السيولة والتحوّط… وأسئلة بلا إجابات!
لمياء عاصي
نشأت الأنشطة الاقتصادية على هذه الأرض مع بداية وجود الإنسان، أصبحت أكثر تعقيداً مع مرور الوقت، وخصوصاً بعد بروز فكرة ملكية الإنسان للأصول المنقولة وغير المنقولة مثل الأرض ووسائل الإنتاج والماشية، ومع تطوّر نشاطاته الحياتية والاقتصادية ومواجهته للمخاطر المتنوّعة التي هدّدت ممتلكاته حيناً، ووجوده في بعض الأحيان، بدأ يفكر باتخاذ الإجراءات الملائمة التي تحدّ من خسائره وتضمن له الاستمرار بالإنتاج والعمل من دون خوف حقيقي من فقدان ممتلكاته في لحظة غير متوقعة أو محسوبة… وهو ما عرف لاحقاً بالتأمين ضدّ المخاطر.
لجأ الإنسان منذ وقت طويل إلى التأمين المختلف الأغراض ليضمن عدم تعرّضه للخسائر الشديدة، تحديداً بعد تطوّر النشاطات الاقتصادية وازدياد تعقيداتها، حيث برزت الحاجة أكثر إلى إجراءات خاصة تضمن للناس شعوراً أكبر بالأمان من تقلبات الظروف الاقتصادية، والتي نتجت عنها مخاطر جمة على الإنتاج وعناصره والقيمة الحقيقية لممتلكاتهم وثرواتهم، مجموع هذه الإجراءات سُمّي بالتحوّط.
يمكن تلخيص فكرة التحوّط، بأنها مجموعة الإجراءات التي تتخذها مؤسسة، شركة أو مصرف، لتجنّب الخسائر المحتملة جراء ظروف اقتصادية مختلفة محتملة، والحفاظ ما أمكن على القيمة الفعلية لموجوداتها من العملات أو الأسهم. فقد شهد العالم حروباً وأزمات اقتصادية ومالية نتجت عنها خسائر كبيرة جداً، سواء على مستوى الدول أو الشركات أو الأفراد، وأصبح الجميع أكثر وعياً وإدراكاً لأهمية إدارة المخاطر، ويُعتبر التحوّط جزءاً هاماً منها، في هذا السياق تعتبر النقود والعملات بشكل عام، من أهمّ العناصر التي تحتاج إلى إدارة خاصة لأنها عرضة لتغيّر كبير في قيمتها الحقيقية، إذ أنّ العملات المختلفة تعتبر مخزناً للقيمة ولكنه مخزن محفوف بالمخاطر الناجمة عن ظروف مختلفة.
في سورية، ومع دخول الحرب عامها الخامس، كانت السياسة النقدية من أكثر المواضيع إثارة للجدل، فقد شعر السوريون بأنّ قيمة ليرتهم تتسرّب من أيديهم وتنخفض قدرتهم الشرائية وهم لا حيلة لهم، إذا أنّ القدرة الشرائية لليرة قياساً إلى سعر صرفها مقابل العملات الأجنبية وأسعار السلع والخدمات فقدت حوالي 75 في المئة من قيمتها الشرائية، وبرغم أنّ الحرب الشرسة على البلد كانت من أهمّ أسباب انخفاض العملة الوطنية، ولكن يجب أيضاً أن يُقال إنّ السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية لم تكن في مستوى التحديات التي تواجهها سورية، وبالتالي كانت الخسائر مضاعفة على كلّ المستويات.
انخفاض سعر صرف العملة الوطنية، أدّى إلى تدني القيمة الحقيقية لمجموع الأموال التي تملكها المصارف وشركات التأمين وصناديق النقابات والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، وهي تشكل جزءاً هاماً من الثروة الوطنية، بسبب القوانين والتعليمات التنفيذية التي لا تمنح الإدارات القائمة على هذه المؤسسات المرونة والقدرة لاتخاذ إجراءات للتحوّط وتجنّب الخسائر، وخصوصاً أنّ المصرف المركزي اتبع في سياسته النقدية:
أولاً: إبقاء معدلات الفوائد في البنوك ثابتة إلى حدّ كبير، ودون معدل التغيّرات الحاصلة والمتوقعة في سعر الصرف. ثانياً: وقف الإقراض وخصوصاً من المصارف العامة، أما المصارف الخاصة فقد قلصت الإقراض بشكل كبير في ظلّ عدم تمكن سعرالفائدة من تغطية المخاطر في سعر العملة الوطنية.
لعلّ وقف عملية الإقراض من البنوك العامة هو القرار الاقتصادي الأسوا والأخطر منذ بداية الأزمة في سورية، وأدّى مباشرة إلى تجميد المشاريع التي كانت لا تزال في طور التنفيذ، كما توقف الإنتاج الصناعي الذي يعتمد على هذه القروض، مما سبّب ازدياداً كبيراً في أعداد العاطلين عن العمل، وما تسبّبه معدلات البطالة العالية من خطورة على الاقتصاد بشكل عام بسبب تدني القدرة الشرائية للمواطنين وانخفاض الطلب في الاقتصاد الوطني وانتشار الفقر، إضافة إلى أنّ تناقص الإنتاج أو توقفه في الكثير من المنشآت، أدّى إلى انكماش وتراجع في حجم الناتج المحلي الإجمالي، ومن المعروف أنّ هذا الانكماش يؤدّ ي إلى التضخم وارتفاع في المؤشر العام لأسعار السلع والخدمات وهبوط في سعر صرف الليرة السورية مقابل العملات الأجنبية والمعادن الثمينة.
في المقابل، ماذا كسب الاقتصاد من عملية وقف القروض؟ حاول البعض الدفاع عن القرار، بالقول إنه يهدف إلى الحفاظ على الأموال العامة، وعدم تمكين المقترضين من الاستفادة من فرق سعر الليرة في الفترة بين الحصول على القرض وتسديده، وعدم تمكين آخرين من الاقتراض بهدف المضاربة على سعر الليرة، إنّ المدافعين عن القرار بنوا افتراضاتهم على هبوط حتمي في سعر الليرة، وتجاهلهم للإجراءات التي تمنع الممارسات الضارة بالاقتصاد، في المحصلة نجد أنّ قرار وقف الإقراض أدّى إلى نتائج يمكن تلخيصها في نقطتين:
الأولى: تعطيل دورة السيولة في الاقتصاد من خلال توقف المشاريع وازدياد معدلات البطالة بكلّ انعكاساته السلبية.
الثانية: لم تتمّ المحافظة على الأموال العامة في البنوك إلا كقيمة اسمية، وخسرت ما يزيد عن 70 في المئة من قيمتها الحقيقية، كما أنّ فائض السيولة وبقاءها في الغرف المظلمة للمصارف وعدم حركة الأموال، تعبّر عن حالة سلبية يمكن وصفها بركود في رأس المال. ومن المعروف أنّ قوة أيّ اقتصاد تقاس بالكثير من المؤشرات أهمّها هو عدد العمليات الاقتصادية التي تجري من تبادل للسلع والخدمات والأموال نقدا أو بشكل مؤجل خلال وحدة زمنية معينة.
في هذا السياق، صدرت في سورية تصريحات عديدة من مصارف عامة وخاصة تعبّر عن القلق من ارتفاع مستوى السيولة لديهم إلى حدود غير مسبوقة، وأولها تصريح مصرف التسليف الشعبي ثم مصارف عامة وخاصة وشركات التأمين السورية الخاصة التي قالت إنها تعاني من ارتفاع معدلات السيولة لديها وفقاً للقوانين والضوابط الناظمة لعمل القطاع، وبحسب المدير العام لهذه الشركة فـ»إنّ هذه الزيادات في السيولة تفرض على الشركات استراتيجيات حساسة للتعامل معها، والتحوّط من المخاطر المتزايدة في ظلّ الظروف الراهنة»، وتصريح هذا المدير، يطرح سؤالاً هاماً إذا كانت الشركات الخاصة لديها سياسات في التحوّط… ماذا عن شركة التأمين السورية العامة المملوكة للدولة ؟ هل يمكنها التحوّط لضمان القيم الفعلية لموجوداتها من السيولة النقدية؟ وما هي الإجراءات المتبعة للتحوّط؟
تهدف إجراءات التحوّط أو ما يُسمى بـ money hedging المحافظة على القيم الحقيقية لموجودات المصارف العامة، وشركات التأمين، وأموال النقابات المهنية ومؤسسة التأمينات الاجتماعية لتجن ب الخسائر الناجمة عن هبوط قيمة العملة المحلية، وهذا يحتم على إدارات هذه الشركات والمؤسسات توزيع الأموال النقدية المتوفرة لديها من الاحتياطيات والمؤن والموجودات الإضافية على قطاعات استثمارية مختلفة قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل، مثل الاستثمار في العقارات أو المعادن الثمينة أو العملات الأجنبية، بشرط أن تسمح لها القوانين بأن تقوم بمثل هذه الإجراءات، وهكذا تكون استبدلت النقد كمخزن للقيمة بأصول أخرىK وتقوم بعد ذلك باستخدام عوائد الاستثمار لتغطية خسائر وانخفاض قيمة العملة السورية بشكل كبير، وبحسب أحد المدراء لشركة تأمين خاصة: «يمكن لشركات التأمين أن تتحو ط من مخاطر تقلبات أسعار الصرف عن طريق تنويع عملاتها والاحتفاظ بودائع بالدولار واليورو مع الحفاظ على التوازن في العملات المختلفة، فإذا لم يكن هناك تنوّع وكانت كلّ الودائع بالليرة السورية وانخفض سعر صرف الليرة السورية أمام العملات الأخرى، فستتأثر سيولة الشركة، وتنعكس سلباً على شركات التأمين وخصوصاً التي لديها التزامات لشركات إعادة التأمين».
مما سبق… هناك أسئلة لا بدّ من طرحها في هذا السياق، ماذا عن الشركات والمؤسسات المملوكة للدولة، هل يمكنها اللجوء إلى مثل هذه الإجراءات للتحوّط ضدّ الخسائر؟ في ظلّ قصور القوانين والتعليمات التنفيذية عن تمكين إداراتها من إدارة مخاطرها بالطريقة التي تجدها مناسبة، كيف يمكن تعويض خسائر المصارف والمؤسسات العامة الأخرى؟
أخيراً، يُعتبر التحوّط جزءاً هاماً من عمليات إدارة المخاطر في أيّ مصرف أو شركة، فهل يُتاح لشركاتنا ومؤسساتنا العامة أن تقوم بإدارة مخاطرها؟ أم يكبّلها جمود نظم العمليات لديها والقوانين التي تحكم عملها؟ لقد تفاقمت خسائرها بسبب ما اتخذ من سياسات نقدية أثرت عليها بشكل سلبي وأدّت إلى تكدّس سيولة فائضة تقدّر بمليارات الليرات السورية… بسبب الخوف وأسباب غير صحيحة ولا مفهومة، فهل يمكن أن نتعلم من تجارب الآخرين ومن أخطائنا ونعدّل طرق عملنا؟ أم نستمرّ بإيجاد المبرّرات… ونعيد ارتكاب الأخطاء ذاتها ونتوقع نتائج مختلفة…!