كركوك… هوية برائحة النفط 2/2
نظام مارديني
إن سؤال الهوية إشكالي، ومن الصعب تحديد إجابة معينة له. فالإجابات المحتملة حول سؤال: من أنا؟ أو من نحن؟ تتعدد بتعدد الذات التي يمكن أن تأخذ وجوهاً متعددة، وبتعدد الأفراد داخل المجتمع. كما أن الهوية قد تشير إلى الدين أو القومية، وربما تجمع بينهما في أن الهوية تتمثل في صور التكوينات التاريخية المتنوعة التي تمر بها المجتمعات، وهذا ما دفع الفيلسوف بول ريكور إلى الكلام عن الهوية السردية، أي الطريقة التي يسرد بها الإنسان ذاته وهويته، ويقدم بها هذه الذات كما تكونت خلال مراحل التاريخ.
إن الهوية السردية تعبّر عن ذات الكائن في تحوّلاته داخل تماسك الحياة نفسها، فالفرد يبني هويته بواسطة سردها للأحداث، كما يقول ريكور: أي أن الإنسان سيقوم باستحضار الأحداث وخزنها في الذاكرة، سواء كانت هذه الأحداث وهمية أو حقيقية، وسيصبح هذا السرد تاريخياً مفيداً، يهب الحياة تماسكها. وهنا يمكن أن يظهر دور المثقف، ليس باعتباره حارساً للهوية ومدافعاً عنها، بل إنه يتدخل في كثير من الأحيان في تكوينها، فالمؤرخ مثلاً له دور مصيري في تكوين الهوية. وهناك من دعا إلى ضرورة تحرير الهوية من الماضي وربطها بالحداثة وأفقها التنويري والديمقراطي، فالحداثة تعني ارتباطاً بالعصر واندماجاً في قضاياه. والحداثة تحمل شكل الوطن المتجاوز للهويات التقليدية التي تمزق وحدته إلى هويات صغرى متناثرة، ووحدها الحداثة هي موضع للوطن. إن الحداثة عصر للوطن بعد انحسار كل تقاليد الهوية، ولذلك فإن المعنى الوحيد اليوم للهوية هو التواجد في العصر بوصفه النمط الجديد أو المتبقي من الوطن.
لا أريد من هذه السردية إلا التأكيد على أمر واحد، هو أن سؤال الهوية لا علاقة له بتخلف الدولة أو تطورها، ولا بطبيعة النظام السياسي، أو المستوى الاقتصادي، فما دام هناك بشر فسيتساءلون لسبب أو آخر… «من نحن»؟
إن إحدى الطرق لقياس مدى التعقيد في تحقيق الاستقرار بعد انتهاء الصراع هي النظر إلى مدينة كركوك العراقية اليوم. فكركوك تقع في مكانٍ وسطي بين بغداد وأربيل، عاصمة «إقليم كردستان». كما يشكّل موقعها تقاطعاً بين المرتفعات الكردية والبلدات التركمانية والأراضي الزراعية العربية المحاذية لنهر دجلة، وقد توسّعت كركوك إلى حدّ كبير بعد أن بدأ إنتاج النفط في المحافظة في عشرينيات القرن الماضي، والآن تنام على بحيرة من النفط، وهو ما يمكن أن يجعلها أغنى مدن العالم، ولذلك فالدم الذي قد ينتج عن أي صراع بين المكونات الأربعة كلدو ـ آشوريين وأكراد وعرب وتركمان لهذه المدينة قد يختلط بالنفط، وقد عمّق الاحتلال الأميركي من هذا الصراع الذي بدا يتربّع على لغة العقل. فالآشوريون اعتبرو كركوك تاريخهم، والأكراد قالوا إنها «قدسهم»، والعرب أكدوا أنها مورد رزقهم، والتركمان رأوا فيها حلمهم. ضمن هذا الواقع يُطرح موضوع الهوية، عندما يتعرقل مشروع بناء الأمة وينسدّ الأفق أمام المشروع القومي الاجتماعي.
