«تحت سماء الشيطان» لقيس حسن… مفكّرة شخصيّة لأربعة عقود عراقيّة
كتب حيدر الحجامي: أشياء كثيرة تظل تلحُ على الذاكرة، تُثقلها، تنكأ فيها جروحاً غائرة دوماً، لا سبيل للخلاص منها ومن أوجاعها سوى البوح بها. أكثر ما يُريح ذاكرة مثقلة أن يبوح المرء وينسى، أو يتناسى على الأقل! في المرات السابقة التي عرضت فيها لأعمال أدبية عراقية صدرت بعد 2003، كانت الثيمة المشتركة فيها، أنها أعمال تدين الحرب على نحو متأخر كنوع من الاحتجاج على الاحتفاء الدائم بالحروب التي شهدتها بلاد ما بين النهرين منذُ ستة عقود على الأقل.
المفارقة الأهم تكمن في أن سرديات البلاد القديمة واللاحقة كانت ولا تزال تحتفي بالحرب أيّما احتفاء، يمجّدها تذكر السكان هنا مجد الحروب الغابرة التي جلبت المجد، وتدعوهم إلى المزيد من الانغماس فيها إن أرادوا ان يتخلصوا مما يقاسونه. مروياتنا التاريخية كلها، لا تدين الحرب البتة، بل تحتفي فحسب. ولعل ما صدر من أعمال شحيحة بعد 2003 يحاول أن يكون بديلاً أو يشكل على الأقل وجهة أخرى لسرد غير تلك السيرة «العطرة» للحروب، فكل سلطان يأتي ولكل سلطة تمسك بزمام الأمور هنا قاموس ومعاجم عملاقة من النصوص «سرد ونثر وشعر» تحتفي بالحرب، وتعلم الحكام أن لا سبيل لدخول بوابة التاريخ إلا على أكوام من الجماجم وفي قارب تحته أنهار من الدماء!
وقع بين يدي كتاب آخر يدين الحرب ويصف أوجاعها ويحتج بدوره متأخراً على الحروب الثلاث التي شهدتها البلاد، لكاتب شاب شهدها معاً ووعى معها صورة غير تلك التي تصوّرها «الميديا « للناس. فالصور التي تُنقل في أجهزة الإعلام في الأنظمة الشمولية مسطحة، فارغة، هدفها التوجيه والتمويه، إلا ان صور قيس حسن في مرويته المهمة «تحت سماء الشيطان» تكتنز صوراً مليئة، صور لم تستطع الذاكرة وحدها أن تختزنها أكثر من جروح فحسب، وقد يكون متعذراً بعد زمن تذكر سببها، إلاّ أنها تبقى تنز بدفق مدمر.
ينطلق قيس حسن من تجربته الشخصية مع الحرب، متخذاً منها مفكرة شخصية توثق من خلالها حياة العراقيين، فهم يكتبون تاريخهم مع الحروب، ويوثقون للحظاتهم العابرة مع كل نزال تخوضه بلاد تعشق الحروب. في مفكرة قيس حسن تجد بوضوح كيف ان الحرب دمرت كل شيء، ولم يعد لشيء معنى، كما يقول الكاتب والصحافي أحمد المهنا الذي قدم للكتاب قائلاً: «إنه حكاية عمر أكلته حروب متواصلة، تهدأ ولكنها لا تنتهي، تبرد ولكن شراراتها لا تنطفئ، وتتخفى لكن لا ترحل. كما أنه شهادة فريدة من نوعها عن حياة الشدة والعسر التي دخلتها البلاد منذ الحرب العراقية – الإيرانية ولم تخرج بعدها من سيرة الحروب».
يعود قيس في مفكرته الى الجذور الأولى لتلك العوائل التي نزحت في الخمسينات والستينات وما تلاها من الجنوب الى العاصمة، هرباً من الفقر أو الظلم أو المشاكل العشائرية، لتجد نفسها في أتون مجتمع متطور، مجتمع يتنفس حداثة العالم، فيحدث ما يشبه الفصام بين الطرفين، فالأول غير قادر على هضم ما تعنيه الحياة في عاصمة ناهضة، ولا الثانية بطبقيتها وبيروقراطيتها قادرة هي الأخرى على دمج هولاء المهاجرين في حياتها بيسر.
