على وقع «النكبة»… لا تراجع ولا استسلام

إيهاب حسن

من المؤكد أنّ النكبة التي تسبّبت بتهجير 800 ألف فلسطيني من قراهم ومدنهم في فلسطين ووصل عددهم راهناً إلى نحو خمسة ملايين لاجئ، ليست مجرد حدث نستذكره في 15 أيار من كلّ عام بل إن بصماتها أضحت مثل الوشم الذي لا يُمحى، وآثارها محفورة في داخلنا، وتتوارث الأجيال أحاسيس هذه النكبة التي لا تتوارى بل تزداد وتتعمق يوماً فآخر، حتى أن العروبة والقومية تراجعتا أمام القُطرية والتفتيت… لكن السؤال الذي يجدر طرحه: إلى متى سنظل نبكي على اللبن المسكوب؟!

إذا كانت فلسطين استلبت في مثل هذا الشهر قبل 66 عاماً من خلال التواطؤ والخيانة والخداع، فإن وطننا العربي يُغتصب يومياً بسبب التفريط والعجز وتأجيج الفتن هنا وهناك، وبدلاً من تحويل المصيبة التي حلّت بالأمة للنهوض بها، أصبحنا نردد شعارات رنانة، حتى الصادقة منها فقدت معناها لكونها مجرّد كلمات حماسية لا طائل منها.

ما يرثى له أن شعوبنا جردت كذلك من وعيها وذاكرتها، ما يجعلها مهيّأة للسقوط فى شرك الأعداء، وستفقد بسهولة تامة أيضاً سلاحها المادي والمعنوي. لكن مع إحساسنا بالخطر المحدق بنا وقيامنا بما يستدعيه منا هذا الإحساس من فعل، يمكن أن تتبدل حالنا لنفيق من حالة اللا وعي.

إذا كانت أول انتفاضة شعبية فلسطينية عام 1987 شكلت عبر «ثورة الحجارة» حركة شعبية نجحت فى زعزعة وضع الاحتلال القائم، فإن مفارقة الإبداع العربي أنه يتجسد بين الحين والآخر في السعي إلى استئناف المفاوضات مع الكيان الصهيوني عبر الوسيط الأميركي الذي يدعون نزاهته.

يبدو أن العرب أدمنوا دور المفعول فيه، ويكفي أن ننظر إلى حالنا لندرك أن النكبة ما زالت مستمرة وتتجدد يومياً، في حين يتواصل المشروع الصهيونى رغم عثراته الذاتية، في ظل عدم وجود استراتيجية حقيقية حيال استمرار أو إيقاف مهزلة ما يسمى بعملية التسوية، إذ لا وجود لأي ورقة ضغط فعلية نستطيع من خلالها فرض شروطنا، بسبب حالة العجز والتشرذم واتجاهنا إلى محاربة بعضنا البعض بدلاً من توحيد جهودنا وطاقاتنا وتوجيهها نحو العدو الذي يسخر من تردادنا مقولة أن الصراع العربي «الإسرائيلي» هو صراع وجود.

هنا بيت القصيد، إذ لا قرارات قوية لأنظمنتا تلبي آمال شعوبنا وطموحاتها وتتصدى للمخططات التوسعية الاستيطانية عبر الالتزام بالمشروع القومي الوحدوي ونبذ الخلافات البينية لكي يستعيد النظام الرسمي هيبته ويلملم أوراقه المبعثرة والممزق معظمها، قبل وبعد هبوب رياح «الربيع العربى» الذي فجر أزمات محلية وإقليمية طاحنة وفتح مستقبل المنطقة على المجهول عبر إرهاب ممنهج تحت عباءة الإسلام السياسي مموّل من الغرب بمساعدة بعض حكامنا العرب.

ها نحن بعد 24 عاماً على بدء مسرحية السلام الهزلية في المنطقة نقف «محلّك سر» لكن مع متغيرات كثيرة على الأرض حدثت وما زالت مستمرة عبر التوسع الاستيطاني وجدار الفصل العنصري الذي يلتهم أجزاء كبيرة من أرضنا في فلسطين، ناهيك عن الحصار والغارات وهدم البيوت وتقطيع وتجريف الأرض، وهي ممارسات لا تخفى على أحد وتتم تحت سمع وبصر ما يسمى بالمجتمع الدولي.

