من سيرحل أولاً: اوباما أم أردوغان أم الدرع الروسي؟
نارام سرجون
الى الذين يريدون الابتسام رغم الهموم، والى الذين يريدون معالجة ضغط الدم بالاسترخاء، والى الذين يحبّون ان يستمعوا الى الأخبار المستعملة مليون مرة، والى الذين ملوا من لعبة الكلمة الضائعة والكلمات المتقاطعة ويريدون ان يضيّعوا وقتهم في التسلية، لكلّ هؤلاء أقدم لهم هذا الخبر الممتع الذي نشرته صحف نفطية، والذي أنشره مساعدة لهم وترويجاً له، لأننا نعرف أكثر مما تعرف أعمدة الصحف، ولأننا نريد أن نقول لهؤلاء الذين يفصلون الأخبار إنّ قياس عقولنا لا تحيط به أخباركم، وأننا سننشر الخبر بكامله بكلّ بهاراته وملحه الاستخباري ونكهاته «الاسرائيلية» الحارة، وبكلّ ما فيه من أتربة وحصى، وسنترك ما يطير حوله من ذباب وبعوض وحشرات دون ان نرش عليه مبيدات حشرية، لأننا ندرك أنّ أهمّ طريقة لاحتقار خبر تافه قميء هو وضعه عارياً على قارعة الطريق ليمرّ به كلّ الناس ويضحكوا من منظره المزري والذباب الذي سيحوم حول فمه القذر.
يقول الخبر: ناقشت قمة الدول السبع التي عقدت أول من امس في ميونيخ الألمانية خططاً لرحيل الرئيس السوري بشار الأسد إلى روسيا في إطار اتفاق بين موسكو والغرب». وأشارت صحيفة «إندبندنت» البريطانية أنه وعلى الرغم من استمرار التوتر بين روسيا وأوكرانيا، فإنّ مصادر ديبلوماسية مشاركة في القمة، رجحت وجود أرضية مشتركة جديدة بين الغرب وموسكو لغرض التوصل إلى حلّ ديبلوماسي للمأزق في سورية. وأضافت الصحيفة أنه رغم وجود مشكلات وصفت بالكبيرة، ما زالت تعيق التوصل إلى اتفاق بشأن سورية، إلا أنّ الحديث عن إمكانية تغيير محدود للنظام في دمشق كانت أكبر مما كانت عليه قبل عام، وفي السياق قال احد المصادر: «نحن لا نريد أن نبالغ، ولكن يمكن القول إنّ هناك شعوراً أكبر بضرورة حلّ سياسي أكبر مما كان عليه قبل عدة أشهر». وأشار مصدر ديبلوماسي الى «أنّ الرئيس الاميركي باراك أوباما ورئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون تبادلا حواراً صريحاً حول الوضع على أرض الواقع، ووضع «فصائل الثورة السورية» وقدرتها على الإمساك بالأرض»، مشيراً إلى «أنّ كلا الزعيمين شدّدا على أهمية العملية السياسية». وأشار المصدر الى «أنّ الفكرة الأساسية دارت حول إمكانية العمل مع الروس من أجل انتقال القيادة في سورية إلى قيادة جديدة»، موضحاً أنّ رئيس
الوزراء البريطاني تحدّث إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كما أنّ الخطة تمّت مناقشتها من قبل وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، خلال زيارته الأخيرة إلى موسكو.
انتهى الخبر والذي نسب كما تلاحظون الى صحيفة «اندبندنت»، والصحف الغربية معروفة أنها هي أم الكذب والتزوير والهرطقات الإعلامية والدسائس، وهي التي تكذب علينا منذ قرن كامل من الزمن دون خجل، وأنا شخصياً من خلال تجربتي الطويلة، أعرف أنّ هذه الصحف الغربية تنشر خبراً أحياناً وتملؤه بالمصادر الغامضة والخاصة والتي رفضت الإفصاح عن هويتها، ومصدر مقرّب جداً، ومطلع جداً الخ… ويكون المعنى أنها لا تتحمّل المسؤولية الأخلاقية والقانونية عن الخبر، بل تريد أن تكون منصة لقضية تلوكها الإشاعات وتنقلها مؤسسات أخرى تروّج لها لتحوّل الكذبة الى حقيقة، وما يحدث في الأخبار ذات الطابع العربي في هذه الظروف هو صفقة بين الإعلام الخليجي والصحف الغربية، فعندما يريد الإعلام الخليجي نشر شيء ويريده ان يكون ذا مصداقية يعرف أنه لن يصدق إذا نشر في صحيفة عربية، فتقوم المؤسسة الإعلامية العربية بدفع مال إلى إحدى الصحف الغربية لنشر خبر ما دون ذكر المصادر لأنه عادة تكون المصادر وهمية وغير موجودة إلا في مخيلة المؤلف، أيّ تتمّ معاملته كمادة إعلانية مدفوعة الأجر، ثم تنقل الصحف الخليجية الخبر المنشور في الصحف الغربية وتنشره الفضائيات النفطية على أنه من توزيع الإعلام الغربي الذي يعتبر أصدق وله مصادره الموثوقة، وهي خدعة سخيفة وقديمة وتعكس عجز العقل النفطي عن الثقة بنفسه وفقدانه المصداقية، رغم كلّ المليارات التي يفرشها له الأمراء، وكذلك فقدانه القدرة على الإبداع والخلق حتى في أصغر الأشياء، فالدعايات والبرامج الفنية والسياسة كلها نسخ عن تصميم أوروبي، وهي أيضاً تعكس الثقافة المهزومة حضارياً لأنّ كلّ ما يصدر عن الرجل الأبيض الانكلوساكسوني يعامل باحترام وتقديس…
وربما صارت الصحف الخليجية والعربية تصمّم وتنشر وتروّج مثل هذا الخبر كنوع من التشتيت القسري للقارئ العربي الذي لا يرى ولا يسمع الا أخبار الذبح والنحر والهدم والاغتصاب لكلّ ما هو عربي ومسلم بيد العرب والمسلمين، وفي مقابل ذلك يرى أنّ القدس تتوسّع مستوطناتها اليهودية بهدوء وبنشاط منقطع النظير، فتضع الصحف النفطية هذا الخبر في طريق القارئ العربي كي تتعثر به عيناه ويتوقف ما بقي من دماغه عن التفكير القليل المسموح به، فلا يسأل المجاهدين عن سبب اندفاعهم الى نصرة أهل الشام وتلكؤهم عن نصرة المسجد الأقصى الذي هو من سكان بلاد الشام واستغاث وطلب النصرة ملايين المرات، والذي بان عظم كتفيه من النهش اليومي والحفر في لحمه الحي ودوس أحذية جنود نتنياهو على وجهه كلّ يوم حتى علقت أسنانه في أحذية «الاسرائيليين»، ومع ذلك تقصف طائرات السعودية سدّ مأرب وميناء عدن لا ميناء حيفا ولا إيلات ولا تل أبيب، ويموت الدواعش كالذباب حول آبار النفط السورية والعراقية وكأنها أنهار العسل التي وعد الله المؤمنين بها في الجنة ولا يسفكون قطرة دم واحدة على جدار القدس، ويكتب لنا فقهاء الإعلام الخليجي عن قرب رحيل الأسد، رواية صارت من روايات الخيال العلمي، وربما تنتمي الى أدب الأساطير…
مثل هذا الخبر ربما قرأناه عشرين مليون مرة خلال السنوات الخمس الماضية، وكلّ مرة بصيغة مختلفة وبنكهة مختلفة وخيال مختلف، فمرة نقرأ أنّ الأسد وصل الى غواصة روسية، ومرة بأنّ الأسد شوهد في كوخ في سيبيريا، أو أنه وصل الى قاعدة بايكانور الفضائية الروسية للجوء الى القمر لأنه لا مكان له على الأرض.
هذا الخبر المصنّع في الخليج والذي وزعه طنبر «اندبندنت» تعب الناس من قراءته وتعبت السطور من حمله، وتعبت النكتة من الضحك عليه، ورغم أنّ السنوات الخمس الماضية قد أخذت معها نصف دزينة كاملة من أعداء الأسد وصاروا في متاحف السياسة، فإنّ الصحف العربية تكتب للجمهور العربي لأنها تعامله على أنه قطيع من الحيوانات الأهلية من الحمير والبغال والجواميس والانعام والدجاج، ولا تمنحه الفرصة لتقول له: انك تستحق أن تكون إنساناً ونكتب لك خبراً معقولاً ليس فيه مذاق البرسيم والتبن والعلف وفيه رائحة السماد العضوي.
تخيّلوا أنه في غمرة انهيار المنظومة الأردوغانية والإخوانية المفاجئ واستعداد العالم ليكون خالياً من رجب طيب أردوغان، فإنّ تلفيق خبر عن اتفاق روسي أميركي بشأن الأسد هو الذي ابتكرته العقول الخليجية، وتخيلوا أنّ الأسد لم يبرح قصره ومكتبه فيما أطاح الزمن والأزمات بقطيع كامل من الزعماء الذين ناصبوه العداء: ساركوزي، وحمد بن خليفة، وحمد بن جاسم، والملك أبو متعب، وبندر بن سلطان، ومحمد مرسي، وسعود الفيصل، وميشال سليمان، ووو… ومع ذلك تكتب صحف خليجية نفس الخبر عن اتفاق روسي اميركي بشأن التخلي عن الأسد!