لا يقف الكتاب طويلاً أمام هذا الانتقال المتناقض، مع أنه ظل على الدوام مصدر صراع بين العاصمة وسكانها والقادمين إليها، ولم تستطع عقود من الصهر الاجتماعي إذابة الحواجز، غير أن حدثاً استثنائياً استطاع الإجهاز على طبقة بغداد الوسطى لينهي فيها هذا التنافر ولو ظاهرياً وأعني به الحصار الأميركي في التسعينات.
لم تعرف البلاد حرباً في تاريخها المعاصر مثل تلك التي اشتعلت مع الجارة إيران. يدون قيس بدقة تامة التفاصيل الصغيرة، ويشهد اللحظات الأولى لاندلاع أطول صراع شهده القرن الماضي. كانت البلاد تدفع معه ثمناً باهظاً من الدماء والمقدرات والتأخر، ولم تستطع إيقاف نزوة الحكام تلك الرغبات المكبوتة في إيقاف المحرقة الأكبر.
يحفل الكتاب بفصول قصيرة يستخدم فيها الكاتب مقولات فلسفية أو شعرية او سياسية لتكون مفتتحاً لحكاية تليها، يروي من خلالها حكاية من تلك الحكايات الكثيرة التي نستها ذاكرة خربة، لكن يقظة الكاتب وحس التدوين والأرخنة التي تملكته جعلتنا نطلع على تلك المدونة المهمة.
في الفصول القصيرة أو الحكايات يتخذ الكاتب دور الراوي وهو يروي لنا مصائر مختلفة من خلال أسماء لشخوص مروا في حياته، وتفاوتت نهاياتهم، إما قتلاً في تلك الحروب، أو في دهاليز الاستبداد الذي يفضحه قيس حسن بشكل موثق.
قارئ هذه المفكرة يجد مشتركاً كبيراً بين ما عاشه القارئ شخصياً وما يرويه الكاتب، وهذا التطابق أو الاشتراك يعطي دلالة واضحة. إن ما كتبه قيس حسن لم يكن تجربة شخصية البتة، بل تجربة مشتركة لملايين العراقيين الذي عاشوا في «جمهورية الخوف»، فالنهايات القصوى للتعذيب والتغييب كانت الحكاية الأكثر رعباً، وكلنا كدنا، او كان بعضنا بالفعل أبطالا لمثل هذه الحكايات.
يمر الكاتب على الحرب الإيرانية بتؤدة، سارداً تفاصيلها كتحليل اجتماعي لأثر الحرب، ويستشهد بأمثلة ثما تركه الحرب من ندوب في جسد المجتمعات، فنلمس معه ملمس التفكك والتشظي الاجتماعي الذي كان ينخر مجتمع الحرب الذي بدأ يفقد مع الحرب إضافة الى حشود بشرية قيماً اجتماعية. ثم يمر بنا على حرب الخليج الثانية واحتلال الكويت وما تلاها من أوجاع قاسية، لا سيما الحصار الاقتصادي المروع الذي فرضته أميركا وحلفاؤها على البلاد، إذ وصل التحلل ذروته، وكانت البلاد تفكك على نحو فظيع مثل جثة هامدة.
لعل ما يميز المدونة أو المفكرة كما يحلو لكاتبها تسميتها، أنها كانت تحوي صورة أخرى غائبة عن الوعي العراقي، أعني نجاحه مطلع القرن الجاري في الهجرة إلى إيران حيث معقل المعارضة الإسلامية «الشيعية»، ليوثق ذلك التحلل بوجه الآخر، فالتحلل العميق الذي كان داخل البلاد، كان ينسخ ذاته في خارجها عبر دكاكين المعارضة العراقية التي كانت الصورة الأخرى لسماء واحدة يطبع شيطان الانقسام والتشظي وجهه عليها أيضاً.