عقدة عرسال والسيناريوات المحتملة

العميد د. أمين محمد حطيط

تتجه عرسال البلدة اللبنانية الواقعة على أقصى الحدود الشرقية مع سورية لتشكل معضلة أمنية رئيسية للبنان تتخطى ما تشكله بعض المخيمات الفلسطينية التي خرجت من العهدة الأمنية للدولة وباتت جزراً أمنية داخل الدولة تتمتع بأمن ذاتي واستقلال عن القانون اللبناني أمناً وقضاء وسلطة، وتسير عرسال الآن على خطى تلك المخيمات في شكل متسارع.

وإذا كان للمخيمات الفلسطينية في وجه من الوجوه ما يبرر واقعها الحالي خصوصاً بعد التقصير اللبناني أو العجز عن حماية تلك المخيمات بوجه العدوان «الإسرائيلي» والنزعات العنصرية لدى بعض الفئات اللبنانية والتي أدت إلى ارتكاب

مجزرة صبرا وشاتيلا الفظيعة، فأننا لا نجد أي سبب لتشكل حالة عرسال المستجدة سوى نزعات عدوانية تشكلت عند فئات لبنانية مرتهنة أو تابعة لجهات إقليمية تعمل خدمة للمشروع الصهيوأميركي الذي رمى ولا يزال يعمل لإسقاط الدولة السورية ومحور المقاومة. وهنا يبرز بوضوح دور السعودية ودور أتباعها المحليين من تيار المستقبل والجماعات المتحالفة معه في إطار ما يسمى 14 آذار.

لقد حدد لعرسال في سياق المشروع العدواني ضد سورية وظيفة تقوم على تشكيل قاعدة لوجستية ثم عملانية لدعم وإسناد الجماعات المسلحة العاملة في القلمون السورية للضغط على الوسط السوري، ثم تطورت الوظيفة حتى باتت منفتحة على تهديد لبنان عامة والمقاومة التي ينظمها ويقودها حزب الله خاصة، تطور حصل برعاية واحتضان من تيار المستقبل على حساب أهل عرسال والأمن اللبناني.

وفي شكل متسارع خرجت عرسال من كنف الدولة لتصبح منطقة يحتلها مناهضو الدولة السورية، وتؤوي في جرودها أو بيوتها المسلحين وعائلاتهم الذين تدفقوا إليها وأقاموا المخيمات حولها حتى ناهز عددهم الثمانين ألف سوري مدني، يضاف إليهم أربعة آلاف مسلح موزعين بين البلدة والجرود والمخيمات ذاتها. واقع نشأ برعاية سياسية لبنانية وغض طرف من السلطة الرسمية اللبنانية لا بل بتسهيل من قبل بعض المسؤولين من سياسيين وأمنين.

لقد شكلت منطقة عرسال وجرودها ربطاً بالقلمون السورية بؤرة إرهاب تهدد الأمن اللبناني في شكل موجع، كما أنها شكلت خنجراً حاداً في الخاصرة السورية تهدد في شكل خاص المنطقة من دمشق إلى حمص، وزادت أهميتها بعد أن اعتمدت الجهات المعتدية على سورية، خطة فكي الكماشة التي تنطلق من الجنوب باتجاه دمشق ومن الشمال باتجاه حمص، وكان لإرهابيي القلمون وجرود عرسال وظيفة تثبيت المدينتين من الغرب وقطع الطرق المؤدية إلى دمشق من لبنان والشمال السوري لعزلها، وتلقي القوى المندفعة من الجنوب والشمال لإسقاط مراكز الثقل النوعي الاستراتيجي للدولة في دمشق وحمص.

لهذه الأسباب كان لا بد من قرار يتخذه محور المقاومة باقتلاع خطر القلمون وجرود عرسال خدمة لأمن لبنان وسورية على حد سواء، وقد وضع القرار موضع التنفيذ ولم تنفع التهويلات والضغوط التي مارسها تيار المستقبل ومن يسيره إقليمياً، ولم تنجح ولم تثن حزب الله عن المباشرة في تنفيذ المهمة مع الجيش العربي السوري. فكان تنفيذ متقن حقق نجاحاً فوق المتوقع وبمهل أقصر بكثير من المخطط. حيث انه وبأقل من أسبوعين تم الإجهاز على معظم مراكز «جبهة النصرة» في الجرود، ووصلت عملية التطهير إلى مشارف المنطقة التي يسيطر عليها «داعش» بحجم يتراوح بين الـ 1000 والـ 1300 مسلح.

في ظل هذه النتائج الميدانية خرج من الميدان من تبقى من «جبهة النصرة» في اتجاهات ثلاثة، أحدها كانت بلدة عرسال التي ارتفع عدد المسلحين فيها إلى ما يناهز الـ 1000 مسلح بمن فيهم بعض اللبنانيين وأشخاص من جنسيات عربية وأجنبية، وتحولت عرسال حالياً إلى معسكر لا تملك الدولة اللبنانية سلطة عليه، مستفيدة من «حصانة مذهبية سياسية» شكلها تيار المستقبل للحؤول دون تطهير البلدة على يد رجال المقاومة، مع عراقيل وضعت في طريق الجيش لمنعه من تطهيرها وفرض سلطة الدولة عليها.

في ظل هذا الواقع باتت عرسال تشكل معضلة أمنية للبنان، يريد تيار المستقبل استمرارها لإزعاج المقاومة وإرهاقها كما ومنع تحييد لبنان عن العدوان على سورية ثم تشكيل نواة تؤمن إعادة المسلحين إلى القلمون السورية. ومن أجل ذلك يخوض تيار المستقبل معركة المحافظة على الإرهاب في عرسال، مستعملاً السلاح المذهبي الذي يتقن الاستثمار فيه والذي امتهن شحذه في السنوات العشر الأخيرة.

بالمقابل ترى المقاومة والأهالي في عرسال والمنطقة أنه من غير الممكن القبول بهذا الواقع الشاذ والمضر بمصالح الأمن الوطني والأمن الإقليمي على حد سواء ويبدون إصراراً على المعالجة، إصرار أدى في مرحلة أولية إلى اتخاذ قرار من الحكومة باعتبار الجيش مسؤولاً عن معالجة شأن البلدة بعد أن تم فصلها أمنياً عن جردها وتولت المقاومة معالجة شأن الجرد بنجاح كلي من دون أن تنفع استعراضات تيار المستقبل التهويلية في ثني المقاومة عن مهمتها.

والآن وفي مواجهة هذه المعضلة ومع الامتناع التلقائي للمقاومة عن الدخول إلى البلدة لاعتبارات مذهبية سيجد الجيش اللبناني نفسه أمام خيارين:

تفسير بيان مجلس الوزراء الأخير بأنه تكليف له بإخراج المسلحين من البلدة، ومبادرته إلى القيام بعملية عسكرية مخططة يحشد لها ما يلزم من قوى وينفذ اقتحاماً للبلدة ويجري تفتيشاً لها يفضي إلى تطهيرها كلياً من الإرهابيين.

تجنب القيام بعملية عسكرية جذرية في البلدة، والاكتفاء بمحاصرتها من الخارج لمنع تمدد المسلحين خارجها، مع القيام بدوريات متفق عليها للقول أن الوضع في البلدة تحت السيطرة.

وفي ظل جزئيات المشهد بأنواعها الميدانية والسياسية والطائفية، نتوقع أن يتجنب الجيش الخيار الأول ما لم يتشكل حوله إجماع وطني غير موجود حالياً، وفي ظل امتناع المقاومة عن الدخول إلى البلدة للأسباب التي ذكرنا ستصبح عرسال جزيرة للإرهاب يتنافس المسلحون على السيطرة عليها، وقد بدأ التنافس الآن فعلاً بين «النصرة» التي تمسك الوضع حاضراً فيها وبين «داعش» الذي سعى إلى دخولها ففشل بعد أن اصطدم بدفاعات المقاومة في الجرود ما بين جرود الجراير في سورية وجرود راس بعلبك شمال شرقي عرسال، فشل ترافق مع سقوط 200 إرهابي من «داعش» بين قتيل وجريح وهنا يعاد طرح السؤال بحثاً عن مخرج.

في الإجابة نرى أن الأمر سيكون بيد أهل عرسال أنفسهم الذين هم أول المتضررين من الوضع الشاذ للبلدة، وعليهم أن يستعيدوا قرار بلدتهم من أيدي تيار المستقبل ليوقفوا استثماره بالإرهاب ضد مصالحهم، وأن يحرروا بلدتهم من سيطرة الإرهابيين، فالمبادرة برأينا الآن تبدأ من داخل عرسال ذاتها وعندها ستجد عرسال أن الجيش اللبناني وأهالي المنطقة في الموقف الذي يناسبهم لتطهير البلدة واستعادتها إلى أهلها، ومن غير ذلك فان الوضع سيقفل على مشهد لا يناسبهم وتتحول عرسال نهائياً إلى معسكر إرهابي ضد لبنان وسورية معاً.

أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى