سايكس ـ بيكو بين الثابت والمتحول
نظام مارديني
تطرح الأزمتان السورية والعراقية، تساؤلاً عما إذا كانت منطقة الهلال السوري الخصيب ستشهد بالفعل نهاية جغرافيا سايكس بيكو، وأن هذه المنطقة مقبلة على صياغة جديدة تتجاوز التقسيمات التي وضعت في بداية القرن الماضي، خصوصاً بعد دخول «داعش»، ذي النشأة الاستخبارية الأميركية البريطانية مدعوماً بالمال الخليجي، المشهد السياسي والأمني وما يشكله هذا الدخول من تكريس لواقع التقسيم الجديد من جهة وتحقيق يهودية الكيان الصهيوني من جهة أخرى.
هناك ضغوط شديدة لتكريس حالة من الانهيار، ليس للحدود التي رسمتها خطوط «داعش» فقط، ولكنها تطاول أيضاً نموذج وحدة الحياة والعلاقة بين المكونات التي انطوت عليها هذه الجغرافيا في الهلال الخصيب.
تساءل الباحث الأميركي روبين رايت في صحيفة «نيويورك تايمز» 28 أيلول 2013 عما إذا كانت الحرب الدائرة في سورية ستؤدي إلى إعادة رسم خريطة المنطقة على غرار انفجار منطقة البلقان أو تفكك الاتحاد السوفياتي؟ معتبراً أن المجال الإقليمي الراهن الموروث من الحقبة العثمانية وصراع القوى الغربية الذي أفضى إلى اتفاقية سايكس ـ بيكو، هو في طور التعديل والمراجعة.
ولكن كيف يمكن لنا أن نستفيد من دروس التاريخ، وهل ثمة ما نتعلمه من هذه الدروس كنخب سياسية وثقافية واقتصادية؟
الواقع يقول إن هذه النخب، ولا نستثني منها أحداً، التي تسلطت على بلداننا، هيأت الأوضاع العملية للوصول إلى حالة التردي والانهيار التي وصلت إليها كيانات الهلال السوري الخصيب، ذلك أن فشلها في إدارة الثروات وطريقتها في ضبط عمليات الصراع الاجتماعي، كما الثقافي، بين مكونات المجتمع، كانت على سوية من السوء بحيث أدت إلى هذه الوقائع الكارثية.
وقبل أعوام كتب الأميركي روبرت كابلان عن انتقام الجغرافيا، وقال حينها أن تلك المنطقة الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط والخليج العربي ستنتهي إلى التفتت والتقسيم وسيجري استلحاقها بالكيانات المجاورة. وأرجع أسباب ذلك بالدرجة الأولى إلى فشل الأنظمة السياسية التي تعاقبت على الحكم فيها، في إدارة عملية تنموية ناجحة وتدعيم النسيج الوطني بدرجة كافية تمنح تلك الكيانات الحد الأدنى من المناعة في مواجهة ما قد يعترضها من أزمات.
ثمة من يرفض جرح «نوستاليجياه الوطنية» ويصر على إغماض عينيه عن الوقائع التي باتت تتشكل بصلابة، وصارت لها حدود وتخوم ومراكز. ولكن ماذا يفيد ذلك بغير إطالة الأزمة وتركها تكمل مسارها الكارثي، مقابل حالة الجدب التي أصابت نخبنا في المعالجات والمقاربات المنطقية؟
في العراق يتشكل التقسيم في شكل ثابت بعدما أفرزت وقائع الاحتلال الأميركي تحولاته، حيث يجري الصراع حول تثبيت هذه التحولات وإقرارها في شكل نهائي.
بطريقة أوضح، بات الصراع يرتكز بدرجة كبيرة على المحاصصة الثرواتية كركوك نموذجاً وتحصيل ما أمكن من عناصر القوة الاقتصادية في هذا المقلب أو ذلك. وتلك مسائل ستحسمها قوة كل طرف وقدرته على التضحية أكثر وامتلاكه لأسباب القوة راهناً. فهل ثمة إمكانية سورية للانقلاب على هذا الواقع، للخروج من هذا المسار القاتل للجغرافيا والبشر قبل أن تصل خطوط رسم خرائط الجغرافيا في الشمال إلى نهايتها ونخضع لمقتضيات المشروع الأميركي «الإسرائيلي» الوهابي وتنظيمه الـ «داعشي» التفتيتي ونستسلم لقدره الحتمي؟
لن يفرض تجديد «سايكس- بيكو» جغرافيا مادية فقط، بل اجتماعية أيضاً، غير أن الافتراض الذي نطرحه هنا هو أنه لا يزال مبكراً الحديث جدياً عن تحول استراتيجي في جغرافيا الهلال السوري الخصيب السياسية، التي تتركز عليها معظم أسئلة الخريطة الجديدة في المنطقة.
ولكن التمييز واجب، هنا، بين الأسئلة التي تشير إلى أن التغيرات يمكن تكريسها في شكل نهائي، وأخرى قابلة للمراجعة، وثالثة هي نفسها متغيرة لا تثبت على حال. ومن الضروري أيضاً أن نفرق بين تغيرات مفروضة بحكم أمر واقع، وأخرى يمكن تقنينها.
وربما يجوز استخدام تعبير تفتت سايكس ـ بيكو للتعبير عن هذا المعنى، بغضّ النظر عن المدلول اللغوي المباشر لها. وهذا التعبير يعني، في السياق الذي نستخدمه فيه، وصول الانقسام في دولة أو أي كيان إلى مستوى يتعذر معه استمرارها كما كانت، أو إعادتها إلى وضعها السابق على هذا الانقسام، كما يعني انفراط عقد كيان قائم بطريقة يستحيل معها جمع حبات هذا العقد لإعادته كما كان.
لذلك، يصعب فعلياً ومنهجياً الحديث الآن عن تعديل في الخريطة التي اصطلح على تسميتها بخريطة سايكس – بيكو، أو تغييرها كلياً، لأن هذا ليس وارداً في أبعد مدى زمني يمكن أن يمتد إليه التحليل، خصوصاً أن أي تفتيت أو مشروع تقسيم في المنطقة يحتاج بالنهاية إلى مجلس الأمن، وروسيا والصين سيستعدان منذ الآن لحماية وحدة مجتمعاتهما من خلال رفض هذه المشاريع والتلويح بالفيتو.
وعلى رغم أن التحولات الكبرى في العالم تحدث بفعل رياح تغيير عاتية، فهي تتطلب عوامل أخرى، أهمها وجود نمط معين من التفاعل بين هذه الرياح والمنطقة التي تهب عليها، بحيث تكون نتائجها تفكيكية، وليست تفتيتية، وأن يحدث التفكيك المترتب عليها للنظام السياسي بـ«مقاسات» ملائمة لإعادة تثبيت الخريطة الدولية.
هكذا تبدو منطقة الهلال السوري الخصيب كما لو أنها ستذهب ضحية التحول الاستراتيجي في خريطتها التي صنعها الدبلوماسيان، البريطاني والفرنسي عام 1916، إبان تحديد مصير المقاطعات العربية في الإمبراطورية العثمانية، حين سقطت، بعد أن ظلت آيلة للسقوط لما يقرب من قرن. إلا ان شعبنا في الهلال السوري الذي يقف الآن على الحد الفاصل بين هذه التحولات سيكون أمام مسؤولياته لاسقاط كل مشاريع التقسيم والانعزال يحقق الفعل التاريخي المنوط به وهو توحيد سورية بكل ابعادها الحضارية الراقية.