زيارة البطريرك الراعي للقدس تطبيع مع العدوّ الصهيونيّ

د. إبراهيم علوش

يخطئ من يعتقد أن زيارة البطريرك بشارة الراعي للقدس في ظل الاحتلال الصهيوني شأن شخصي أو كنسي ماروني أو مسيحي أو لبناني، أو حتى شأنٌ يتعلق بحزب الله وقوى 14 آذار وحدها. فالزيارة التي تأتي لملاقاة البابا فرنسيس الأول في القدس، قادماً من جهة الأراضي المحتلة عام 48، هي شأنٌ عام يتعلق: 1 – بالقابعين تحت الاحتلال الصهيوني جنوب بلاد الشام، 2 – بالأمة العربية وحقها التاريخي في أرض فلسطين، و3 – بجميع مناهضي الصهيونية في العالم من غير العرب، سواء من منطلقات إسلامية أو أممية أو حتى بودية.

في الشأن العام، أي في الشأن الذي يمس الملايين، لا يحق لأيٍ كان أن يقول من لا يوافق على زيارتي للقدس فلا يزر بكركي، أو لا أطلب من أحد أن يقبل بزيارتي للقدس، كما رشح من وسائل الإعلام عن البطريرك… كذلك ليس صحيحاً، كما رشح عن بعض المرجعيات الإسلامية في لبنان، بأن زيارة القدس أمرٌ يتعلق بالراعي وحده. فإذا كانت فكرة الوصايا العشر هي حفظ الحق العام، وإذا كانت فكرة الحق العام هي ما يتجاوز الحق الفردي، فإن زيارة القدس في ظل الاحتلال، وبموافقته، تمثل انتهاكاً للحق العام، حتى لو جاءت بتشجيع من السلطة الفلسطينية التي تروّج بالأخص لمثل هذا النوع من التطبيع مع العدوّ الصهيونيّ لأنها سلطة تدين بوجودها لاتفاقيات أوسلو، المنبثقة من أعماق لجة التطبيع.

الاستقطاب اللبناني بين قوى 14 آذار التي انبرت للدفاع عن تلك الزيارة، وقوى 8 آذار التي أبدت استياءً دبلوماسياً منها، ليس إلاّ شكلاً لبنانياً مقنّعاً للصراع الدائر في الشارع العربي منذ معاهدة كامب ديفيد حول التطبيع مع العدو الصهيوني بالمناسبة. وأهم ما في زيارة الراعي بعدها الإقليمي، رغم انعكاساتها اللبنانية، وقد اتت على خلفية قرارات مؤتمر «الطريق إلى القدس» الذي انعقد في عمان في نهاية نيسان الفائت، والذي صدرت عنه، قبل أن ينفضّ، فتوى متسربلة زوراً بالإسلام تدعو إلى زيارة القدس في ظل الاحتلال.

إن عنوان التطبيع الديني بذريعة زيارة الأقصى أو القيامة وغيرهما من المقدسات طبعاً، يبقى من أهم الجبهات التي يشتغل عليها المطبعون لكسر حاجز العداء مع العدو الصهيوني في العقول والقلوب، وعلى حزب الله وجميع مناهضي التطبيع في لبنان أن يخوضوا هذه المعركة بجدية تامة، لأن التساهل فيها يمثل التفافاً على القلب النابض للمقاومة: حاجز العداء مع العدو الصهيوني.

البطريرك الراعي يمثل مرجعية روحية لمئات ألوف الموارنة في بلاد الشام، ولا نقول البتة مرجعية سياسية لجميع الموارنة، وبالتالي فإن ما يقوم به يمثل اجتماعياً وسياسياً ضوءاً أخضر لهم ليحذوا حذوه، ومن هنا خطورة ما يقوم به، وما قام به مشايخُ مثل الحبيب الجفري وعلي جمعة عندما زاروا القدس تحت العنوان نفسه، ومن هنا خطورة الفتوى التطبيعية الصادرة عن مؤتمر «الطريق إلى القدس» الموقعة من قبل مئات علماء المسلمين، وهو ما أصدرت فيه جمعية مناهضة الصهيونية والعنصرية في الأردن ولجان مقاومة التطبيع بيانات إدانة.