ربما لا يستحق الخبر التعليق إطلاقاً ولا يستحق إلا أن أتركه لذلك الناشط البريطاني في حزب المحافظين الذي التقيته منذ فترة وشرح لي وجهة نظر بريطانيا في أحلام أردوغان، الناشط المحافظ كان على العشاء يحتسي النبيذ بتلذذ وعندما انتهى الكأس الثالث ضحك وهو يحدّثني عن أردوغان والأتراك حتى احمرّ وجهه الأحمر وصار بلون الرمان، وقال وهو لا يكاد يقدر على التوقف عن الضحك: تخيّل أنّ الغرب فعل المستحيل لتحطيم الامبراطورية العثمانية وتقليصها، فإذا بأردوغان يعتقد انه سيضحك على الغرب ليساعده على بناء الامبراطورية بدءاً من سورية، رغم انّ أول حجر
وأهمّ حجر لبناء الامبراطورية هي سورية، يريد أردوغان إقناع الغرب أنه سيأخذ سورية ويجعلها عضواً في الناتو مثل تركيا، ومع آخر رشفة من الثمالة الباقية في الكأس الرابع، أطلق مضيفي ضحكة قوية وهو يقول: الغبي عليه أن يعرف أننا استعملنا العرب يوماً لتحطيم العثمانيين، واليوم نستعمل ما بقي من العثمانيين لتحطيم ما بقي من العرب وليس للمّ شمل الامبراطورية.
وأنا بصراحة أحسّ أنني بقراءة هذا الخبر الخليجي المذاق أنني احتسيت زجاجة كاملة من النبيذ أو زجاجتين، لأنني لا أقدر على أن أتوقف عن الضحك لأقول لمن يكتب هذه الأخبار وأنا أضحك من كلّ قلبي: يعني رحلت دزينة كاملة من الزعماء العالميين من خصوم الأسد والشعب السوري وشطبنا نصف مجاهدي العالم من الوجود، وهناك دزينة أخرى من الزعماء بدأت بالسقوط وسيستهلها أحمد ديفيد أوغلو وبعده أردوغان طبعاّ، وهناك من يتحدّث عن اتفاق للتخلص من الأسد بعد أن قهر خصومه.
والمضحك أنّ الخبر كتب فيما أوباما نفسه يستعدّ للرحيل وتسليم مفاتيح البيت الأبيض لخليفته خلال أشهر، لأنّ السؤال الذي يتمّ تداوله في المجالس السياسية هو بالضبط: من يرحل أولاً اوباما أم أردوغان؟؟ ومع ذلك يكتب البعض عن خبر اتفاق مسرّب عن اتفاق بشأن الأسد وصفه أحد الديبلوماسيين الغربيين بأنه بالنسبة إلى روسيا يشبه الانتحار، لأنّ روسيا تصرّفت في السنوات الأخيرة وكأنها تعتبر الأسد والجيش السوري هما درع روسيا الحديدي ضدّ الدرع الصاروخي الأميركي، وربما أنّ أهمّ درع روسي رداً على الدرع الصاروخي الأميريكي هو الحفاظ على العلاقة مع الجيش السوري والرئيس السوري الذي أثبت أنه القائد الذي يثق به الجيش السوري، وسورية هي أهمّ ثغرة تخترق بها روسيا الدرع الصاروخي الاميركي، ولذلك فإنّ روسيا تعتبر نفسها درع سورية الحديدي في المقابل، فهل هناك من يلقي بدرعه وأمامه معركة طاحنة قادمة مع عدو يمسك الرماح والسيوف والخناجر؟ لذلك لا روسيا ستتخلى عن درعها السوري ولا سورية ستتخلى عن درعها الروسي، ولا الأسد سيتخلى عن بوتين ولا بوتين سيتخلى عن الأسد.
ومع ذلك هناك تصويب يجب أن يدركه العالم وبالذات الخليج المحتلّ وهو: انّ كلّ زعماء دول الخليج المحتلّ دون استثناء يتمّ تغييرهم من قبل موظفين في السفارات الغربية، وفي أحسن الأحوال يناقش مصيرهم مع السفراء البريطاني والفرنسي والأميركي الذين يبعثون باقتراح التغيير أو التثبيت الى حكوماتهم بالحقيبة الديبلوماسية، ويعود القرار بالحقيبة الديبلوماسية، وأما في الائتلاف الوطني السوري والمعارضات العربية فيتمّ تغيير اسم رئيس الائتلاف من قبل ضباط المخابرات المكلفين برعاية المعارضة.
ولكن في سورية لا أحد يملك قرار تحديد اسم الرئيس سوى الشعب السوري، لا روسيا ولا الخليفة باراك أبو عمامة ولا الفصل السابع، ويحق لسائق تاكسي في سورية او بائع بسطة في سوق الحميدية أو ايّ مواطن أن يناقش أمر الرئاسة السورية واسم من يجلس على كرسي الرئاسة لأنّ هؤلاء يحملون الجنسية السورية، وحسب الشرعية الوطنية والدستورية فإنهم أحق من باراك أوباما في الافتاء بهذا الشأن، وأهمّ منه بمليون مرة، وبإمكانكم الآن أن ترشوا الخبر الذي استأجرته ونشرته الصحف الخليجية بالمبيدات الحشرية أو أن تطعموه علفاً للأبقار والدواجن، أو تمسحوا به أحذيتكم، أو، أو، أيّ شيء تريدون، ولن نطلب منكم الانتظار طويلاً، لتتبيّنوا ماذا تعني العلاقة الروسية السورية…