حتى لا نضيّع البوصلة مرة أخرى… تحرير فلسطين واجب وطني ــ قومي واستئصال الإرهاب التكفيري مسؤولية أممية

عبدالله خالد

ماذا يجري في سورية؟ هل يشكل ما حدث في إدلب وجسر الشغور وتدمر بداية لمرحلة جديدة ينتهي معها النظام ويرحل الرئيس بشار الأسد ويتمّ فيها تدمير سورية كدولة وموقع ووظيفة؟ وهل غيّرت إيران موقفها مما يجري في سورية وانخرطت في «لعبة الأمم» الهادفة إلى تقسيم سورية كثمن لتمرير الاتفاق النووي؟ وهل صحيح أنّ صفقة تمّت بين واشنطن وموسكو تخلت فيه الأخيرة عن مساندة سورية مقابل تخلي الغرب عن أوكرانيا لمصلحتها؟ أسئلة كثيرة تروّج لها أجهزة ومؤسسات في إطار أشرس حرب نفسية تخوضها الغرف السوداء التابعة للإدارة الأميركية والصهيونية العالمية واستخدمت لضمان نجاحها الصراع الطائفي والمذهبي والفكر الإرهابي التكفيري الوهابي بعد أن ضمنت التحالف العضوي بين الاحتلال الصهيوني والغزو الإرهابي التكفيري باعتبارهما وجهين لخطر واحد يهدّد المشروع العربي النهضوي المقاوم ببعده المدني الديمقراطي والمستند إلى المواطنة كبديل للصراع الطائفي- المذهبي العنصري، خصوصاً بعد أن أسفرت الرجعية العربية عن وجهها البشع وبدأت التنسيق العلني مع الكيان الصهيوني لمواجهة ما أسمته «الخطر الفارسي» بعد أن تبدّلت أولوياتها.

الأمر المؤسف أنّ شريحة كبيرة من المواطنين وقعت في فخ تلك الحرب النفسية واستسلمت للغريزة، خصوصا أنها تحمل في أعماقها رواسب 1400 عام جعلت عقلها الباطن يستسلم لفكرة إمكانية تحوّلها إلى «مشروع حاضنة شعبية» لغزو إرهابي تكفيري يجتاح الحجر والبشر ويرفض الاعتراف بالآخر ويعمل على إلغائه. وهذا ما جعلها تميل إلى تصديق الحملة الإعلامية الدولية التي هدفت إلى تشويه سمعة سورية والمقاومة وإيران التي وصلت إلى مرحلة اتهام سورية بالتواطؤ مع الكيان الصهيوني وإيران بالتحالف معه وتفعيل فكرة أنّ الخطر الفارسي يتقدّم على الخطر الصهيوني، وأنّ المقاومة وجدت لخدمة العدو الصهيوني. وتتجاهل أنّ الرئيس بشار الأسد لو قبل إملاءات كولن باول التي تطلب منه أقلّ بكثير مما أتهم به بعد ذلك لكان توّج زعيماً عربياً له مطلق الصلاحية على امتداد الأرض العربية، وكان جنّب سورية حرباً كونية شاركت فيها أكثر من 100 دولة وزجّ فيها مسلحون من أكثر من 83 دولة بينهم نسبة كبيرة أطلق سراحهم من السجون واعتبروا ثواراً يريدون الحرية والديمقراطية في سورية. أما إيران التي كانت شرطي الغرب في المنطقة فقد أصبحت فجأة «شيعية» لمجرّد أنها أغلقت السفارة الصهيونية في طهران وحوّلتها إلى سفارة لدولة فلسطين ودعمت المقاومة التي تريد تحريرها حتى أنها أصبحت العدو الأوحد للعرب وليس الصهاينة فقط.