بالمعيار نفسه، لا بد من إدانة صريحة لزيارة البطريرك الراعي للقدس، من دون أدنى تردد، رغم الحساسيات الطائفية المتعلقة بالوضع اللبناني تحديداً، لأن التطبيع ومقاومته، كنقيضين، لا يقتصر أيٌ منهما على طائفة بعينها، كما لم يقتصرا على طائفة بعينها في «جيش لبنان الجنوبي» أو في جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية…

رحم الله الأنبا شنودة الذي حرم على الأقباط الحج إلى فلسطين في ظل احتلال… ولا يسعنا هنا إلاّ أن ننوه بجهود رجال الدين المسيحيين في فلسطين الذين أعلنوا موقفاً حاسماً من سعي الكيان الصهيوني إلى تجنيد المسيحيين في الأراضي المحتلة عام 48 في جيش الاحتلال الصهيوني، وأن ننوّه بالجهود المبذولة لمقاومة الهيمنة اليونانية على بعض الكنائس وتواطؤ الكهنة اليونانيين مع الاحتلال الصهيوني على الأوقاف الكنسية. ولا ننسى جماعة «دفع الثمن» الصهيونية وتشويهها للكنائس، وسعي الاحتلال إلى مصادرة المقدسات المسيحية كما الإسلامية، فالوجود المسيحي في فلسطين الذي يقول البطريرك إنه ذاهبٌ لتعزيزه يتحمل الاحتلال المسؤولية الأساسية عن تهجيره، وها هي قرى إقرث وكفر برعم وكنائسها التي دنسها الاحتلال تقف شواهد على تهجير المسيحيين، كما تقف نضالات أهلها الذين لم ينسوها شواهد على تمسكهم بالأرض وبعروبتها. فزيارة البطريرك بشارة الراعي، فضلاً عن كونها تطبيعاً، تمثل اختراقاً للتاريخ النضالي للمسيحيين العرب في مواجهة العدو الصهيوني والهيمنة الاستعمارية، وتوطئة لتجنيد المسيحيين في جيش الاحتلال، عسكرياً أو سياسياً، وحلقةً من حلقات الالتفاف على المقاومة في لبنان.

إن الزيارة اختراق لقانون العداء لـ«إسرائيل» في لبنان ومنع التعامل معه، فكيف سيحاسب بعد ذلك الذين يتعاملون مع الاحتلال في لبنان ما دامت لم تثبت عليهم تهمٌ أمنية، ومن ثم لو ثبتت عليهم مثل تلك التهم؟! ولماذا نغضب من قناة LBC إذا بثت تقريراً من قاعدة جوية «إسرائيلية»؟! أليست تلك التتمة الطبيعية لمحاكمة قناة «الجديد» وصحيفة «الأخبار» في المحكمة الدولية في لاهاي؟! أليست غطاء، وبأثر رجعي ومستقبلي، لتعاون بعض الجهات اللبنانية مع الاحتلال الصهيوني منذ الحرب الأهلية اللبنانية وخلال حرب الـ82، واليوم في سورية؟! أليست نزولاً عند رغبة الكيان الصهيوني في التطبيع حتى من دون معاهدات؟!

… بلى هي كذلك! حتى لو جاءت مثل تلك الزيارات التطبيعية بالفعل تحت وابل من التصريحات المناهضة للاحتلال بالقول… فالأساس هو الفعل المادي، وهوية المستفيد والمتضرر منه، وفي هذه الحالة فإن المستفيد هو الكيان الصهيوني وأنصاره، والمتضرر هو معسكر المقاومة ومناهضة التطبيع في لبنان وخارجه… والمسيحيون والمسلمون الذين سيصبحون وقوداً في محرّك المستفيد.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى