الفرادة الجنبلاطية ونموذج الياس سركيس
هتاف دهام
يستعيد المراقبون تجارب تاريخية محدّدة تثبت أنّ غالبية الأقطاب السياسيين يفضّلون عدم وصول رئيس قويّ إلى بعبدا، لأنّ لكلّ منهم حساباته وأهدافه ومصالحه، التي لا يستطيع تمريرها بوجود رئيس قويّ.
في الغرف المغلقة يتمحور الكلام عن رغبة الأطراف السياسية في عدم وجود مرشح مسيحي قوي، بل رئيس على نسق الرئيس ميشال سليمان، أو الرئيس الياس سركيس، متذرّعين بخلافات المسيحيين في ما بينهم على الرئيس العتيد.
تريد بكركي من الرئاسة الأولى التمسك بثوابتها. لا يرغب الصرح البطريركي الإتيان برئيس قويّ كما كان الرئيس إميل لحّود الذي لم يمتثل لسياسة البطريرك الماروني نصر الله صفير يومذاك. ما تريده بكركي أن يصل رئيس توافقي على غرار سليمان إلى القصر الجمهوري يتناغم مع سياستها ويكون تحت عباءتها.
لن تقبل بكركي بتكرار تجربة الرئيس لحّود الذي وقف ضدّ سياسة البطريرك صفير الانتهازية، والجميع يذكر الرسالة الشهيرة التي بعثها صفير مكتوبة بخط يده ويطلب فيها من الرئيس لحّود مغادرة قصر بعبدا، فما كان من الأخير إلا أن أجابه شفهياً أنه سيعتبر أنّ الرسالة لم تصله، وكان الأحرى به أن لا يدعو أعلى منصب في الدولة إلى المغادرة استجابة للضغوط الخارجية.
وإذا كانت هذه هي حال بكركي، فلا عجب أن يرفض تيار المستقبل الرئيس القوي، بعكس حزب الله الذي يفضل رئيساً قوياً للجمهورية يوفر التوازن مع رئيس الحكومة، فحزب الله اليوم يهمّه أن يأتي رئيس جمهورية قويّ ملتزم بالمقاومة ويكون هدفه حمايتها، لا أن يأتي رئيس حساباته محض سياسية ومصلحية ولا يتورّع عن استهداف المقاومة تنفيذاً لمطالب وأجندات خارجية.
ولما كانت بكركي بما تمثل، وتيار المستقبل بما يحظى به من دعم خارجي، يخشيان الرئيس القويّ، فكيف بالأحرى برئيس جبهة النضال الوطني النائب وليد جنبلاط الذي لا ينفك يعلن هواجسه ويعتمد سياسة تحفظ ما يُسمّيه خصوصية طائفته.
وعليه، يرفض النائب الاشتراكي أيضاً الإتيان برئيس مسيحي قوي، ويُجري اتصالات ومشاورات محلية وخارجية، من أجل أن تجلس على كرسي الرئاسة الأولى شخصية وسطية وفاقية، كما فعل عند مناقشة قانون الانتخابات، فلجأ وبعض الكتل السياسية الأخرى إلى دعوة المسيحيين للاتفاق على قانون انتخاب، مدركين أنّ المسيحيين لن يتمكّنوا من الاتفاق حتى داخل الفريق الواحد، فمشروع «اللقاء الإرثوذكسي» لم يكن ليقبل به جنبلاط، لأنه يقزّمه حتى في عقر داره في الشوف وينتزع منه النواب المسيحيين والسنّة.
تقوم السياسة الجنبلاطية منذ عهد الراحل كمال جنبلاط على السعي إلى الإتيان برئيس للجمهورية من صناعتها، فهي تقوم على رفض الرئيس الماروني القويّ، وتسعى إلى أن يكون تحت كنفها، ولا تزال تتردّد في الأروقة السياسية مقولة جنبلاط الأب عندما أسقط الرئيس بشارة الخوري، وأتى بحليفه في الجبهة الوطنية آنذاك كميل شمعون رئيساً للجمهورية: «قلنا لهذا إذهب فذهب قلنا لهذا تعالى فأتى».
وقد نجح جنبلاط الابن في أن يبقي رئيس الجمهورية ميشال سليمان في صفه، فأخذ منه ما أراد. حصل جنبلاط مع خروجه من فريق»14 آذار» في عهد حكومة الرئيس نجيب ميقاتي على ثلاثة وزراء، وحصل في عهد الرئيس تمام سلام على حقيبتين وازنتين، ورغم محدودية تمثيله، إلا انه يملك حق الفيتو في المجلس النيابي ومجلس الوزراء.
ويعرف الجميع مدى الخصومة التي قامت بين جنبلاط وبين الرئيس لحّود، ولا يجدون أيّ رئيس قوي كان على علاقة جيدة به، بعكس الرئيس الضعيف الذي تراه على وئام معه. وعليه لن يقبل جنبلاط أن يصل إلى الرئاسة الأولى رئيس حزب «القوات» سمير جعجع مع ما يترافق ذلك من إحياء لمسيرة «القوات» في الجبل، كما أنه لن يقبل بالعماد ميشال عون الذي لا تربطه به علاقات وثيقة، لما يمثل من وزن سياسي وشعبي لم يعرفه حتى كميل شمعون في عزه، كما أنه لن يقبل بعودة الرئيس أمين الجميّل إلى بعبدا، خوفاً من إحياء نفوذ حزب الكتائب في الجبل.
الرئيس القوي الذي يعيد التوازن الى الجبل يقلق جنبلاط، لأنه يعيده الى وزنه الحقيقي، ولذلك نجد أن من أولويات جنبلاط الأساسية أن يبقى هو الأول في الجبل، هذا الجبل المكوّن من تركيبة مسيحية درزية، وبالتالي لا يناسب جنبلاط الإتيان برئيس ُينعش المسيحيين، وحسابات جنبلاط أنّ الرئيس القوي يخلق مشاكل ويضرب التوازنات اللبنانية، فيما الرئيس الماروني التوافقي يميل إلى التفاهم مع القوى الأخرى وعلى رأسها الأقليات.
تستشعر القوى السياسية أنها مرتهنة لوليد جنبلاط، وتنتظر الفرصة لأن تنتفض عليه. كلام نائب رئيس مجلس النواب فريد مكاري «أن الحسنة الوحيدة للتوافق بشأن الاستحقاق الرئاسي هو إلغاء دور رئيس اللقاء الديمقراطي النائب وليد جنبلاط كـ»بيضة» القبّان بين الأكثريتين في البرلمان»، لم يكن مجرّد كلام، فتيار المستقبل يعتبر أنه طالما ليس متحالفاً مع الشيعي والماروني فإنه سيبقى تحت رحمة جنبلاط، فالحلف الماروني ـ السني، بالتفاهم مع الشيعي، يؤدي عملياً إلى جعل دور جنبلاط هامشياً، كما كان الأمر في العام 1998 عند انتخاب الرئيس إميل لحّود الذي حصل على 118 صوتاً ولم يعارض انتخابه سوى 9 نواب كانوا يشكلون كتلة جنبلاط يومها، إضافة إلى الرئيس عمر كرامي الذي كان موجوداً في المجلس النيابي لكنه لم يدخل إلى القاعة العامة نتيجة قراره السابق بمقاطعة كاملة لولاية المجلس النيابي الذي انتخب في العام 1996.
لذلك فإنّ جنبلاط يتخوّف من التوافقية التي قد تأتي بالعماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، وتضعه على الهامش، وتفقده دوره كـ«بيضة» قبان في أي استحقاق.
وأمام ذلك يؤكد المراقبون أنّ جنبلاط لا يمكن أن يتقبّل العماد عون رئيساً، وذهابه إلى فرنسا هو لعدم الإتيان به، فهو يريد رئيساً ضعيفاً لا لون ولا طعم له. رئيساً يبقي على التوازن الحاصل. فهل يكون حاكم مصرف لبنان رياض سلامة هو المرشح الخفي لوليد جنبلاط.