرثية لتبرير ما لن يستطيع عاشق الحفاظ عليه، فودّع «ستيلا الصديقة» بينما قطرات الحب تتساقط من حروفه:
غمامة من فلتات نفسك
في مسامي البعيدة
أصدقاء
عبأنا التذكر في علب الكرتون
أخفينا المشاعر بسيلوفان السفر
أنت إلى الطائرة
أنا للنساء السريعات…
ثم تأتي «أوفيليا» التي ليس فيها من شخصيات شكسبير غير الاسم، بل لعلها تنتمي أكثر إلى عالم «حريم السلطان»، فسرعان ما وافقت على التمرغ في فراش الكاتب لمدة طويلة جعلته يفقد اهتمامه بها. لمح الكاتب إلى أن هذه القصة ذات طبيعة جنسية مهيمنة نستشف ذلك من شكل نهاية هذه العلاقة الطويلة، التي جاءت كرد فعل مباشر عند معرفة الكاتب ميول «أوفيليا» السياسية، فرسم لنا في قصيدة «رأوك فيما يرى اليائس» لوحة شبقية يمارس الحب بين جدرانها، واستخدم كلمات عذبة فتح من خلالها أبواباً واسعة لساحات لاشعور القارئ ليخرج مشهداً عظيماً للحب المعطر بالياسمين والفل والكانفا.
جاءت القصيدة بصيغة «ديالوغ» كرّ وفرّ. مزيج من التطمينات والفراق. أمل وواقع. محادثة ملحمية بين عاشقين. سيوف يضرب بها كل منهما رقبة الآخر ويدافع كل منهما بها عن الآخر.
في قصة الأختين يُظهر الكاتب نوعاً جديداً من العلاقات الصامتة عندما تعرف كل الأطراف ماذا يدور من حولها ولا يجرؤ أي طرف على البوح فيهيمن الصمت وتسلل الأصابع ولكن سرعان ما ينهار كل شيء بما يشبه الصدمات النفسية.
تُظهر القصيدة التالية «تلميذة الراهبات» براعة الشاعر في فهم المرأة وكأنه قد تخطى ما بحث عنه ميل غيبسون في فلم «what women want» فطرق قلب المرأة واكتشف خبايا مشاعرها ووصف ذلك بكلمات سحرية كالمطر والذهب والغفران ممزوجة مع المر واليأس:
سرّحيني مثل نهرٍ في فرسٍ
خونيني
مع نَفَسي الذاهب
وأملي البدد
فهذه المرّة لا غفران
سأسمم حياتك بالحبّ
سأراودك بعيني رهينة ستعدم الآن
بجسدِ يائسٍ مفارقٍ
بمرارة سعادةٍ خاسرة
بعرشِ ملكٍ ذليل.
قصة عائدة الطويلة نسبياً استهلكت من الكاتب وقتاً سردياً مهماً وكأنه يرغب في إطالة الحديث عنها، تلمح من بين سطوره تعلقاً شديداً بها ربما ما زالت آثاره واضحة، وتبدو حروفه مليئة بالأسف واللوم لذاته التي فشلت في مقابلة عائدة جسداً لجسد. لم يكن الكاتب ذئباً أو انتهازياً، بل إنساناً طبيعياً يطيع هرموناته ويحاول إرضاءها بأقل الخسائر. يحترم المرأة، فعلى رغم الخطأ الذي ارتكبه، في عتمة السينما، وكلفه خسارة عائدة، لكنه كان إنساناً في سلوكه على أي حال، فبدأ قصيدته «زر الوردة» بسؤال مراوغ وأجاب عنه بشبه جمل أنيقة، أنهى من خلالها أفكاراً عدّة ممكن أن تجول في رأس المرأة بإجابات مثيرة يحمِّل فيها شخصه الذنب، فأزال عن كاهل المرأة عبء الاجابة:
«لماذا ترفّين حين أراك
كعصفورة في رياح كوانين
أو تحرنين كمهر يفرّ من الأسر
فيشرد في البحر
ليل فراش مضيء؟
ألأنّا خبيران في كيمياء المرارة؟
أم لأنا أنيقان في فضّة الانسحاب؟
لأنّا فقدنا طفولة دهشتنا العاطفية
أم لأني فحسب… حزين؟
استفاد الكاتب من معظم أسلحة الرجال، بدءاً من الاهتمام بالهدايا البسيطة والمؤثرة وصولاً إلى استخدام أسلحة تدمير رجالية شاملة يمثلها الوعد بالزواج، مكنته براحة ضمير من طبع علامة «ناجح» على كل العلاقات التي مر بها.
استخدم حسام الدين محمد سرداً واقعياً وجملة بسيطة ذات طبيعة صحافية ولم يلجأ إلى البهرجة وتلوين الكلام فكان أسلوبه شيقاً، على رغم النفس السردي القصير الذي يناسب القصص القصيرة، لكنه في قصائده بدا مختلفاً فطغى الشاعر بقوة على حساب الكاتب وكانت القصص مقدمات لذيذة لوجبة شعرية كاملة الدسم.
كاتبة سورية