«الدكتاتورية الدستورية»

خضر سعاده خروبي

من البديهي القول إنّ الحياة السياسية في كثير من دول العالم تتمحور حول مسألة الديمقراطية ومندرجاتها من انتخابات وتداول سلطة ومشاركة سياسية وغيرها من المفاهيم التي تعودنا سماعها على إيقاع أي عملية انتخابية نشهدها. وفي السنوات الأخيرة، لم تعد هذه المسألة مجالاً خاصاً تضطلع فيه الحلبة السياسية الداخلية بعدما أخذت أبعاداً دولية مع تبني الإدارة الأميركية السابقة ما يمكن وصفه بجدول أعمال شكل في جزء منه إرثاً من جملة مبادئ، كـ»الديقراطية» و»حقوق الإنسان» وقناعات بإمكانية استخدام القوة الأميركية في «أغراض أخلاقية»، تعمقت آثاره تدريجياً على صعيد السياسة الخارجية الأميركية منذ ما قبل فترة الحرب الباردة وصولاً إلى إفرازاتها، وخصوصاً مع بروز جناح «المحافظين الجدد» في واشنطن الذين طرح مفكروهم في فترة سابقة للعام 2000 ما يمكن اعتباره جدول أعمال للسياسة الخارجية يتضمن مفاهيم مثل «تغيير النظام»، و»الهيمنة الخيرة»، و»الهندسة الاجتماعية»، وهي المفاهيم التي أصبحت سمات مميزة لـ «الحقبة البوشية». وبهذا، فقد أصبحت الديمقراطية «موضة سياسية» و»خطاباً معولماً» طور الزعماء السياسيون حول العالم معلوماتهم عنه مع الوقت حتى أصبحت الكلمة الموضوع في أغلب خطاباتهم، وتراوحت دواعي الزعماء هنا وهناك حول حول الشروع في مسيرة «إعادة التأهيل السياسي» بين الخوف والرجاء، أملاً بألا تبقى أنظمتهم «غير مطابقة للمواصفات العالمية»، لما يعنيه ذلك من ويل وثبور و»عظائم الأمور». الواقع، أنّ أحداً من الزعماء لم يرتح إلى هذه «الموضة»، وقد بدت لكثيرين منهم غريبة. من هنا، لم يعدم أي من هؤلاء السبل لتفجير إبداعاته وابتكاراته في فنون التمويه أو التجميل من أجل التوصل إلى صورة كاريكاتورية شكلية في الحكم تستوحي ديمقراطية لا يرغبها.

وتشهد الكثير من التجارب على نماذج ناجحة من صور إفراغ العملية الديمقراطية من مضمونها. ففي باكستان، على سبيل المثال، قام عدد من الجنرالات بانقلابات في حقب مختلفة تمّ «تطعيمها» دستورياً من خلال تعديلات جرت أول فصولها في عهد الجنرال محمد ضياء الحق، ومن ثم في عهد الجنرال برويز مشرف بحيث صار شخص الرئيس هو محور النظام. وهناك أقاويل جرى تداولها في وسائل الإعلام خلال الفترة الممتدة من العام 2008 الذي شهد انتهاء ولاية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حول سيناريوات مشابهة سرعان ما تبدّدت لصالح صيغة أخرى من تداول السلطة ما زال كثيرون يشككون في حقيقتها الديمقراطية.

وفي تركيا حالياً، لم يعد سراً أنّ الرئيس رجب طيب أردوغان يرغب في تعديل الدستور عند أقرب فرصة سانحة من أجل الانتقال إلى نظام رئاسي يركز الصلاحيات بين يديه. ولعل فترة الانتخابات النيابية التركية الحالية، هي الفرصة المناسبة لتحقيق هذه التطلعات.

وكان نظام أردوغان لجأ في فترة سابقة إلى قوننة العديد من الإجراءات «القمعية» مستغلاً أغلبية مريحة في البرلمان تعينه على ذلك، وقد نجح في العديد من تلك المحاولات، الأمر الذي وضع تركيا في درجة متدنية على سلم الحريات وفق تصنيفات منظمات حقوقية دولية.

إضافة إلى ذلك، تزداد علاقة حكم «العدالة والتنمية» بزعامة أردوغان بالصحفيين توتراً يوماً بعد يوم لا سيما بعد ما كشفت عنه مؤخراً صحيفة «جمهورييت» من تورط حكومة أنقرة في قضية إرسال أسلحة إلى سورية وهو الأمر الذي طالما نفته. وفي هذا السياق، اعتبر رئيس «حزب الشعب الجمهوري» المعارض كمال كيليجدار أوغلو أنّ «تركيا فقدت الكثير من ديمقراطيتها في السنوات الـ 13 الماضية» وزاد عن الفترة التي حكم خلالها حزب «العدالة والتنمية» قائلاً: «إنّ سياسة تركيا الخارجية جعلتها أكثر عزلة من أي وقت، سواء من الاتحاد الأوروبي أو الشرق الأوسط. الحكومة تتدخل في الشؤون الداخلية لدول أخرى، وهذا يناهض ماضينا وثقافتنا» في إشارة منه إلى سياسة «أبو الأتراك» وفق المعادلة التي ينقضها أردوغان معادلة سلام في الداخل سلام في الخارج .

وقبل أيام من انطلاق عملية انتخابية وصفت بـ «الأخطر» في تاريخ تركيا لانتخاب 550 عضواً في البرلمان، فإنّ الحديث في التوقعات والاحتمالات المستقبلية على الواقع التركي لا ينقطع. وبعدما شهدت السنوات الأولى لدخول أردوغان المشهد السياسي التركي «رزماً إصلاحية» لاقت إشادة كثير من المراقبين من زاوية الحريات الأساسية، بات من الواضح أنّ الأسلوب الذي انقلب عليه أردوغان حين كان في صفوف المعارضة يعود اليوم ويتباه بصفته رئيساً، وإن كان هذا المنصب الرفيع يقتضي حداً أدنى من الحياد السياسي لا يراعيه أردوغان «صاحب الثأر الشخصي» مع وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي. فقد قالت صحيفة «الدايلي تليجراف» في شباط الماضي، أنّ الرئيس التركى يصعد حملته لسحق حرية التعبير، مشيرة إلى أنّ تركيا هي أكثر بلد فى العالم تقدم بطلبات لإزالة مواد وغلق صفحات على «تويتر» خلال الأشهر الستة الأخيرة من 2014، ومشهود لسياسات «الزعيم الكاريزماتي» بقدر واسع من الانتهازية، وخصوصاً الداخلية منها. فقد استغل تطلعات قطاع واسع من الشعب التركي على طريق الالتحاق بالاتحاد الأوروبي وشروط هذا الالتحاق من قيم العدالة وحقوق الإنسان ورسم واضح لحدود العلاقات المدنية العسكرية التي شكلت على الدوام إحدى النقاط الإشكالية على «العملية الديمقراطية» في الجمهورية التركية، وذلك من أجل تقليم أظافر المؤسسة العسكرية المنوطة بدور «وصائي» على النظام السياسي التركي ترسخ بوضوح منذ «الحقبة الأتاتوركية» في غير محطة.

كما أنّ الرئيس التركي استغل ورقة «مفاوضات السلام مع الأكراد» كمحاولة لتلميع صورته كزعيم «وطني» عابر للعصبيات القومية قبل أن تكشف معارك كوباني ملامح وجهه السياسي و»الإنساني» الحقيقي، ما أفسح في المجال لسحب بساط «التصويت الكردي» من تحت قدميه وقلب الأوراق من جديد على الساحة السياسية التركية لصالح أحزاب لها حظوظ وافرة في الانتخابات البرلمانية اليوم لتقويض حلم أردوغان الخاص بإجراء تعديل دستوري من شأنه تحويل النظام السياسي التركي من برلماني إلى رئاسي.

للمرة الأولى، يلعب الملف الاقتصادي لصالح معارضي «العدالة والتنمية»، في حين بدأت نزعة التفرد لدى أردوغان تثير انزعاجاً لدى قواعد ومحازبي «العدالة والتنمية» بمقدار قد لا يختلف كثيراً عن ذلك الذي ما زالت تثيره لدى غير المحازبين، وهي لا شكّ ستعبر عن نفسها في شكل أوسع بعد انقضاء فترة الانتخابات على موازين القوى داخل الحزب الحاكم، وعلى صعيد الحياة السياسية التركية في شكل عام.

من المتوقع أن تقضي الانتخابات البرلمانية نهائياً على تفرد حزب «العدالة والتنمية» وحلم زعيمه بـ «دكتاتورية دستورية» ولكنها انتخابات قد تحمل ما هو أكثر. فهي تبقى ملأى بالمفاجآت.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى