مجزرة قلب لوزة جرح مضاف في الجسد الوطني السوري
محمد ح. الحاج
ليست المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة التي ترتكب فيها العصابات التكفيرية الإرهابية مجازر بحق الوطنيين السوريين من كلّ ألوان الطيف، لكنها هذه المرة وقعت لتوظيف محدّد بعد أن أصبحت السويداء مستهدفة، وبعد أن علا صوت قائد سلاح الجو الصهيوني قائلاً: إذا ما هوجمت السويداء فإنّ طياريه يعرفون مهامهم تماماً…! لكن المقدمة بدأت يوم أهدر وليد جان بولات دم الوطنيين الدروز لأنهم يقفون مع أنفسهم، مع الوطن وليس مع «النصرة» التي يرى فيها مرآة وطنيته ويعلم يقيناً أن لا أحد من بني معروف يشاركه هذا الرأي على ساحة الشام.
«جبهة النصرة» المصنّفة عالمياً منظمة إرهابية وافقت على مقترحات أردوغان، فقبلت التخلي عن اسمها لتستمرّ في الحصول على دعمه ودعم حكام الممالك والمشيخات العربية وأسموها «جيش الفتح» أو الأصحّ «جيش السلطان أردوغان الفاتح»، بعد أن ضمّوا لها شراذم العصابات من مسمّيات شتى وبعد أن وافق متزعّمو تلك العصابات على مبايعتها والعمل تحت إمرتها، مجرّد عملية تجميل للواجهة قناع للاحتيال على الحقائق رغم إدراك الجميع لواقع المسمّى الجديد وأهدافه وتداعياته على ساحة الوطن السوري.
أميركا ليست بريئة مما حصل ويحصل، ومؤكد أنها أعطت الضوء الأخضر وهكذا انطلق جيش أردوغان الفاتح بإسناد مباشر من وحدات الجيش النظامي التركي ليدخلوا إدلب ثم أريحا وليرتكبوا الكثير من المجازر أمام أعين الأقمار الصناعية للجاسوسية الدولية وطيران التحالف الذي كان يوجّه عمليات التنظيمين عن قرب، ويلعب دور الحارس الأمين لقوافل العصابات التكفيرية المتنقلة، وربما كان يضايق الطيران السوري الذي حاول التدخل في أكثر من موضع، خصوصاً عبر الصحراء لوقف قوافل «داعش» الأردوغانية الزاحفة من الرقة ومحيط دير الزور والأراضي العراقية عبر البوكمال أو الرمادي إلى تدمر، ويرجح بعض الخبراء أنّ قيادة التحالف عمدت إلى توجيه إنذار يطالب بعدم تجاوز الطيران السوري بعيداً عن تدمر لأنهم سيقومون بمهام قصف «داعش»، لكنهم قاموا بحمايتها وتصوير تحركاتها التي تمّ نشرها لاحقاً عبر عديد من المحطات التلفزيونية ومواقع الشبكة العنكبوتية، كانت أميركا تراقب لتطمئن على سير خططها التي تبلّغَها قادة «داعش» أو غيرهم من «النصرة» في المناطق الأخرى.
المجتمع السوري المتنوّع لم يقم في يوم من الأيام على قواعد الكانتونات الطائفية أو المذهبية، وما كان قاصراً على المدن الكبرى، فالمدن الصغيرة هي النموذج الأكثر وضوحاً لهذا التنوّع، ومثال ذلك مدن تدمر والقريتين والنبك ويبرود وغيرها الكثير، فقد كنتَ تلحظ رؤوس المآذن وقباب النواقيس في كلّ مكان، وكان المواطن السوري لا يجد غضاضة في التبرّع لترميم أو بناء المساجد والكنائس انطلاقاً من إيمانه بأنها بيوت مقدّسة ودور لعبادة الله الواحد، هذا المفهوم يتناقض مع القواعد الفقهية لتنظيم «القاعدة»، وفرعه «النصرة» في الشام، وأيضاً مع الوليد الحديث تنظيم «داعش»، إذ أنّ العقيدة الفقهية لهؤلاء تقوم على فقه البعد الواحد والاتجاه الواحد حتى ضمن المذاهب «السنية»، وما ارتكبه التنظيمان من مجازر يؤكد هذا التوجه لأنّ فقه البعد الواحد المتشدّد هو بعد تكفيري إلغائي لا يقبل الآخر ولا الاختلاف، مرجعهم فتاوى ابن تيمية الذي قال عنه الدكتور علي الشعيبي إنه مريض نفسي وهو فقه متخلّف يعود إلى ما قبل الجاهلية، ولو ترك الأمر لهذه التنظيمات لظهر من ممارساتها العجب العجاب، لكن الجهات الوصائية المشغلة لها تقوم بكبح جماحها وتسمح بشطحات متباعدة نوعاً ما تجارب يتمّ توظيفها كرسائل في العمليات السياسية لتغطية أطراف سياسية في مواقع متعددة أهمّها لبنان ومنهم أدوات في اللعبة من نفس ألوان الطيف المستهدفة بالفناء ويسمّونهم أقليات لا بدّ من العمل لإنهاء وجودها.
ما يسمّونهم «أقليات « على مساحة الوطن السوري الحالي تبلغ نسبة تصل إلى 40 في المئة موزعة على عدد من الطوائف والمذاهب المسيحية والمحمدية العلويون المسيحيون بكلّ مذاهبهم الموحدون الدروز الاسماعيليون، وبعض من الصابئة المندائية والايزيديون، الترتيب حسب العدد ويوجد من هؤلاء في كلّ المدن والحواضر السورية، ولم يكن هذا الأمر متداولاً أو بارزاً كما هو تحت الأضواء اليوم، لم يكن المواطن السوري معنياً أو مهتماً به لولا الانتشار الحديث المبرمج للوهابية الماسونية التكفيرية، وهو مذهب ينتشر بقوة المال وإغرائه وبطريقة التبشير السرية، أوجد له بيئة خصبة وحاضنة على هوامش المدن الكبرى وفي الأرياف المحافظة القابلة أكثر من غيرها للقبول بالدعوة الجديدة ومغرياتها، ونجد أنّ هذه الأوساط شكلت الخزان المغذي لتنظيم قاعدة الجهاد في بدايات عقد الثمانينات، حيث كانت الحرب في أفغانستان مستعرة ضدّ الوجود السوفياتي، وكان توظيف هذه الجماعة للصالح الأميركو سعودي، حيث كانت أميركا المستثمر المخطط، والسعودية المموّل، في نهاية المطاف جنى الصهاينة ثمار الحرب ودخلت المنطقة عصر الهيمنة الصهيو – أميركية الخالص قبل نهاية الألفية الثانية.
لا تستطيع الولايات المتحدة والغرب إطلاق يد التنظيمات التكفيرية في المناطق التي تسيطر عليها حفاظاً على الشكل دون المضمون – لـ«الثورة المزعومة» ووصفها بالديمقراطية وأنها للحفاظ على حقوق الانسان والوصول إلى الحرية، ثمّ الادّعاء بـ«أنّ ما يحصل من مجازر هو مجرّد أخطاء تقع ضمن مسار كلّ الحروب الأهلية»، وأنه سلوك فردي أو خارج توجهات القيادة وهو تجميل لوجه تنظيم «الإخوان» الذي يسيطر على مسار العمليات بالتعاون مع تركيا وقطر، ويبقى أنّ الائتلاف هو الأبعد عن التأثير في مجريات الأحداث على أرض الواقع، ورأينا أن جيش «أردوغان الفاتح» لم يسمح لحكومة الائتلاف بوضع اليد على إدلب أو تسيير الأمور الإدارية فيها، كما لا وجود لهذا الائتلاف في أماكن سيطرة تنظيم «داعش» الذي كثيراً ما يستهدف باقي التنظيمات وعلى رأسها «النصرة» بالتصفية والطرد أو يفرض عليها البيعة والالتحاق به.
مجزرة قلب لوزة لم تكن حادثة عرضية، بل كان مخططاً لها وجاء أوان الرسالة المطلوبة، يؤكد ذلك ما تسرّب من تفاصيل ومن تناغم التصريحات بدءاً من وليد جان بولات إلى قائد سلاح الجو الصهيوني إلى بداية الهجوم على السويداء، أما الهدف فهو استمالة واستقطاب الموحدين الدروز للخروج على وطنيتهم والقبول بالحماية الخارجية تمهيداً لاستكمال خريطة البنتاغون الصهيونية، وضمّ الجنوب السوري إلى الأردن الكبير في كونفدرالية قد لا تقبل بها «داعش» أو «النصرة»، ولا بدّ للمحلل المتابع أن يأخذ بالاعتبار شعار «النصرة» أو ما تمّ الاصطلاح على تسميته «جيش الفتح» القائل: المسيحيون إلى بيروت…! ولا يقولون إلى لبنان إذ أنهم لا يعترفون بلبنان الكبير الذي يجب أن تتبع أجزاء منه إلى دولتهم المستقبلية، وسيعملون على إعادته إلى «لبنان الصغير»، وعلى السياسيين اللبنانيين وعي هذه الحقيقة، من هنا يجب فهم محاولات تمدّد «داعش» و«النصرة» إلى مناطق في لبنان وصراعهم الخفي على السيطرة في مناطق تواجدهم الحالية، وبقية الشعار: العلويون والاسماعيليون والدروز إلى التابوت، أو الدخول في الإسلام…! وقد مارسوا عمليات الذبح وقطع الرؤوس بحق أتباع هذه المذاهب في الكثير من المناطق، ولم تكن مجزرة جسر الشغور وحصار نبل والزهراء والفوعة وكفريا، ومجزرة مدرسة أم العمد وقرية المبعوجة وتهجير السكان من قرى شرق منطقة سلمية التي لم تحظ بالتغطية الإعلامية، والمجازر بحق الكلدو آشور والايزيديون في الجزيرة، حوادث عرضية وعابرة لأنها تندرج في سياق عمليات التطهير العرقي والمذهبي الجارية على قدم وساق وبصمت وتعتيم إعلامي مريب، وتسير طبقاً لمخطط التقسيم المشبوه الذي لا يخدم إلا المشروع الصهيوني الشرير.
المذاهب والطوائف وألوان الطيف الحضاري السوري لم تكن، وليست بحاجة إلى انتظار وقوع الكارثة حتى تستفيق وتخرج عن حيادها، كما أنّ الغالبية العظمى من الشعب السوري مستهدفة وهي ترفض كلّ المشاريع التي تعمل سكاكينها في جسد هذا المجتمع للقضاء عليه أو العودة به إلى زمن جاهلية ما قبل الإسلام والرسالة، أو إلى زمن الخوارج والردّة عنه.
المجتمع الوطني السوري جسد مثخن بالجراح، ومجزرة قلب لوزة جرح مضاف جديد، قد لا يكون الأخير، لكنه مجتمع يكبر على جراحه ويصابر ليحقق النصر.