حمص… نبّل و الزهراء… الكارلتون
طاهر محي الدين
لماذا حمص؟ كيف أدار العقل الحكومي الاتفاق؟ ولماذا حدث الاتفاق المَخرج؟
في مراجعة تاريخية قريبة جداً، أي منذ ثلاث سنوات عندما أطلقت المسمّاة «الثورة السورية»، أراد حلف الحرب على سورية تشكيل غرفة عمليات مشتركة وتكوين عاصمة للثورة تكون ذات استراتيجية جفرافية عسكرية، وجغرافيا اقتصادية وتمازج اجتماعي وحجر زواية لتفتيت سورية فاختيرت حمص كمدينة لأنها تحقق جميع تلك الأهداف. فموقع حمص الجغرافي مهمّ جداً إذ يقع في قلب سورية، وفي النقطة الوسط بين العاصمتين السياسية دمشق والاقتصادية حلب، وبوابة العاصمة للساحل السوري، وحدود حمص الجغرافية الممتدة عبر البادية حتى الحدود العراقية، فضلاً عن قربها من الحدود اللبنانية، ما يجعل الدعم اللوجستي أسهل بالوصول إليها عبر القصير ووادي خالد وتلكلخ، والنقطة الأهم التي تحقق الموقع الاستراتيجي والحغرافي العسكري لإقامة غرفة العمليات لعصابة الحرب على سورية، وتحديدها كعاصمة لما يسمّى اصطلاحاً «الثورة»، فأنشأت أقوى وأعقد وأخطر غرفة عمليات عسكرية استخبارية تقنية في منطقة الشرق الأوسط خارج «إسرائيل»، في حارة بابا عمرو تحديداً، وقد أسقطت وفر منها من فر إما إلى حمص القديمة أو إلى الريف الحمصي، وقتل من قتل، وأصيب من أصيب، واستسلم العديد صاغراً مع سلاحه للحذاء العسكري السوري، وتوجت سقوط بابا عمرو الزيارةُ المقدسة والمدوية للرئيس الأسد لمنطقة بابا عمرو التي كان يتغنى فيها أوباما وحلفه ليلاً ونهاراً مع كلّ إشراقة صبح، ودخول مساء. يومذاك تحديداً كتب المحلل السياسي الأستاذ محمد صادق الحسيني مقاله المشهور «في بابا عمرو غلبت الروم فأصبح بقاء الأسد محتوم».
للإشارة اعتراضاً، تعد مدينة حمص وريفها أيضاً مركزاً للعديد من القطاعات العسكرية والتجنيد للجيش العربي السوري. وتعد كذلك نقطة تلاقي إمدادت أنابيب الطاقة والنفط في سورية، واكتُشف أنها تسبح على كميات كبيرة من النفط، ومن مصفاتها يورد النفط عبر الموانئ السورية ويزود الداخل السوري منتجات مصفاة حمص المشهورة.
الموقع الجغرافي المحاط بوادي النصارى والقريب نسبياً من الساحل السوري، جعل الاختلاط الديني والمذهبي فيها كبيراً، فحمص هي فسيفساء مصغرة لسورية الأم التي تشكل أحلى لوحات التمازج الديني والعرقي والقوميات على امتداد جغرافيتها عبر التاريخ الإنساني. هذا التمازج جعل من العقل الاستخباري العدواني على سورية يعمل عليها كنقطة انطلاق لما يسمى بالحرب الطائفية في سورية والتي فشلت بتفاصيلها كلها بين أبناء الشعب السوري الذي يؤمن ويَدين بسورياه فحسب.
بعدما حددنا الخطوط العريضة، لماذا توجب علينا حمص أن نعرف كيف أدار العقل الحكومي الاتفاق؟
لو عدنا بالتاريخ مرة أخرى إلى بداية الحرب على سورية وتحديداً لخطاب السيد الرئيس بشار الأسد الأول بعد بداية الحرب على سورية من تحت قبة البرلمان لوجدنا أن للخطاب هدفين رئيسيين مهمّين، أولهما حقن الدماء السورية وثانيهما الدعوة إلى الحوار والمصالحة الوطنية، وكيف ركز الرئيس الأسد في خطابه يومذاك على أن هناك من يريد جرنا إلى الدم والاقتتال ليدمر السوريون وطنهم بأيديهم، وكيف أن حلف الحرب ضغطه الوقتُ الذي كان يحدده لسقوط الدولة السورية خلال الأشهر الثلاثة الأولى للحرب على سورية فأسرع إلى استعمال الدم لإشعال الحرب فيها، لكنّ تعنت صهاينة الداخل وعمالتهم قبل صهاينة الخارج من الحلف الصهيوأميركي وأذنابه من العربان، وسقوط حربه حين عجزت عن تحقيق هدفها الاستراتيجي في السقوط السريع للدولة، ما دفع به مجدداً إلى رفع سعير الجنون والحرب والإرهاب أملاً في إحداث أي تغيير على الأرض، لكنه كان يواجه بثبات أقوى وتقدم أكبر، ففشل مجدداً وتلقى الصفعة تلو الأخرى من ثبات حلف المقاومة وتقدمه وسحقه مشروع الحرب من غرفة العمليات التالية في القصير. ويومذاك أجمع المحللون العسكريون والسياسيون كافة على