واقع الصراع حول هوية كركوك أخذ صوراً متداخلة ومعقدة بسبب التركيبة السكانية والعلاقات الاجتماعية السائدة بين أربع جماعات تعايشت في هذه المحافظة. وتعتبر حملات تهجير وترحيل الكرد التي جرت في عهد الرئيس الراحل صدام حسين من أجل تغيير الخريطة السكانية لكركوك وجعلها مدينة عربية قسرياً واحدة من أبرز أسباب تدمير وحدة الحياة بين المكونات «الكركوكية». وكانت مشكلة إيقاف هذه الجماعات في التعبير عن نوازعها العدوانية بعد تلك الحقبة لا يتم إلا من خلال تهديد أمنها الشخصي، وهو ما حدث بعد الاحتلال الأميركي للعراق. لكن تلك الجماعات ستبقى تحاول دون فقدان شرعيتها التي انبثقت كرد فعل عن وضع شاذ، لهذا ستعيد ترتيب علاقاتها بشارعها في ضوء مخاوف الماضي فكثير منهم استثمروا النقمة العامة لكي يوقدوا شرارة التطلعات العرقية والمذهبية والعشائرية. وكما يخلص «بندكت آندرسن» فكل الجماعات هي في الأساس جماعات متخيلة، تؤمن بسرد مخصوص ذي ركائز عرقية أو دينية أو مذهبية.
لم يعد من الممكن قبول هوية دينية أو عرقية أو طائفية واحدة، فهذه الدوائر متداخلة فيما بينها ويستحيل الاكتفاء بأي منها، وهي، أي الهويات، لن تكون فاعلة ومفيدة إن ارتكزت على فكرة إقصاء الآخر، واعتماد مفهوم القوة والعنف فكل الهويات التي قامت من قبل على هذه المفاهيم انهارت، وأصبحت مجرد ذكرى لحقبة سيئة تثير الاشمئزاز.
المستقبل للجماعات المتفاعلة من موارد كثيرة ومتنوعة. العراق نفسه كان إطاراً جامعاً ومصهراً لـ «هويات» متعددة: سومرية، وبابلية، وآشورية وآرامية، وهيلينية، ومسيحية، وإسلامية، وعربية، وكردية. فهل يمكن أن تحجز الجماعات نفسها في هوية ذات بعد واحد مع هذا التاريخ المتنوع للعراق؟ مما لا شك فيه أن لا أحد يريد سابقة خطيرة في المنطقة كهذه، ستمتد ذبذباتها المقوِّضة إلى كيانات الهلال الخصيب كافة.
تخلق السياسة أحياناً هويات متوهِّمة، يقسِّمها ويؤطرها عاملا القوة والمصالح. وبحسب علم الاجتماع لا توجد كيانات نقية تماماً، ليست هناك من أمم، باستثناء القبائل المتوحشة في الغابات ربما، لم تختلط بغيرها، ولم تتعرض لغزوات وهجرات لأسباب عديدة واندماجات اقتضتها ظروف مؤاتية، أو قاهرة.
في الختام، نؤكد على أن العوامل في تكوين الهوية بحسب علم الاجتماع، ثابتة في جميع أنحاء العالم. ولذلك نخلص إلى أنه بين الثابت والمتحوّل تتبدّى أزمة الهويّة، أزمة صراع بين الثنائيات الآتية: الأنا والآخر، الأصالة والمعاصرة، التراث والحداثة. ولكي لا نكتفي بوصف واقع «جدل الهويات» القائم يجب أن نقطع الطريق على هذا الجدل البيزنطي وننطلق من الثوابت الآتية:
1ـ إن المصالح العليا لمكونات المجتمع لا يمكن أن تتناقض.
2ـ إن إرساء المواطنة في المجتمع هو الهدف الأسمى للجميع، وهو الكفيل بحل المشاكل الموروثه من الماضي كافة.
3ـ ليس هناك مشكلة بين مكونات المجتمع، بل إن هناك مشكله بين هذه المكونات من جهة، والطروحات العروبية الوهمية التي طرحتها الأنظمه الحاكمة التي تعاقبت على الحكم في الهلال الخصيب.
4ـ إن من حق أي مواطن، عراقي أو سوري ولبناني أن يعيش في أي مدينة من مدن هذه الكيانات القائمة. إلا أن هذا المبدأ يجب أن لا يطبّق بشكل ميكانيكي، بل يؤخذ في إطاره السياسي والتاريخي.
5ـ التعامل بروح إنسانية مع الآلاف من الأجيال الجديدة التي ولدت في مدينة كركوك ولا ترغب بمغادرة المدينه.