الحرية الإعلامية… من يدوزنها؟!
د. سلوى خليل الأمين
الحرية عبارة جميلة، لكن قليلين هم الذين يدركون معناها ومبناها ويعملون بمضامينها، لهذا نجد الصراع في هذا العالم ما زال قائماً، منذ بدء تاريخ البشرية وحتى يومنا هذا، حيث القوي يطغى على الضعيف ويقهره ويظلمه ويستعبده، انطلاقاً من حبّ السيطرة المتحكم بعقول البشر، وداء العظمة أيضاً الذي ما زال يفعل فعله الشيطاني على وجه هذه الكرة الأرضية، حيث عملية تزوير الحقائق، وفبركة المعلومات، وشقلبة المفاهيم وتغييرها حسب المصالح، تزيد صاحب القوة قوة، وتكسر الضعيف وتذله، وتجعله خانعاً مستزلماً، يقنع بما رسم وخطط، دون أيّ اعتراض، لمجرّد أنّ القوي حرّ التصرف وله «الحق» في احتكار حياة الآخرين ومصادرة أرضهم وحاراتهم ومساكنهم، ونهب ثرواتهم، وتدمير قناعاتهم وقدراتهم الوطنية القائمة على التزام الحق في العيش بوطن آمن ومستقر.
لقد سلبت الحرية منذ وجود البشر على وجه الأرض عبر القوة الشرسة، وما الحروب ومظاهر الاستعمار سوى صورة مصغّرة لاستلاب الحرية، فكم قامت أمبراطوريات وزالت عروش وحضارات بسبب الحروب التي لم تستطع إيقافها مضامين الشرائع السماوية المبشرة بالمحبة والتسامح واحترام حرية الإنسان وعدم قهره ومعاملته بالتي هي أحسن، وبات لهذا الفكر الشيطاني أنصار ومؤمنون، ما زال مستمراً مع تطوّر الحياة ودورة العصور، ولم يحدّ منه انفتاح العقول على المعرفة والعلوم التي أصبحت مراحاً لكلّ إنسان يعبّ منها ما شاء كي يتمكن من قولبة الحضارات ومزجها عبر تزاوج ينتجه العقل ويرسمه حضارة عصرية متقدّمة.
لكن للأسف لم تنزع من نفسية الإنسان روح الشرّ والنزعة التسلطية، القادرة على امتلاك القوة التي تخوّل مالكها ممارسة الفعل الاستبدادي، الظالم والقاهر، المتفاعل بسرعة مع مصادرة حرية الشعوب. لهذا ما زالت الحروب قائمة ومستمرّة بكلّ أنواعها ومستلزماتها، وأهمّها حالياً الإرهاب الذي لا يمتّ إلى الأخلاق والدين والقيم والمبادئ بأيّ صلة، والنتيجة الاستبداد الذي يخوّل هذا المستبدّ حيازة مقدرات الأرض ومن عليها، دون الرجوع إلى ما رسخ في الأذهان من علوم دينية ومدنية، تشجع على احترام عباد الله بعضهم لبعض، وعدم وأد حرية البشر كما كان يحدث في الجاهلية، وهذا يدحض حرية الرجل الذي يقوم بالفعل الإجرامي المشين، لمجرّد أنه رجل يملك القوة والحرية المطلقة في القيام بالفعل أكان خطأ أم صواباً، وما على العنصر الضعيف أمامه سوى الانصياع والطاعة، تماماً كالدول المستكبرة، التي ما زالت ترمي الشعوب الضعيفة بقنابلها الحارقة المارقة دون رادع أو وازع، والويل كلّ الويل لمن يعترض أو يثور، وإلا أصبح في عرفهم ديكتاتورياً، وسفاحاً، وقاتلاً، وعدواً لشعبه، وقاهراً لعباد الله من بني وطنه، في الوقت الذي يسمحون فيه لأنفسهم ولمن هم على شاكلتهم بمصادرة حرية الشعوب وممارسة الديكتاتورية بأساليب مختلفة، ومنها الضخ الإعلامي المزوّر والكاذب بِاسم الحرية الفارغة من عناصرها الأساسية، بحيث تصبح الشعوب صاغرة وغارقة في الخوف والجهل، تتحرك بالريموت كونترول.
لهذا ما زلنا نشهد خصوصاً في المنطقة العربية برمّتها، منذ ما سُمّي بانتفاضات «الربيع العربي»، مصادرة فظيعة للحرية عبر وسائل الإعلام المكتوب والمقروء والمسموع اليي لم تتمّ دوزنتها كما يجب، من ضمن احترام حريات الشعوب! وباتت بعض الدول المرتهنة، التي لم تعتمد الدساتير والقوانين، هي المسؤولة عن دوزنة حرية الإعلام وحرية الإعلامي بالشكل المرسوم سلفاً، يُضاف إلى ذلك حرية رجل السياسة وكلّ من يدّعي أنه محلل سياسي وخبير في خفايا الأمور، إلى درجة أنّ رئيس الكون «باراك أوباما» منحه السرّ العظيم حين سمح لكلّ من يملك الحرية، خصوصاً في الحقل الإعلامي، برمي التفاهات على الناس عبر شاشة مأجورة تدخل كلّ البيوت، حتى بيوت الناس الذين لم يتدرّجوا في المراحل العلمية والمعرفية، وبالتالي يتأثرون بما يسمعون، ومن أحيائهم تنبت الفوضى والغوغائية والتعصّب الديني التكفيري.
أردت من هذه المقدّمة المقارنة بين حلقتين تلفزيونيتين تسنّى لي مشاهدتهما على محطتين مختلفتين في لبنان، في الأولى كان الضيفان: أحدهما نائب في المجلس النيابي ووزير سابق وحزبي معتق، يعرف ما لا يعرفه الآخرون عن سورية، نظراً إلى تاريخه الطويل في مواكبة العمل الحزبي فيها، إضافة إلى مواكبته الأزمة اللبنانية منذ الحرب الأهلية التي بدأت في العام 1975 وقبلها أيضاً واستمراراً لتاريخه، إذا هو يملك من المعلومات وخفايا الأمور ما لا يملكه الضيف الآخر، الذي يصغره في السنّ والخبرة حتى لو كان من رجالات الإعلام في لبنان.
كان الحديث مهذباً، لكن بدت المعلومات التي أدلى بها الضيف الإعلامي مبالغاً بها وغير مثبتة بالمراجع المطلوبة، والهدف منها مصادرة حرية المواطن الذي دعم عن قناعة وطنية وقومية القضية السورية. فقد حمل الإعلامي الضيف خريطة تشير إلى تمدّد «داعش» في سورية وسيطرتها على القسم الأكبر من أراضيها، بادئاً بصبّ تحليلاته القائمة على معلومات مفبركة، أيّ مزوّرة، باستطاعة أيّ قارئ أن يسجلها من خلال وسائل التكنولوجيا الحديثة الخطيرة والصحف المدسوسة التي لا مرجع لها أو يقين، وهنا خطأ المحاور الهادف إلى منح المشاهد المعلومات الصحيحة المثبتة، من حيث عمله على مصادرة حرية الفكر عند المتلقي والمشاهد، حيث الحرية ليست في طرح ما تريد، بل في التمكن من صياغة الخبر الصحيح المثبت بمراجع من أرض الواقع، غير مبنية على آراء تجمع بالتواتر، المقصود منها تلوين عقل الناس بالأخبار المدسوسة والخاطئة الغاية منها تخريب الوطن. هنا لا بدّ من عملية تعويم المعلومات وغربلتها التي تخرّب ولا تعمّر من منطلق احترام حرية المشاهد، علماً أنّ جواب الضيف الوزير قد فضح معلومات الضيف الآخر المفبركة حين قال له: من أين معلوماتك، خريطتك من الدوائر الأميركية والصهيونية! ومن ثم بدأ بسرد الوقائع على أرض المعركة في سورية، التي لو سلّمنا جدلاً أنّ فيها بعض المبالغة أو الولاء الذي يغضّ الطرف أحياناً عن بعض الأخطاء، إلا أنّ السامع يستطيع قياس الأمور بالعقل القادر على تفكيك المعلومة ووضعها في مكانها الصحيح، بعيداً عن الإيحاء المطلوب بمصادرة حرية الفكر والرأي والرأي الآخر.
أما البرنامج الآخر فكان صباحياً لضيف إعلامي من الصف الثاني في جريدة كانت متميّزة وأصبحت اليوم في حالة انحدار بعد أن خرج منها روّادها من الإعلاميين المخضرمين، استعمل حريته الإعلامية التي يتغنّى بها عبر كيل الشتائم السفيهة والمشينة على رئيس الدولة السورية، التي هي دولة شقيقة للبنان، شاء هذا الإعلامي أم أبى، وبينها وبين لبنان علاقات ديبلوماسية، وبالتالي ليس من حقه تجاوز البروتوكولات والمعاهدات الموقعة التي تحظر شتم رئيس دولة صديقة وضربها في خاصرتها ومكوّناتها الاتنية والعرقية والسياسية والحزبية، فكيف إذا كانت شقيقة وليست عدوة، وللبنان مصالح معها قبل الحرب وأثناء الحرب وبعد انتهاء الحرب، وبالتالي ليس معنى هذا ألا يبدي رأيه السياسي المناهض لسياسة تلك الدولة التي هي سورية، حيث له مطلق الحرية أن يتكلم في السياسة كيفما شاء ضمن الأصول الأدبية واللياقات البروتوكولية، التي لا تمنحه الحق بشتم رئيس أي دولة عربية أو أجنبية، لوطنه علاقات ديبلوماسية معها، وليس هو من يقرّر عن الشعب السوري المؤيد لوطنه ودولته وقيادته، الرافض للعصابات التكفيرية الداعشية، وبالتالي لا يملك وكالة عامة من أكثرية الشعب السوري تخوّله المسّ بكرامة قائدهم وجيشهم ونظام دولتهم.
خلاصة القول، لقد شبعنا مهاترات إعلامية، مللنا من صيحاتهم وفبركاتهم العشوائية المزوّرة وحقدهم الأعمى، شبعنا من هذه الحرية التي يتمنطقون بها لبثّ سمومهم، وأهمّها زرع الفتن المذهبية بين أبناء الوطن الواحد، شبعنا من هذا يؤيّد «داعش» و«النصرة» علنا لمجرد أنه ضدّ النهج السياسي لزميله الآخر في الوطن، شبعنا ممّن يتنطحون لمذهبة دروز سورية وهم لهم دولتهم التي تحميهم وهي المسؤولة عن أمنهم وحمايتهم قانوناً وعرفاً ودستوراً وعن كلّ من يحمل هوية الوطن، شبعنا من تأجيج الصراعات الداخلية والتنطح لرسم المسارات لسورية والعراق واليمن وترك لبنان يسبح في المجهول.
ماذا لو تمّ تحويل هذه الحرية المشؤومة إلى الدعوة لنبذ الطائفية والمذهبية، كي نتوصل لاحقاً إلى العمل على تأسيس قانون مدني لا طائفي وأقول علماني، حيث يكون الوطن للجميع والدين لربّ العالمين، وكلّ مواطن حرّ في عقيدته ومعتقده.
بصريح العبارة كم نحتاج في هذا الوطن وفي هذه البقعة من الأرض المبتلية بالحروب الكونية، دون سائر شعوب الأرض، باللجوء إلى دوزنة العقول وعبرها إلى دوزنة العمل السياسي المعطوف على الحرية الإعلامية التي يجب أن تنطلق من المفهوم العام لقيامة الوطن.