على نحو ممنهج، تتم محاولة احتواء السلطة الفلسطينية، عبر حلقة مفرغة من المفاوضات الجوفاء التي فتح ستار الفصل الأول من مسرحيتها في المحادثات السرية في أوسلو عام 1991 وأفرزت مؤتمر مدريد ليقرّ ما سمي آنذاك: «مبدأ الأرض مقابل السلام»، إلى أن وقعت اتفاقية أوسلو في واشنطن عام 1993 ونصت على إقامة ما يعرف حالياً بالسلطة الوطنية الفلسطينية، ثم أوسلو 2 في عام 95، تلتها بعدها بثلاث سنوات اتفاقية واي ريفر، ثم كامب ديفيد الثانية التي حمل الصهاينة والأميركيون مسؤولية فشلها للجانب الفلسطيني الذي لم يكن ليجرؤ على توقيع اتفاق ينقض من السيادة على القدس ويسقط حق عودة اللاجئين.

ثم كانت «خريطة الطريق»، وكالعادة لم يتم الالتزام ببرنامجها الزمني وتم التهرب بما نصّت عليه، وصولاً إلى مؤتمر «أنابوليس» الذي سعت واشنطن من خلاله إلى إحياء خطة خريطة الطريق، لكنها آلت في نهاية المطاف إلى الفشل المعهود نفسه.

الآن، تعاد الكرة مجدداً تحت وهم التسوية. وتكمن مفارقة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس الذى أبلغ مستشارة الأمن القومي الأميركي، استعداده للعودة إلى مباحثات التسوية مع الاحتلال فوراً، شرط تركيزها على قضية الحدود ووقف البناء في المستوطنات خلال فترة المفاوضات! والأدهى أن رئيس الوزراء الصهيوني نتنياهو أكد من ناحيته أنه لن يكون هناك أي «اتفاق سلام» من دون «إلغاء حق العودة» للاجئين والاعتراف بـ»يهودية» الدولة العبرية، إذ ليست لديه أي مسؤولية أخلاقية.

ثم يبقى هذا السلام المنشود مجرّد وهم كبير كونه لا يمكن أن يلتقي مع الاحتلال والاستيطان، خاصة أن حكامنا العرب لا يملكون ويا للأسف أوراق ضغط يمكن التعويل عليها، بل على العكس، ينصاعون للإملاءات والتنازلات، وبالتالي لن ينتج من هذه المفاوضات إلاّ مزيد من خيبات الأمل التي ابتلينا بها على مدى ربع قرن.

لا أقل من أن نعلن صراحة، في ظل حالة اللاسلم واللامواجهة، رفضنا للمفاوضات لأنها ليست سوى مضيعة للوقت، وبالتالي لا مخرج من حالة التردي التي نعيشها إلا بانتفاضة شعبية ثالثة سلاحها الغضب، عبر فتح أشكال جديدة من الخيارات بما في ذلك المقاومة فى مواجهة الاحتلال ومخططاته التى تهدف أيضاً إلى هدم الأقصى ليحل مكانه الهيكل الثالث المزعوم، في ظل صمت عربي وإسلامي مريب، ما شجع الصهاينة على التمادي في كل ما يخططون له ويطمحون إليه.

نأمل فى أن تبقى المقاومة هي الحل المشروع حتى دحر الاحتلال، لعلها تكون واحدة من أوراق القوة في ظل المفاوضات العبثية التي لا طائل منها سوى إهدار مزيد من الوقت والجهد، وإعطاء شرعية لمن لا شرعية له، هذا إذا كنا ما زلنا نعتبر فلسطين هي قضيتنا المركزية الأولى.. ومن ثم يجب التمسك باللاءات الثلاث «لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف» وأن يضاف إليها «لا تفريط» من خلال برامج عمل فعالة ومقاومة حقيقية يُحسب لها ألف حساب، مع شطب كلمة النكبة من قاموسنا، إذ لن نجلس للرثاء بعد اليوم، لأن العودة حق مقدس، ولا يمكننا التنازل عن أرضنا فهي عرضنا الذي لا يمكن التفريط فيه.

مدير تحرير جريدة «العربي»

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى