«تأليه» الأصنام
شبلي بدر
لو قدِّر للأصنام أن تؤلِّه ذاتها، أو أن يؤلِّهها صُنّاعها ونحّاتوها لنطقت منحوتة «رودان» التي تلقت ضربة من مطرقته بعد أن فرغ منها ولكنها لم تنطق كما أراد لها. ذلك أنّ كثيرين من «السلاطين» منذ غابر الزمن، زرعوا في بلاطهم وبين مواكبهم أتباعاً لم يعرف التاريخ ضعة زرعت في نفوس بشرية جاوزت حدودها أكثر من التي نمت في بنيانهم النفسي والتقني، على رغم ما حوته الإشادة بأدوارهم من قبل من أفسح المجال لكلّ منهم أن يحسب أنه «أعظم من تسعى به قدم».
كم شهد التاريخ القديم والحديث على امتداد مساحة العالم العربي أمثال من نتحدّث عنهم، من الأحياء والأموات، إذ كانوا ولاة من دون ولايات، أسماء من دون المستوى الوطني والقيمي، يبثون الإشاعات والأكاذيب بين رعاياهم، ويذرون رماد الفتن على رؤوس الخلق، يشوّهون سمعة وتاريخ الرجالات الكبار، لتبقى لهم شمولية رعاية أسيادهم ورضاهم ومكارمهم وغنائمهم التي يغدقونها من دون حساب، كما لو كانوا قطعاناً بشرية لا كرامة لها ولا عزة نفس، أو أرتالاً من الغواني يجهدون بكلّ طاقاتهم الهشة وألسنتهم الذربة لإرضاء نحاتيهم وصنّاعهم.
ابتلي العالم العربي بأمثال هؤلاء «الأسياد» فتحكموا بمقدرات بلادهم وأبقوا شعوبهم ترزح تحت خط الفقر المدقع، وتعمَّدوا تجهيل الأجيال الشبابية، ودسّوا بينهم مفاهيم مشوّشة للعقول وزيّنوا لهم الشذوذ عن القيم، وأطلقوا العنان للمفاهيم المغلوطة، فبات المجتمع العربي الأوسع مطية لكلّ رذيلة أو صرعة تأتيه من الخارج. وعن يهود الداخل والخارج في هذا المجال حدّث ولا حرج.
ويسأل سائل لماذا وصلت الحال إلى هذا الدرك من الانهزام، أما الجواب فيعرفه كلّ ذي حجى، بأنّ المثالية غير موجودة في أيّ من مفاصل الحياة الاجتماعية، إلا عند المتألّهين أصحاب الرسالات السماوية والأنبياء الصادقين في نبوءاتهم، ذلك أنّ هناك أكثر من «مسيح» كاذب و»نبي» دجَّال و»سلطان» قزم، تحكموا جميعاً برقاب شعوبهم وصنعوا أصناماً على شاكلاتهم وأذلوها حتى آخر رمق، وكما يقال: إنّ الشعوب الجائعة لا همّ لها إلا التفتيش عن لقمة عيشها لأنّ الجوع كافر، وحكام العصور الظلامية طبقوا هذه الأساليب بكلّ ما في الكلمة من معنى.
تتساقط الأصنام الحاكمة في هذا القفر الصحراوي واحداً بعد الآخر ولن يبقى على امتداد العالم العربي إلا القادة الكبار الذين ما وهنت قواهم، والذين لم يصنعوا لهم ظلالاً تحاكي أشكالهم الهرمة الفارغة المضمون، ولن يصمد في هذه المرحلة الأشدّ خطورة في تاريخ الأمة، إلا الذين عقدوا العزم على بذل كلّ ما في وسعهم من التضحيات، للدفاع عن هذا الوطن أمام الجحافل الغازية، والذين يزفّون شهداءهم من دون خجل ويعلنون أسماءهم على الملأ بكلّ فخر واعتزاز. لأنهم يدافعون عن قضية مصيرية ووجودية مهما غلت التضحيات. رجالات كبار وقادة ميامين ومقاتلون أشداء وشهداء أكارم لا ينتهون بمأتم، والسؤال عنهم كبير جداً لا تجيبه الكلمات بل الأفعال التي يشاهدها العالم بأسره كلّ يوم.
الأصنام مهما بلغت روعتها، مصيرها إلى الزوال وغياهب النسيان، والقادة الأبطال مهما تعاظمت في وجههم الأخطار والمحن يتألقون وينتصرون، ذلك هذا هو القضاء والقدر.