حال المؤتمر بعد 25 عاماً: ورقة تقويمية ورؤية مستقبلية لتجربة المؤتمر القومي العربي في دورته السادسة والعشرين

معن بشور

في زمن الانقسام بأبشع صوره، والغلوّ بأخطر تعابيره، والتوحش بأقسى أشكاله، والتعصب الطائفي والمذهبي والعرقي في أقصى توتراته، لم يكن سهلاً على كيان فكري سياسي جامع وعابر لأقطار الأمّة ولتياراتها المتعدّدة، ومكوّناته المتنوّعة، أن يصمد على امتداد ربع قرن ونيّف، وأن يستمرّ محافظاً على مبدئيته في القضايا الكبرى، وعلى صلابته في الحفاظ على استقلاليته، وعلى توازنه الناضج في التعامل مع القضايا الخلافية التي تعصف بحياة الأمّة وتكاد تودي بوحدة كياناتها الوطنية، بعد أن بدا لأعداء الأمة أنهم نجحوا بإبعاد الوحدة العربية عن هموم واهتمامات الأمّة.

ولعلّ من أبرز مظاهر سلامة توجهات هذا الكيان وأدائه، أنّ معظم الاتهامات والافتراءات التي وجهت إليه منذ انطلاقته لم تجد دليلاً واحداً يثبت صحتها، خصوصاً أنها كانت تأتي من هذه الجهة وتلك المناقضة لها في الوقت ذاته، فيستمرّ هذا الكيان في الحياة وتتساقط من حوله الأوراق اليابسة بعد أن جفّت قدرتها على الاخضرار، فتحوّلت مهمّتها الى محاولة تشويهه أو شيطنته أو اتهامه بما هو ليس فيه، بل بما هو نقيضه.

ولم تقتصر استمرارية هذا الكيان، المؤتمر القومي العربي، عليه وحده، بل شملت أيضاً كلّ المؤسسات التي ساهم في إطلاقها بدءاً من مخيمات الشباب القومي العربي ومنتديات تواصلهم، وصولاً إلى المؤتمر القومي الإسلامي الذي انعقد قبل أسابيع، مروراً بالعديد من المبادرات والملتقيات والمنتديات والجمعيات المتخصصة التي تمتلأ بها حواضرنا العربية رغم كلّ ما تعانيه من حصار ومضايقات وتضييق على غير مستوى.

لقد قلنا الكثير في أسباب استمرار المؤتمر القومي العربي طيلة هذه العقود، فيما غابت كيانات أخرى مماثلة في الأهداف والتطلعات، ولفتنا سابقاً إلى ميزات حصّنت هذه التجربة القومية المتمثلة باستقلاليتها، وتوازنها، وحفاظها على ديمقراطية العلاقات وشفافيتها، وعلى تطلعها نحو القضايا الكبرى في الأمّة وعدم الانجراف في الصراعات الدموية التي حذّر منها المؤتمر مبكراً، وابقائها لأهداف المشروع النهضوي العربي الست ماثلة أمامها تناقشها كل عام، بل تناقش مدى اقترابنا كأمّة منها أو ابتعادنا عنها، وإقرارنا بأننا قد ابتعدنا أكثر مما اقتربنا دون أن يعني هذا الإقرار أننا تنازلنا عن تفاؤل إرادتنا رغم غيوم التشاؤم الملبّدة فوق عقولنا.

إلاّ أن أمراً رئيسياً ينبغي التركيز عليه والعمل بمقتضياته، وهو أنه ما كان ممكناً للمؤتمر القومي العربي وأمثاله الاستمرار لولا حاجة الأمّة ونخبها الحرّة المستقلّة إليه كإطار جامع على المستوى القومي، وكصيغة حوار بين آراء واجتهادات متعدّدة تحت سقف الثوابت القومية، وكإرادة عارمة، وأداة للتفاعل الخلّاق لاستنباط سبل خروج الأمّة من محنتها ودخولها مدارج النهوض الحضاري المأمول.

هذه الحاجة التي تزداد كلّ يوم مع اشتداد الزلازل والأعاصير والعواصف السياسية والاجتماعية والأمنية والعسكرية والاقتصادية من حولنا، تعزّز في كلّ واحد منّا إحساسه بالمسؤولية لكنها في الوقت ذاتها تطالبنا أن نكون أكثر استعداداً لمراجعة تجربتنا، نطوّر ما هو إيجابي ومفيد، ونتخلص مما هو سلبي ومضرّ، فنعطي بذلك مثالاً يحتذي به آخرون، أنظمة وتنظيمات فيخرجون من أسر المكابرة والإنكار في قراءة تجاربهم، ويمضون في مراجعة مستمرة مفتوحة العيون على كلّ تطور، ومفتوحة الآذان على كلّ رأي، ومفتوحة الأذهان على كلّ ما يهدي إلى سواء السبيل.

الفكرة الأولى: حين تأسّس المؤتمر عام 1990 ورد في المادة الأولى من نظامه الأساسي «تعريف المؤتمر» بأنه «تجمّع من المثقفين والممارسين العرب»، أي أنه تجمع فكري سياسي مهمته، كما تقول المادة الثانية أيضاً، «الإسهام في شحذ الوعي العربي بأهداف الأمّة المتمثلة في مشروعها الحضاري».

وعلينا أن نعترف بعد ربع قرن ونيّف على تأسيس المؤتمر بتراجع دوره الفكري والثقافي لصالح الدور السياسي والنضالي على أهميته ، ولما عمّت أجواء الانقسام معظم أقطار الأمّة، وحول معظم الأزمات والقضايا المطروحة، ارتبك أيضاً الدور السياسي والنضالي بعد أن كان قد تعطل إلى حدّ الدور الفكري والثقافي المأمول للمؤتمر في مرحلة تحتاج فيها الأمّة، أكثر من أي وقت مضى، إلى بوصلة فكرية وثقافية وتحليلية تتجاوز الخطاب التبسيطي السائد.

طبعاً لا يمكن هنا أن نتجاهل أنّ التيار القومي العربي كان يتميّز عبر العقود الثلاثة الماضية بوجود قاعدة فكرية هامة يرتكز إليها وهي مركز دراسات الوحدة العربية، وهو المركز الذي خرجت فكرة المؤتمر نفسه من رحم ندواته وحلقاته النقاشية، وطبعاً لا ننكر أيضاً دور المركز في إعداد تقرير سنوي عن حال الأمّة يشكّل خلفية نقاش للمؤتمر في دوراته المتعاقبة، لكن علينا أن ندرك أنّ المركز نفسه بعد أن اتضح عمق تأثيره وحجم إشعاعه بات مستهدفاً من جهات كثيرة فأحكمت، وما زالت، الحصار المالي واللوجستي عليه بهدف ضرب واحد من أهمّ الشرايين الفكرية للحركة القومية.

لا ننكر أيضاً أنّ مؤتمرنا دأب كلّ عام على مناقشة التطورات المتصلة بكلّ هدف من أهداف المشروع النهضوي العربي الوحدة العربية، الديمقراطية، الاستقلال الوطني والقومي، التنمية المستقلة، العدالة الاجتماعية، والتجدّد الحضاري ، غير أنّ المناقشات في أغلبها كانت مناقشات سياسية وحزبية، وكأنّ المؤتمر هو مجرد منبر يقول فيه عضو المؤتمر كلمته ويمشي، ويوجه من خلالها رسالة ويمضي، فيما كان المطلوب أن يكون المؤتمر أيضاً سبيلاً لكي يقدّم أعضاؤه خلفيات فكرية وثقافية واستراتيجية لمواقفهم، ورؤى فكرية وثقافية لتحليل ظواهر خطيرة تعيشها الأمّة، فيكون نقاش في العمق ولا تتكرّر نقاشات وخطب وجدال صاخب نرى أصداءه في الشارع تعصّباً وتناحراً واحتراباً.

لقد أدرك المؤتمر في خلفيات تأسيسه أنّ الفكر القومي العربي بمدارسه الأساسية كان مصيباً في تقديم الرؤى الكبرى والحلول الرئيسية لقضايا الأمّة، ولكنه أدرك أيضاً أنّ الكثير من الخطاب والممارسة السائدين المرتبطين بهذا الفكر أو الرافعين لشعاراته لم يكونا دائماً بمستوى رقيّ هذا الفكر وعمقه واستشرافيته.

وبدلاً من أن يكون الجهد الفكري والثقافي المرتبط بهذا الفكر جهداً بحثياً تحليلياً قائماً على دراسات دقيقة للواقع، تحوّل في أغلب الأحيان إلى جهد ذي طابع إعلامي بحت، بكلّ ما يعنيه ذلك من تغليب للإثارة على الجدية، وللتسطيح على التحليل العميق، وللانفعال بالراهن على الرؤية العميقة، وللعقلية اللاهثة وراء النجومية على العقل الباحث عن الحقيقة المتجردة عن الأهواء.

فمهمة استعادة الدور الفكري والثقافي للمؤتمر القومي العربي هي مهمة مركزية له كمؤسسة، ولأعضائه كأفراد، لأنه في ذلك يعيد توجيه البوصلة بالاتجاه الصحيح بعد أن ضّل الكثيرون الطريق وغّلبوا الاعتبارات التكتيكية على الرؤى الاستراتيجية، والمصالح الفئوية الضيقة على المصالح الوطنية والقومية العليا.

ومع تغليب السياسي الراهن على الفكري والثقافي غاب عن دورات المؤتمر كبار المبدعين في الفكر والأدب والفن والبحث التاريخي، ممن لعبوا، وما زالوا، دوراً كبيراً في شحذ الهمم القومية وتعميق الوعي الشعبي.

إنّ الاهتمام بالمسألة الثقافية وإعطاءها أولوية في اهتمامات المؤتمر يجب أن يقترن بوضع خطة متكاملة مع مركز دراسات الوحدة العربية تسعى لتعميق الفكر القومي العربي وتطويره بما يتناسب مع التطورات المتسارعة في الوطن العربي والإقليم والعالم.

كما أنّ المؤتمر، بأمانته وأعضائه، مدعوّ إلى السعي لاستقطاب مبدعين في الفنون والعلوم من أصحاب التوجه الوحدوي العربي إلى صفوفه من هنا تبدو فكرة إصدار مجلة عن السينما عن مركز دراسات الوحدة العربية فكرة لامعة .

الفكرة الثانية: ومرتبطة بصياغة بيانات المؤتمر وخطابه حيث ما زال الكثير من أعضائه يطالبونه وهم في غمرة حماستهم لموقف معيّن بإصدار بيان مؤيد لوجهة نظرهم متناسين وجود رأي آخر بين أعضاء المؤتمر، لا سيّما في أجواء الانقسام الحادّ الذي تعيشه الأمّة، والتوترات القائمة على أنواعها وتعدّد الرؤى في التعامل معها.

ولقد رأينا في ظروف سابقة أنه حين كانت تصدر بيانات، تخرج أصوات معترضة وبحدّة عليه، فيما تخرج أصوات أخرى تعترض على عدم الإشارة إلى قضايا متصلة أو مرتبطة بها، بما ينقل حال الانقسام السائدة إلى صفوف المؤتمر وندخل في دوامة من التجاذبات الحادة التي غالباً ما قادت إلى انشقاقات في مؤسسات قومية أخرى، وهو أمر يسعى المؤتمر منذ تأسيسه إلى تفاديه، خصوصاً أنّ المؤتمر لا يمنع أي عضو من أعضائه أن يدلي برأيه كاملاً في أية قضية دون أن يلزم المؤتمر بموقفه ودون أن يخرج بموقفه هذا عن ثوابت المؤتمر، وخطوطه الحمر، كأن يكون الموقف المعلن دعوة للتطبيع مع العدو، أو تبريراً لعدوان أجنبي أو ترويجاً طائفياً أو مذهبياً.

ولا يخفى أيضاً على أعضاء المؤتمر أنّ المؤتمر لا يعيش في الفضاء، وأنه مضطر أحياناً إلى الأخذ بعين الاعتبار الظروف الموضوعية المحيطة به، ولكن بالتأكيد دون الاستسلام لها والخضوع لإملاءاتها.

ولمعالجة هذه الإشكالية وهي ضرورة مواكبة المؤتمر لما يجري من تطورات، وضرورة مراعاته للتنوع داخله، فإن البيان الصادر عن كلّ دورة من دوراته بيان إلى الأمّة ، يشكّل مع المشروع النهضوي العربي، المرجعية الفكرية لأيّ بيان أو موقف صادر عن المؤتمر، وهو أمر لا يتحقق بشكل ناجح إلاّ إذا جاء البيان أو الموقف يتضمّن تحليلاً عميقاً لكلّ عناصر هذا الموقف، ولا يكتفي بالثنائية الطاغية على خطابنا السياسي أسود أو أبيض، حق أو باطل، خير أو شر ، التي كثيراً ما تكون تبسيطية وتضليلية وتخدم أعداء أمتنا فيما تظن أنها تواجههم.

هذا التوازن المرتبط بالإحاطة الشاملة لعناصر الموقف لا يتمّ أيضاً دون عمق فكري وتحليلي للموقف، فالمؤتمر ليس حزباً سياسياً أو جمعية حركية ليصدر بيانات كلّ يوم، يؤيد هنا ويندّد هناك، بل يجب أن تخرج عنه مواقف مدروسة وشاملة ويتمّ تبادل الرأي فيها بين عدّة شخصيات رافقت المؤتمر منذ تأسيسه أو متخصصة بالحدث موضوع البيان.

كما أنّ هذا التريث والتوازن لا يلغي حق كلّ عضو من أعضاء المؤتمر من أن يدلي بدلوه، سواء في مخاطبته للرأي العام أو على المنابر الإعلامية التي تتاح له.

الفكرة الثالثة: إنّ المؤتمر ليس أمينه العام فقط، ولا أمانته العامة فحسب، ولا حتى إدارته اليومية، بل هو كلّ عضو من أعضائه، وكلّ هيئة أو منبر يتولى أعضاؤه مسؤوليات قيادية فيها، بحيث لا تخرج من المؤتمر فكرة أو توجه، إلاّ ويسعى كلّ عضو من أعضائه إلى نشرها وحمل رايتها وإطلاق المبادرات التي تحققها، بل السعي إلى تعميم ما قام به من مبادرات ليعرف كلّ زملائه وأبناء أمّته بما قام به.

ولا ينبغي قطعاً أن تكون العلاقة بين الأمانة العامة والأعضاء علاقة من طرف واحد، بل علاقة تفاعلية تصاعدية تشاركية يتمّ التعبير عنها بفكرة من هنا وملاحظة من هناك، باقتراح اليوم وبمبادرة غداً، بفتح آفاقٍ جديدة في هذا المجال أو بتحقيق اختراقات معيّنة في ذلك المجال، ودائماً بتغذية المؤتمر بمعلومات عن مبادرات فكرية أو سياسية أو نضالية يقوم بها أعضاؤه، فيدرك كلّ أعضاء المؤتمر حجم المساحة التي يتحرك عليها أعضاؤه.

صحيح أنّ بعضاً من هذا كان يتحقق في العقود الماضية، فيطلق المؤتمر مثلاً نداء لكسر الحصار على العراق فتخرج طائرات من عواصم عربية بمبادرات من أعضاء المؤتمر وينطبق الأمر على كسر الحصار البحري على غزّة فتخرج سفن وأساطيل على متنها أعضاء من المؤتمر، بل يصاب عضو أمانته العامة بالرصاص «الإسرائيلي».

وصحيح أنّ المؤتمر في استراتيجيته في دورته الثالثة تبنّى أفكاراً لإطلاق منتديات وجمعيات عربية متخصصة، فإذا بأعضاء من المؤتمر يبادرون إلى تأسيسها، ينجحون حيناً ويتعثرون حيناً آخر، كما تبنى المؤتمر أفكاراً لتطوير العلاقة مع دول الجوار ونظّم مركز دراسات الوحدة العربية، ندوات في هذه الدول إيران وتركيا ، وخارجها لخدمة هذا التوجه المنبثق أصلاً من المشروع النهضوي العربي، والسعي لتحصينها على قاعدة التكافؤ بين الأمم والاحترام المتبادل لسيادة كلّ أمّة واستقلالها، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.

وصحيح أيضاً أنّ المؤتمر أطلق دعوة لمقاومة مشروع «الشرق الأوسط الجديد الكبير»، ولمناهضة التطبيع ومقاطعة العدو وداعميه لتنطلق عبر أعضائه حملات وحركات وتؤسّس جمعيات وهيئات، بل مراصد لإسقاط هذه المشاريع ولمناهضة التطبيع، ويتصاعد عبر أعضائه ضغط لتشريع مناهضة التطبيع ولإصدار قوانين تجرّم التطبيع والمطبّعين، بل ويبلغ الأمر حدّ الحؤول دون زيارة مسؤولين صهاينة لبلاد عربية كما جرى مع الإرهابي بيريز في المغرب .

وصحيح أنّ أعضاء المؤتمر، لا سيّما في اتحادات الأطباء والصيادلة ولجان المساندة، كانوا وراء العديد من المبادرات الإنسانية، حيث جراح الأمّة تنزف في العراق، وفلسطين، والسودان، ولبنان، وسورية، واليمن غير هيابين بالمخاطر والصعوبات.

وصحيح أيضاً أنّ المؤتمر أطلق دعوة للتأكيد على عالمية القضية الفلسطينية، وهي القضية المركزية للأمّة، عبر مراكز ومؤسسات وحملات وملتقيات شارك فيها الآلاف من شرفاء الأمّة وأحرار العالم من أجل عناوين تلك القضية، كالقدس وحق العودة وحق المقاومة وحرية الأسرى، والعدالة لفلسطين، ناهيك عن مشاركات دولية في مبادرات تتصل بقضايا الأمّة الساخنة كما الحال مع حملات ومحاكمات قانونية عالمية لملاحقة مجرمي الحرب في العراق، والانتصار لوحدة السودان ومبادرات شعبية عربية دولية لمناهضة العدوان الخارجي على سورية ودعم الحوار والإصلاح، كما لإطلاق حوار يمني يمني، والمصالحة الفلسطينية.

وصحيح كذلك، أنّ المؤتمر اعتبر أنّ «المقاومة» خيار الأمّة وقدرها وضمانة استقلالها ومرتكز نهوضها، وخصص دورته التاسعة عشرة في الخرطوم عام 2009، لهذه المهمة، وأطلق مع المؤتمرات الشقيقة العديد من الفعاليات انتصاراً للمقاومة في فلسطين والعراق ولبنان، ولم يقع أبداً في «فيروس» ازدواجية المواقف من تلك المقاومة، فلم يؤيد مقاومة هنا ويبتعد عن مقاومة هناك.

وصحيح أنّ كلّ ما قام به المؤتمر من مبادرات كان خاضعاً لتعتيم إعلامي «مدروس» وأحياناً كثيراً لتشويه إعلامي مقصود، لكن ما كان هذا كله ليثمر لولا إحساس المتضرّرين من العروبة وأعدائها بخطورة الظاهرة التي يمثلها المؤتمر وفعالية دوره والعمل على تهميشه الى حدّ وضع أحد أمنائه العامين السابقين على لائحة المطلوبين من الاحتلال الاميركي عام 2006.

كلّ هذا لا يعفي المؤتمر، وكلّ عضو من أعضائه، من أن يسأل نفسه عن دوره ومساهمته ومبادراته في مسيرة المؤتمر والحركة القومية العربية ما بين دورة للمؤتمر وأخرى، وأن يقدّم لنفسه، قبل غيره كشف حساب دقيقاً لكلّ عمل قام به، أو مبادرة أطلقها، أو حتى رسالة إلى المؤتمر تحمل اقتراحاً أو فكرة أو ملاحظة، فلا تأتي بعض الرسائل إلاّ في موسم واحد عشية المؤتمر لتعترض وتتهم وتسيء الظن بأخوة لهم خصوصاً «أنّ بعض الظن أثم».

والمشكلة في بعض هؤلاء أنهم لم يتخلّصوا بعد من مفردات ومصطلحات واتهامات كانت وراء العديد من الأزمات والمحن والانشقاقات التي مرّت بها أحزابنا وحركاتنا العربية، وجاء المؤتمر في محاولة لإيجاد مناخ جديد ولغة تخاطب جديدة، فلا تسقطنا الخلافات في الرأي أو الرؤية في مهاوي التطاحن السياسي والعقائدي السائدة، فنخوّن بعضنا باسم الوطنية، ونكفر بعضنا باسم الدين، ونلغي بعضنا البعض باسم العصبيات على أنواعها.

وبهذا المعنى فنهوض المؤتمر بأعبائه، وقيامه بواجباته، لا يتمّ فقط عبر تكرار مطالبتنا له بذلك، وكأنّ المؤتمر غير أعضائه، وكأنّ القيام بالمهام الملقاة على عاتقه ليس مهام كلّ واحد من أعضائه، بل يتمّ هذا النهوض أساساً بأن يتحمّل كلّ عضو مسؤولياته الفكرية والسياسية والنضالية والمالية لأنّ بدون الإمكانات المالية اللازمة تبقى الأفكار أفكاراً والأحلام أحلاماً.

الفكرة الرابعة: هي فكرة توفير الموارد اللازمة لعمل المؤتمر ونشاطه وفعاليته، وهي فكرة نلحّ في كلّ دورات المؤتمر على أهميتها والتي لا أعتقد سبيلاً إلى الخروج منها إلاّ باعتماد اقتراح عضو الأمانة العامة أ. عبد الرحيم مراد سبق أن أوردته في ورقة التقييم في الدورة السابقة ، بالإضافة إلى الاشتراكات السنوية التي يجب أن يتمّ دفعها مع بداية كلّ عام لتساهم بسدّ النفقات السنوية لمقرّ المؤتمر.

وعلى الرغم من تقديرنا العالي لكلّ المشاركين في دورات المؤتمر خلال السنوات الأخيرة لتحمّلهم نفقات سفرهم وإقامتهم، وهو أمر لا يحصل إلاّ نادراً في أغلب المؤسسات الأخرى، لكن علينا أن نتذكر أنّ شخصيات هامة وتاريخية ومؤثرة تُحرم من المشاركة في أعمال المؤتمر بسبب ظروفها المالية الصعبة، وندرك أنّ علينا أن لا نحرم دورات المؤتمر من مشاركتها المفيدة.

ثم هل يعقل أن يكون العائق وراء تقييد حركة أمين عام المؤتمر والأمانة العامة هو الاعتبار المادي، فيما المطلوب أن تكون جولاتهم على الأقطار ولقاءاتهم مع أعضاء المؤتمر في كلّ قطر أمراً دورياً.

وهل يعقل أيضاً أن نتحدث دائماً عن الشباب، فيما تواجه مخيمات الشباب القومي العربي المتواصلة منذ ربع قرن مشكلات تمويلها على نحو يهدّد استمرارها، ألا تستحق هذه التجربة مثلاً دعماً محدوداً خاصاً من كلّ عضو من أعضاء المؤتمر لكي تستمرّ وتتحوّل إلى مؤسسة حقيقية.

الفكرة الخامسة: لقد كرّر المؤتمر منذ تأسيسه في ربيع عام 1990 أنه ليس حزباً جديداً، ولا مركز أبحاث ودراسات، ولا نقابة، ولا منبراً إعلامياً، ولا جمعية، إذ فيه حزبيون ومفكرون وباحثون وإعلاميون ونقابيون وجمعيون، بل هو إرادة بث روح جديدة في كل هذه المؤسسات والهيئات عبر إفساح المجال بينها للحوار العقلاني الحضاري الهادئ، لتسير قدماً في ما تتفق عليه وتعذر بعضها البعض في ما تختلف عليه.

كما أكّد المؤتمر في كلّ مواقفه وبياناته إلى الأمّة، كما في كلّ ممارساته، أنه ليس امتداداً لأيّ جهة كانت، نظاماً أو حزباً أو جماعة، وفي كلّ مرّة جرت محاولة لتغيير طبيعته ووجهته ومصادرة استقلاليته، كان المؤتمر يتصدّى لها بكلّ قوة ويحبطها، مما كان يزيد من الحصار عليه حصاراً، ومن التضييق عليه تضييقاً، ومن الافتراء والإفتئات عليه افتراءً وافتئاتاً.

ولكن مع ذلك، فما زال البعض داخل المؤتمر أو خارجه، عن سوء فهم أو سوء قصد، يتعامل مع المؤتمر كأنه امتداد لرأيه أو جماعته أو النظام الذي يرتبط به، وأحياناً كمنبر لتصفية حسابات مع جهات أخرى وعلى حساب المؤتمر ذاته، فيسهم في خلق بلبلة أو تشويش تسيء إلى سمعة المؤتمر ومكانته، وعلى نحو يسيء للأهداف التي نذر أعضاء المؤتمر أنفسهم للعمل من أجلها، بل إلى فكرة العروبة ذاتها، وإلى كيان عربي ما زال محافظاً على هذه السمة القومية الجامعة التي بتنا جميعاً ندرك أنّ أعداء الأمّة حين تمكنوا من ضرب هويتها القومية والحضارية الجامعة، مستفيدين من أخطاء وخطايا ارتكبت باسمها، تمكنوا من ضرب أهمّ كياناتها الوطنية، وأطلقوا مرحلة جديدة عن التفتيت الدموي والتدمير المنهجي كالتي نعيشها منذ سنوات.