أن ما قبل القصير، سيكون غير ما بعد القصير، وتوالت سقوط أحجار الدومينو تباعاً في القلمون والغوطتين، تارة تحت دوس الحذاء العسكري لجنود الجيش العربي السوري ونعال رجال الله في المقاومة الإسلامية حزب الله، وتارة أخرى اكتوى حلف العدوان بالحكمة السورية المدوية بإنجاز المصالحات الوطنية في العديد من المناطق والتي كان ينجز من خلالها الهدف الاستراتيجي الأسمى للعقل الحكومي السوري الذي أدار أعتى الحروب الكونية بعقل بارد ذكي منفتح، وأسقط أهداف الحرب من جديد. فمع كل عملية مصالحة كان الإنجاز الأهم حقن الدماء السورية، وعودة أبناء الوطن لحضن الوطن، بالإضافة إلى تقليل الخسائر في البنى التحتية التي كانت ستنجم عن أي معركة لتحرير تلك المناطق، وصعوبة قيام تلك الحروب داخل المدن وتعريض المدنين الأبرياء الذين اختطفهم الإرهاب وجعل منهم دروعاً بشرية، ليلوي بهم ذراع الدولة التي أدارت الحرب كأم تدافع عن أبنائها وتمنع عنهم القتل والأذى والتهجير. وعلى هذا العقل دار الاتفاق في حمص القديمة، فكان حرص الدولة على إنقاذ من تبقى من عوائل أهالينا من الديانة المسيحية وكنائسهم داخل أحياء حمص القديمة، وفي الوقت نفسه التوصل إلى تحرير العديد من المختطفين من ريف اللاذقية وحلب، بالإضافة إلى رفع المعاناة والحصار عن أهالينا في قريتي نبل والزهراء البالغ عديد سكانهما نحو سبعين ألفاً، والمحاصرتين مع ثمان قرى حولها منذ ثلاث سنوات بأقسى أنواع الحصار الغذائي والدوائي ومستلزمات الحياة اليومية، وصبر الأهالي فيها طوال هذه المدة وفاء وولاء للدولة ولقائد الدولة، فكان شعارهم «باقون مع الأسد وأرواحنا فداء لسورية الأسد وما همنا إن أقبل الموت علينا أم أقبلنا عليه».
ما تم إنجازه في هذا الاتفاق، إنّما تم نتيجة حكمة العقل الحكومي السوري في إدارة الحرب، وما قام به الحذاء العسكري السوري ورجال الله، وإدارك العقل المدبر الخارجي أنه هزم بالمعايير كافة، من إيران إلى لبنان سياسياً، وهزمت في العراق عسكرياً، وسحقت على أبواب دمشق سياسياً وعسكرياً، والأهم جيوسياسياً إذ تعاد رسم خرائط العالم الجديد من قلب سورية وتحديداً من سقوط حمص بأقل قدر من الخسائر وسقوطها كعنوان كبير لعاصمة « الثورة السورية «.
بتعريج بسيط إلى أم التاريخ الشامخة الصامدة حلب الشهداء وما حدث من تفجير كبير لدرة الشرق والعديد للأماكن التاريخية الأثرية التي عاصرت تاريخ العديد من الأمم والممالك عبر التاريخ أقول الآتي :
إن هذه التفجيرات تحمل في طياتها العديد من المؤشرات التي لا تدل إلّا على حقد الإرهابيين وهزيمتهم نفسياً وعسكرياً، وسقوط لآخر لوحات العدوان على سورية، فمن يحاول تحطيم التاريخ ليس سوى حاقد وجاهل ومنهزم، فهو لا يعلم قيمة ما دمّره وهدمه من مبان سقطت على عتباتها غزوات الغازين، ومنهزم لأنه عجز خلال ثلاث سنوات على هزم البشر وعقول أهالي حلب وحرفهم عن انتمائهم إلى الدولة السورية والوطن الكبير، وعن إيمانهم بعيشهم المشترك والمتسامح دينياً وعرقياً منذ ألوف السنين، ولأنهم مؤمنون بأنهم قلب سورية وبوابتها إلى العالم الغربي، وأن حلب بأهلها هي رافعة سورية الاقتصادية، فقرر هذا الإرهابي المجرم الكافر أن يدمر الحجر بعد فشله مع البشر، انتقاماً منهم ومن صمودهم الذي كان له الأثر الأعظم في الحفاظ على الوطن السوري بمكوناته وجغرافيته كلها.
في النهاية، أتمنى على كل سوري اختلط عليه الأمر وأشكل عليه الفكر وظن أن الدولة قامت بهذا الاتفاق من باب الضعيف أو الراضخ لضغوط من عدو أو صديق، أن يعلم أن العفو من صفات المنتصر، فالمهزوم ليس لديه ما يعفو عنه أو يقدمه لإمرار الصفقات، بل إن هذه الدولة القوية استخدمت السلاح الأمضى لقهر هذه الحرب عليها بإجراء المصالحات الاجتماعية بعدما كسبت المعركة سياسياً وعسكرياً، إذ تعيد بناء الدولة مجدداً لمرحلة ما بعد الحرب من حجر الزاوية الأساسي لبناء الدول والمجتمعات ألا وهو الإنسان.