لقد واجهت المنطقة غزو المغول وغزو الفرنجة الحروب الصليبية والغزو الصهيوني وتواجه اليوم الغزو الإرهابي التكفيري. وكما سقط غزو المغول وغزو الفرنجة سيسقط الغزو الصهيوني والإرهابي التكفيري رغم اتحادهما. والمدخل إلى جعل هذا السقوط حتمياً هو عدم حرف البوصلة عن الخطر الجدّي الذي يهدّد العرب والمنطقة والمتجسّد بالاحتلال الصهيوني والإرهاب التكفيري وتوجيهه نحو أعداء وهميّين ذنبهم الوحيد أنهم آمنوا بتحرير الأرض والإنسان وتبنّوا خيار المقاومة ونذروا أنفسهم لمواجهة المخطط الأميركي – الصهيوني الهادف إلى تفتيت المنطقة ونهب ثرواتها وحماية الاحتلال الصهيوني ومساندة الغزو الإرهابي التكفيري. وهذا ما يعطي المعركة التي يخوضها محور المقاومة بعداً يتجاوز كونها معركة محلية لتصبح إقليمية ودولية بامتياز تدور بين مشروعين ونهجين سترسم من خلال نتائجها معالم نظام عالمي جديد يرفض هيمنة الأحادية القطبية وينحو باتجاه عالم متعدّد الأقطاب. وبمقدار ما تبقى خطواتنا في إطار الأوتوستراد العريض بحيث نبتعد عن الزواريب الضيقة بمقدار ما نقترب من تحقيق أهدافنا في الحرية والسيادة والعزة والكرامة ومواجهة الاحتلال والغزو الصهيوني- الإرهابي- التكفيري.

علينا أن لا نغرق في لعبة تحديد الأولويات وأيها أسبق التي يلجأ البعض إليها للتهرّب من اتخاذ موقف واضح ومحدّد، وأن نشدّد على تزامنها وتكاملها في إطار وحدة الهدف المتجسّد في مواجهة الاحتلال والتصدي للغزو بكلّ أشكاله وأبعاده بعد أن أصبح وجودنا مهدّداً ومصيرنا أسير لعبة المصالح المتناقضة. وهذا يحتاج إلى بلورة خطة طريق تشمل النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية ولا تهمل الأبعاد العقائدية والفكرية والثقافية وتسقط من حساباتها لعبة تدوير الزوايا والتلهّي بالقشور على حساب إهمال الجوهر.

لقد تكاتف كلّ أعداء الأمة قي محور واحد يخوض أشرس معركة ضدّها وما زلنا نقدّم ما يشرذم صفوفنا ويمنع إمكانية توحيد جهودنا ونغرق في الماضي ونرفض التطلع إلى المستقبل. وهذا ما سعى الغرب إلى ترسيخه في أذهاننا عبر المخطط الأميركي- الصهيوني الذي عمد إلى «إعادة بناء فكرتنا عن أنفسنا وتاريخنا وصياغة الماضي بوصفه مستقبلاً وإعادة إنتاج ماضينا القديم بوصفه مستقبلنا». وهذا ما سهّل نجاح المخطط الغربي الهادف إلى تمزيق وتفكيك كيانات المنطقة وإعادة تشكيلها من جديد بشكل يخدم أهدافه. وكان من البديهي أن يتمّ رسم خطط جديدة تستبدل الغزو الخارجي بغزو من الداخل يجري تنفيذه بأدوات محلية واقليمية ودولية. وهذا ما أفرزته أحداث «الربيع العربي» الذي أجهض في أيامه الأولى وتحوّل إلى «خريف أسود» بعد أن سرقته التنظيمات الأصولية التي تخلت عن المطالبة بالحرية والديمقراطية ووضعت نفسها في خدمة الإدارة الأميركية وخططها الرامية إلى العودة للمنطقة برداء جديد. ومع فشل التنظيمات المحلية وفي مقدمتها جماعة الأخوان المسلمين في تحقيق ما وعدت بتنفيذه لجأت الإدارة الأميركية إلى إطلاق «داعش» في العراق و«النصرة» في سورية وتمّ امدادهما بالمسلحين الإسلاميين من كلّ أصقاع الأرض وطعّموا بنخبة من المسلحين المقنّعين الذين كونوا نخبة نظامية محترفة شكلت النواة الصلبة للعمليات التي جرت في العراق وفي الحرب الكونية ضدّ سورية. وتوزيع الأدوار بين إسلاميين بزيّهم الأفغاني، وأغلبهم من الشيشان والقوقاز والطاجيك والباكستان وغيرها من الجنسيات بلحاهم الكثة وصرخاتهم الهستيرية يمارسون الأعمال الوحشية من قتل وذبح واغتصاب «في تأكيد على أنّ التوحش هو استراتيجية تقوم على أسس فقهية واجتهادية تستمدّ نصوصها من تراث ديني متواصل» بدأ مع القرامطة واستمرّ مع الوهابية وصولاً إلى «القاعدة» وتفرّعاتها من «داعش» و«نصرة» وغيرها من المنظمات التي انتشرت كالفطر، فيما يقوم المسلحون الغربيون المقنّعون بالأعمال اللوجستية والتخطيط والتدريب والأدوار الأمنية الإحترافية. وهكذا «يظهر الإسلام كحصان طروادة مهمته غزو المنطقة من الداخل عبر الخداع الديني وتزييف قيم الدين الحنيف بالميتولوجيا لخلق بيئة روحية – ثقافية تتلازم مع عودة المجتمع إلى الماضي وخلق ظروف وأجواء انقسام وانشطار مجتمعي يعيد إنتاج فكرة الخلافة والعيش في أجواء مناخ جديد تهيمن عليه أشباح الماضي»، انطلاقاً من النظرية التي تقول بأنّ أفضل وسيلة لهيمنة الاستعمار المطلقة هي حبس شعوب ومجتمعات بأكملها في قفص ماضيها الذي تمجّده واستغلال الجانب المشلول من التاريخ الديني الذي يستحيل توظيفه لأنه مادة صراع واختلاف لا مادة توافق… إنها لحظة نموذجية للغرب الاستعماري في تاريخ المنطقة العربية يمكن فيها إعادة شعوب ومجتمعات بأكملها إلى الماضي لتطرح مسألة دولة الخلافة، ولتبرز معها مسألة الصراع حول من يتربّع على عرشها؟ ومن الأحق والأقوى من منظور الشرعية التاريخية والدينية ومن منظومة التلاعب بالشعوب والثقافات والأديان التي بلورها مؤتمر غربي عقد في امستردام عام 1954، ورافقها مشروع صهيوني تضمّن حلماً بأن تلعب تل أبيب دوراً مطابقاً للدور الذي لعبته الخلافة الإسلامية بحيث يجري تحويل العالم العربي- الإسلامي بأسره إلى ولايات إسلامية لا مركزية تدار بشكل غير مباشر من مركز ديني جديد هو الدولة اليهودية التي يكثر الحديث عنها هذه الأيام في محاولة لحلّ التناقض بين الوجود الجغرافي للكيان الصهيوني في قلب العالم العربي وعجزه عن إدارته، وفي استعادة لما حصل في الأندلس حين تحوّلت إلى ولايات صغيرة تتنازع مع بعضها البعض…

هذا ما كشفه محمد حسنين هيكل حين قال في أحد مقالاته في توصيف «ثورات الربيع العربي» أنّ البلدان العربية تتجه بالفعل إلى ما يشبه دويلات الأندلس وأنّ على كلّ ولاية ووفقاً للظروف المحيطة بها أن ترتب أوضاعها الأمنية مع الكيان الصهيوني كما فعلت دويلات الأندلس القديمة حين قامت كلّ دويلة بترتيب أوضاعها الأمنية مع اسبانيا أي تقديم فروض الطاعة والولاء لمن يسمّونهم صليبيين وهذا ما بدأنا نشهد بعض مقدّماته اليوم من حيث تطبيع العلاقة مع الكيان الصهيوني وإشهار التبعية للمخطط الأميركي- الصهيوني في المنطقة. وهذا هو الخطر الذي يهدّد الوجود العربي الذي يفترض به أن يجعل تحرير فلسطين واستئصال الإرهاب التكفيري معركة متكاملة الأبعاد.

عضو الأمانة العامة للحركة الوطنية للتغيير الديمقراطي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى