العنكبوت الصهيونيّ
د. نسيب أبوضرغم
في أميركا الوسطى نوعٌ من العناكب، غريب التكوين، ولديه وسائل دفاع فريدة من نوعها غير معروفة في حشرة أو حيوان آخر.
هذا العنكبوت إذا ما تعرّض لخطر ما، لا يعمد إلى قتل خصمه، إنما يضخّ في جسمه مادة غريبة تحوّل جيناته من جينات تكتنز قوّة الدفاع عن النفس، إلى جينات مستسلمة مستعبدة لهذا العنكبوت، وبالتالي يصبح الخصم عبداً مطيعاً.
الصهيونيّ، أتقن هذه الطريقة، لا بل هو السبّاق إليها تاريخياً في عالم البشرية، وحتى يصل إلى الهدف ذاته الذي يصل إليه العنكبوت الأميركي، جعل من الثقافة تلك المادة التي يحقن بها العقول والنفوس، فيتحوّل الآخر إلى عبد مطيع ينفّذ عن رضى وقبول، وربما باندفاع لافت، ما يريده السيّد اليهودي. المادة الثقافية المتوفرة لديه وبكثرة، سواء في الأفكار البراقة، أو في الفنّ أو في الثياب… ثقافة تمسخ الذات التاريخية ـ الحضارية التي تستبطنها نفوسنا وعقولنا، وتحوّلها إلى ذاتٍ هجينة فارغة مملوءة بهذه المادة الثقافية الماسخة والمحوّلة الذات من طبيعة مقاوِمة، إلى طبيعة مطواعة.
وليس صدفةً أن يكون اليهود ومنذ عهود قديمة، قد عرفوا أهمية هذه الثقافة المزيّنة، لا بل أهمية الوسائل التي تنقلها إلى الذات العامة. الوسائل التي يستفيد منها الصهاينة أكثر من سواهم، وأعني وسائل الإعلام على كافة أنواعها، الوسائل التي طُبعت بالمال اليهودي وجعلت من نفسها أداةً لاستعباد الذات العامة والفردية عندنا.
أن تقتل خصمك، فأنت بذلك تحقّق لا شكّ إنجازاً. لكن هذا لا يعفيك من أن تستمر وحيداً في قتال الباقين من الأخصام.
أما أن تتبع أسلوب الاستعباد الثقافي، فإنك تحقّق الإنجاز المبدئي في شلّ قدرة خصمك. ولكن، وبشكل أكثر إبداعاً، تحوّله إلى قوة تقاتل عنك، وربما تكون أكثر كفاءة، ذلك أنها تعرف كيف تطعن الجسم الذي هي منه وفيه.
من ينظر إلى الواقع القائم على مدى العالم العربي، يدرك يقيناً صحة ما نقول، فيسمع مثلاً، قائلاً يهاجم قوةً فيه وله، في وقت غاب عن ذاكرته عدوه الحقيقي.
يقول ما يقوله عدوه، وينصاع لما يمليه عليه عدوّه، فناً، وعلماً، وزياً، وسياسة واقتصاداً. والأخطر من ذلك كلّه، أنه يقوم بذلك كلّه. معتبراً نفسه أنه قد أنجز فعلاً حضارياً، يجعله يتبوّأ المكاة المرموقة بين الشعوب عندما لا تعود أنت، صار بالإمكان أن تكون أي شيء.
لم نعد نحن في كثيرٍ من أمورنا. فعلت المادة الصهيونية فعلها في جيناتنا الثقافية. لم نعد نعي من نحن. تهدمت ذاكرتنا في هذا الأمر. لم نعد ندرك من هو الآخر، الذي غيَّبت عن ذاكرتنا الجمعية صفته كعدو، ونقش وحفر عميقاً في «وعينا» صفته كمثال!
لم يعد ذوقنا هو هو، وطعامنا هو هو، وكذلك ثيابنا. صرنا مخلوقات هجينة، نسيَت من هي وأضحت وعاءً فارغاً أعدّت الصهيونية منذ زمن المادة اللازمة لملئه.
صارت بغداد وبيروت ودمشق وصنعاء محتلة، ولم تعد فلسطين محتلة، صار العدو إيران ولم تعد «إسرائيل»، صار الصراع سنياً ـ شيعياً ولم يعد مع العدو الدهري ـ اليهود.
صار الكلام عن تحرير الأرض المحتلة لغة خشبية، والكلام التحريضي المسعور المنظم ضدّ المكوّنات الذاتية كلاماً ذهبياً.
صار كل ذلك، لأن المادة الصهيونية الثقافية المحقونة في خلايا أدمغتنا ونفوسنا قد فعلت فعلها.
كل الصراع الآن، هو بمضاد ثقافي، يُحقن في خلايا الأدمغة والنفوس ليقضي على فيروس الاستعباد الآخذ في الاتّساع والعمق، ولتستعاد حيويتنا الثقافية الصافية.
في هذا السياق، لا نرى أفضل من قول أنطون سعاده: «كلّنا مسلمون لربّ العالمين، منّا من أسلم لله بالإنجيل، ومنّا من أسلم لله بالقرآن، ومنّا من أسلم لله بالحكمة، وليس من عدو يقاتلنا في حقنا وديننا ووطننا إلا اليهود». المضاد الثقافي المطلوب في صراع الحياة أو الموت، أن نعرف أن ليس من عدوّ يقاتلنا في حقنا وديننا ووطننا إلّا اليهود.
إنها ثقافة الحكمة، وحكمة الثقافة.