ثمانمئة عام على الماغنا كارتا و1420 عاماً على حلف الفضول
د. جورج جبّور
يحتفل البريطانيون هذه الأيام، وتحتفل معهم الدول الناطقة بالانكليزية، بالذكرى الثمانمئة لتوقيع وثيقة هامة في تاريخ حقوق الإنسان، هي وثيقة «العهد العظيم أو الكبير»، واسمها أساساً: «ماغنا كارتا».
أهنّئ المحتفلين ونفسي. وقّع الملك جون هذه الوثيقة في 15 حزيران 1215 بعد ثورة عليه قادها المتميّزون من رعاياه. فقيّدت الوثيقة صلاحياته المطلقة، وأشركت في الحكم معارضيه المتميّزين من رعاياه. لم يكن تاريخ الوثيقة خالياً من العثرات، لكنها كانت خطوة تأسيسية في الانتقال من حكم مطلق إلى حكم يتّجه إلى نوع من الديمقراطية. وفي تاريخ تطوّر فكرة حقوق الإنسان، تحتل «ماغنا كارتا» مرتبة متقدمة.
من النادر ألّا نجد للوثيقة البريطانية ذكراً يسبق ذكر إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي الذي صدر في 1789، بعد أسابيع قليلة من الثورة الفرنسية. وبالطبع، تجسّد وثائق الأمم المتحدة الخاصة بحقوق الإنسان، هذا التميّز «الماغنا كارتي».
وكما قلت سابقاً، لم يكن تاريخ «ماغنا كارتا» خالياً من العثرات. شهدت بريطانيا في السنوات الثمانمئة السابقة ثورات وتقطيع رؤوس وتغيّرات سياسية انقلابية، ولكن الثقافة السياسية البريطانية حافظت على تقديسها تلك الوثيقة والمبادئ التي بنيت عليها. وإذا كنت لا أتذكر بالضبط متى بدأ وعيي بـ«الماغنا كارتا»، فإنّني لن أنسى أن زميل دراسة بريطانياً، في النصف الأول من الستينات في الجامعة الأميركية في واشنطن العاصمة، كان كثيراً ما يفتخر بأنه ابن ثقافة «ماغنا كارتا». وفي الأيام التالية، أتيح لي أن أشهد كيف أن متكلمين كثيرين بالإنكليزية كلغة أمّ، إنّما يعتبرون «ماغنا كارتا» مرجعاً أخلاقياً لهم في تفكيرهم السياسي.
قول كهذا يتطلب منّي المسارعة إلى التأكيد أنّ الظلم الذي أوقعه البريطانيون بالفلسطيينيين من خلال وعد بلفور، وأوقعوه بغيرهم من الشعوب، لا ينسجم أبداً مع «ماغنا كارتا». وأحد شهودي على صحة التأكيد تصريح لجاك سترو، في 16 تشرين الثاني 2002، وهو آنذاك وزير خارجية المملكة المتحدة، نال به نيلاً جاداً من وعد بلفور. وينسجم مع التأكيد السابق اتجاه في التفكير السياسي يرى أنّ البريطانيين هم الشعب الذي مارس على الشعوب الأخرى أكبر قدر من الظلم في تاريخ العالم. لكن «بيت القصيد» في كلمتي اليوم ليس عن هذا الموضوع.
بيت القصيد في هذه الكلمة يتمثل بالتباين في التعامل مع وثيقة تاريخية في شأن حقوق الإنسان بين البريطانيين والعرب. بينما نجد «ماغنا كارتا» متألقة في أدبيات حقوق الإنسان، نجد وثيقة عربية هي «حلف الفضول» مهملة في تلك الادبيات، ما خلا ذكر واحد لها جاء في بيان صدر عن المفوضية السامية لحقوق الإنسان بمناسبة بدء العقد السادس للاعلان العالمي، أي في 10 كانون الأول 2007. ويرد التفصيل في موضع لاحق.
«حلف الفضول» وثيقة غير مجهولة عربياً وإسلامياً. في كتب السيرة النبوية نجدها حاضرة، سواء على نحو مقتضب أو مطوّل، يتوّج حضورها حديث نبويّ يتواتر نصّه كما يلي: «شهدت مع أعمامي في دار عبد الله بن جدعان حلفاً لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت». لكن هذه الوثيقة إنما تبدو خاصة بالسيرة، حتى لكأن المبدأ الذي بنيت عليه لا يصحّ أن يشار إليه إلّا في معرض الحديث عن السيرة النبوية. فما هو المبدأ الذي بني عليه الحلف؟ تخبرنا كتب السيرة أن فضلاء مكة تعاهدوا، أواخر القرن السادس الميلادي، «وتسهيلاً، اقترح أن نتوافق على العام 595 م…»، ألا يدعوا ببطن مكة مظلوماً من أهلها أو من غيرهم ممن دخلها من سائر الناس، إلا كانوا معه على ظالمه حتى تُردّ مظلمته. إذن، فالوثيقة تعتمد مبدأ إقامة العدل، وهو مبدأ أساس في ثقافة حقوق الإنسان.
أختصر القول في المقارنة بين «حلف الفضول» وبين وثيقة أتت بعده بنيّف وستة قرون. الحلف وثيقة صيغت في كلمات قليلة، و«ماغنا كارتا» نصّ يمتد إلى 63 فقرة تفصيلية تبحث في دقائق الأمور عند تباين الآراء في شؤون الحكم. ولم يلجأ المظلومون إلى الحلف إلا في مدة زمنية لا تزيد عن ثلاثة أرباع القرن. بينما استمرت «ماغنا كارتا» مرجعاً يستحضر دائماً في الحوارات السياسية البريطانية . «حلف الفضول» حدث تاريخي مضى، و«ماغنا كارتا» ثقافة سياسية إنسانية مستمرة. الا أن الحلف يمتاز على «ماغنا كارتا» بأنه تنظيم فاعل. إنه هيئة مجتمع مدنيّ يرى أعضاؤها أنّ من واجبهم العمل على إقامة العدل. ليس الحلف مرشداً لعمل فقط، إنه العمل المطلوب منجزاً بهمّة أعضائه. هو الجدّ الأعلى لمنظمة العفو الدولية.
لدى التحضير لمؤتمر فيينا لحقوق الإنسان في فيينا عام 1993، تنبّهت إلى أهمية أن نعولم العلم بـ«حلف الفضول». نشرت في جريدة «الثورة» الدمشقية، بتاريخ 21 كانون الثاني 1993، مقالاً عنوانه: «حلف الفضول»: الجمعية الأولى للدفاع عن حقوق الإنسان في العالم. كانت الأصداء إيجابية في سورية. وردتني اتصالات من مسؤولين كبار جدّاً كلّها ثناء على المقال. إلّا أنّ الحلف لم يفز بذكرٍ له ـ أيّ ذِكر ـ في فيينا.
تابعت. لن أتحدث عن عشرات المقالات ومئات الرسائل، والحديث عن كلّ منها متعة وثقافة. أكتفي، ونحن في موسم «ماغنا كارتا» بذكر أن المفوضة السامية لحقوق الإنسان، السيدة آربور الكندية، أنصتت إليّ جيّداً حين حدّثتها والعاملين معها عن الحلف. ظهرت الحصيلة في بضع كلمات عنه تضمّنها البيان الذي صدر في بدء العقد السادس لصدور الاعلان العالمي لحقوق الإنسان. ما تزال كل الدول العربية صامتة عن ذكر الحلف في بياناتها بشأن حقوق الإنسان. تشاركها في صمتها جامعة الدول العربية ومنظّمة التعاون الاسلامي، على رغم تكرار مطالباتي ومطالبات غيري للجامعة وللمنظمة، وعلى رغم مداولات مباشرة لي في هذا الشأن مع عمرو موسى أمين عام الجامعة آنذاك ، والمغربي الذي كان أمين عام منظمة المؤتمر الاسلامي، وكان السفير بشار الجعفري شاهداً على تلك المداولة في مؤتمر عقد في اليمن.
هنيئاً لـ«ماغنا كارتا» في ذكراها الثمانمئة. أمّا «حلف الفضول»، التجربة الفذة في تنظيم الدفاع عن حقوق الإنسان، فيبدو أنّ مكانه عندنا، نحن العرب، كتب التاريخ. هو خارج مكانه في ممارساتنا السياسية وفي منظوماتنا الفكرية. ومع ذلك، ما أزال أدعو المخلصين القادرين منّا إلى تأسيس الهيئة العالمية للتعريف بحلف الفضول. أدعو، فهل من مجيب؟
رئيس الرابطة السورية للأمم المتحدة