النصّ المسرحيّ بين الأدب والباليه… «روميو وجولييت» و«أوثيلّو» مثالاً
سليم البيك
لم تُسعِف أسبقيّةُ المسرح على السينما في أن يُحدّد كجنس منفصل عن الأدب، هنالك من يراه منفصلاً ويقع في الوسط ما بين الأدب والسينما، وهنالك من يعتبره أحد أشكال الأدب لأسباب قد يكون أحدها الدمج ما بين المسرح والشعر في مراحله المبكرة، أو أساساً البنية النصية التي تبدأ بها المسرحية قبل أن تؤدّى على الخشبة، فيكون النصّ الأدبي أساس العمل، لا الإخراج أو التمثيل، وبالتالي يبقى المسرح غالباً ضمن التنويعات الأدبية.
السينما جنسٌ محدّد بذاته، وكذلك العروض الأدائية، ربّما لأنّها لا تُبنى أساساً على نصّ. أمّا السيناريو المكتوب الذي يُصنع منه الفيلم، فلا يكون عنصراً أساسياً في الفيلم، كما يكون النصّ بالنسبة إلى المسرحية، بل يكون النصّ في خدمة الصورة بعكس المسرحية، إذ تكون الصورة في خدمة النصّ. قد يفسِّر ذلك تلقّيَنا معظم المسرحيات قراءةً، لا مشاهدةً ضمن جمهور، بخلاف الأفلام التي نتلقاها كلّها مشاهدةً، لا قراءةً لسيناريو مطبوع في كتاب. فقراءة مسرحية في كتاب تفي بنسبة معيّنة حاجة المتلقّي من المسرحية التي تؤدّى عشرات المرّات من قبل عشرات المجموعات المسرحية في العالم. أمّا قراءة سيناريو لفيلم ما فلا تعني أكثر من معرفة بحوارات الفيلم، وليس لهذه المعرفة أهمّية بمعزل عن مشاهدة الفيلم، الذي يجسّد فيه المخرج رؤيته الخاصة للنصّ، ولا يحصل أن نجد عدّة أفلام لسيناريو واحد، بل عدّة أفلام لكل منها السيناريو الخاص به، منقولة عن نصّ واحد يكون غالباً رواية.
لنأخد مثلاً مسرحية «روميو وجولييت» للإنكليزي وليم شكسبير، حكايتها وبعض الحوارات فيها مألوفة لدى كثيرين. معظم عمليات التلقّي لها عربياً كان غالباً عن طريق القراءة، وهي أساساً نصٌّ مكتوب، لا أعتقد أنّ أحدنا ينفي عن النصّ شعريّته، هو نصّ أدبي يتم تلقّيه بشكله المجرد، كنصٍّ يبني قارئه عوالمه وشخصياته وأمكنته بخياله.
لكنه كذلك نصّ مسرحيّة تؤدّى، هنا يتراجع النصّ قليلاً لمصلحة الصورة، المشهدية التي نتلقّاها عن الخشبة بأداء ممثلين ورؤية مخرج ستسلب عن النصّ التجريد فيه، سنتلقّى كمشاهدين عرضاً هو القراءة المشهدية الخاصة بالمخرج أو المجموعة المسرحية للنص، فيتراجع النصّ مقابل الصورة، إنّما بإخلاص للنصّ، أي أنّه في المسرحية يُنقل كما هو، إلا أن كُيّف مع اللهجة المحكية أو زمننا الحالي.
لكنّ النصّ ذاته، «روميو وجولييت»، نُقل كذلك إلى السينما، هنا تمّ الابتعاد أكثر عن النصّ مع الاقتراب أكثر من المَشاهد والصوَر. ففي السينما الغلبة دائماً للصورة على النصّ. إذن، بَعد النصّ المقروء في كتاب، وبَعد المسرحية المخلصة للنصّ المقروء إنّما المضيفة عليه عنصر المشهدية، تأتي السينما التي يزيد اعتمادها على عنصر المشهدية مع تناقص في الإخلاص للنصّ، فيُكتب لكلّ فيلم سيناريو خاص به منقول عن النصّ المسرحي، مستعيراً منه حبكته وبعض الحوارات فيه.
هنالك عدّة أفلام نقلت حكاية «روميو وجولييت»، آخرها صدر قبل سنتين للمخرج الإيطالي كارلو كارلي، ومنها ما كان بتكييف حديث كفيلم المخرج الأسترالي باز لورمان، قام بدور روميو فيه الأميركي ليوناردو ديكابريو. ومنها فيلم ممتاز للإيطالي فرانكو تزيفرلي صدر عام 1968، وغيرها.
وهناك تصوير للنصّ الشكسبيري ذاته إنّما بالابتعاد أكثر عن النصّ أو بإلغائه، والاقتراب أكثر من المشهدية. فالنصّ المسرحي ذاته أُدّي ضمن عروض باليه، حيث الاعتماد كلّياً على الصورة، الموسيقى، الإخراج، الأداء، وأساساً الرقصات التي استُبدِل النصّ بها. هنا، اختفى النصّ تماماً، والتلقّي للحكاية وحتى الحوارات، كل ذلك يتم بالرقص، وهو عرض مشهدي بامتياز. آخر عروض الباليه للمسرحية كان هذا الربيع ضمن الموسم الأخير لفرقة مؤسسة بولشوا للباليه الروسية العريقة.
وإن بحثنا سنجد أمثلة أخرى، قد تكون نصوص شكسبير الأوفر حظاً هنا، لأنّ نصّاً مسرحياً آخر هو «أوثيلّو» كُتب كنصّ ونُقل إلى الخشبة في مسرحيات ثم نُقل إلى السينما في أفلام. منها للمخرج الإنكليزي زوليفر باركر وصدر عام 1995، ومنها للأميركي أورسون ويلز صدر عام 1952، وقد يُعتبر أهمّ نقل لمسرحية شكسبيرية إلى السينما. لكنّ النصّ ذاته سيُؤدّى كذلك ضمن عرض باليه من قبل مؤسسة بولشوا ذاتها في موسمها المقبل.
كما أنّ مسألة التلقّي تختلف بالمقارنة بين الرواية والفيلم. ففي حالة النصّ المسرحي وإمكانية نقله إلى عملٍ مشهديّ أو أعمال تتدرّج في تخلّيها عن النصّ وتبنّيها مشهدية، تكون تامةً كما في عرض الباليه. في هذه الحالات يصل الاختلاف حدّ التناقض، من نصّ مقروء تكون فيه المشاهد مجرّدة إلى عروض باليه يكون فيها النصّ مجرّداً.
بمعزل عن النصّ المكتوب من قبل مؤلّفه، فالنقل التالي له في مسرحية أو فيلم أو عرض راقص، هي إعادة قراءة للنصّ من قبل المخرج أو مصمّم الرقصات، الكوريوغرافر وتتمثل في رؤيته وخياله ما يمكن أن يكون عليه النصّ، وتحويل النص إلى مَشاهد. ففي هذا النقل يتم إظهار ما أُريدَ قوله بالكلمات، من خلال الصور، وكما يراها المخرج. ولا يقوم الأخير في كلّ الحالات بنقل الحكاية والحوارات فحسب، بل هنالك أسلوب النصّ الأدبي، وهو ما يتوجّب على المخرج استيعابه لإيجاد ما يقابله في عالم الصوَر والمَشاهد. هذا ما يجعل النصّ قابلاً للتصوير في أفلام عدّة أو للأداء في عروض عدّة، ضمن رؤى مختلفة، أكان الحديث عن نصٍّ روائي أو مسرحي.
لنتّفق على أمر نخرج معه بسلام من هذا التداخل بين النصّ الأدبي وعمليّات نقله إلى صوَر. فلنعتقد أنّها جميعها أعمال مختلفة، وأنّها تتقاطع في ما بينها بالحبكة والشخصيات وحسب. فلا نبحث في عرض الباليه عن النصّ، أو عن سطر قاله روميو أو أوثيلّو. لندرك تماماً أنه عمل من موسيقى ورقصات، يُقدَّم إلينا كذلك، لنتلقّاه كذلك.