الفكرة السادسة: وهي التي تتصل بدور المؤتمر في احتضان المسألة الاقتصادية والاجتماعية لدى ابناء الأمة في اطار تحقيق هدفين رئيسيين من اهداف المشروع النهضوي العربي وهما «التنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية».

إنّ المؤتمر في غمرة انهماكه، ومعه الأمة كلها، في مواجهة التحديات المصيرية التي واجهتها الأمة على مدى الربع قرن الماضي، من حروب واحتلال واحتراب واقتتال، لم يول المسألة الاقتصادية الاجتماعية ما تستحقه من اهتمام، علماً انّ التردي الاقتصادي الاجتماعي في الوطن العربي هو احد اهمّ روافد الاحتقان والتوتر السائد في المنطقة.

وبهذا المعنى فالمؤتمر معنيّ بهذه المسألة، قدر عنايته بالمسائل الأخرى، وهذا يتطلب ان يدرس المؤتمر الاقتراحات التالية:

1 ـ الدعوة الى مؤتمر اقتصادي اجتماعي عربي عام، وبعد اعداد جيد ليتدارس كلّ القضايا والتحديات المطروحة سواء على مستوى التنمية المستقلة أو العدالة الاجتماعية لوضع استراتيجية اقتصادية اجتماعية عربية متكاملة.

2 ـ الدعوة الى تأسيس منتديات اقتصادية اجتماعية في كلّ قطر تضمّ خبراء اقتصاديين وقادة نقابيين لمتابعة كلّ التطورات ذات الصلة.

3 ـ فتح حوارات مع القوى التقدّمية المنشغلة بالقضية الاجتماعية الاقتصادية من غير الممثلة في المؤتمر لا سيّما مع اللقاء اليساري العربي من اجل بحث سبل التعاون والتكامل معها.

الفكرة السابعة: وتتصل بالشأن التربوي الذي لم يكن موضع الاهتمام المطلوب من المؤتمر ومن سائر فاعليات الأمّة على مدى السنوات الماضية، فيما تبرز يوماً بعد يوم أهمية التربية كحصن للمستقبل وضمانة للتواصل العميق بين التراث والعصر خصوصاً أننا نلاحظ أنّ المدرسة، كوسيط تربوي، هي المسؤول عما تعانيه الأمة من غلوّ وتطرف من جهة، ومن تغرّب واستلاب من جهة أخرى.

فأين المدرسة العربية الجامعة؟ أين المناهج العصرية التي تركز على مفاهيم المواطنة ومواكبة العصر؟ أين التنشئة الوطنية؟ ما الذي يحول دون تأسيس مدارس وجامعات حريصة على مستواها الأكاديمي، كما على روحها الوطنية والقومية؟ مع الإشادة دون شك بجهد مميّز لأحد مؤسسي هذا المؤتمر في تأسيس جامعة باتت لها فروع في العديد من الأقطار العربية.

أليس من واجب المؤتمر أن يولي الشأن التربوي عموماً، وشأن اللغة العربية خصوصاً ما يستحقانه من اهتمام، فيجري الاتصالات مع المرجعيات المختصة، ويعقد الندوات بالتعاون مع المراكز المتخصصة، ويسعى الى التواصل مع المدارس والجامعات القائمة.

بعد 25 سنة على تأسيس المؤتمر القومي العربي ينبغي أن تعود التربية والتعليم الى الصدارة من الاهتمام، وأن تصبح مهمة الدفاع عن اللغة العربية أولوية من أولويات المؤتمر.

الفكرة الثامنة: وهي المتصلة بالمسألة الإعلامية، حيث لا يزال المؤتمر وأنشطته ومبادراته يواجهون تعتيماً إعلامياً مدروساً، إما لأسباب تتعلق بمن لا يريد أن يكون للتيار القومي العربي مكان في حياتنا العربية، أو لأسباب تتعلق بتقصير أو قصور ذاتي متعلق بنا.

ولقد تناول المؤتمر في أكثر من ورقة من أوراقه هذه المسألة وأقترح لها حلولاً، لا بل حرص عام 2004 أن يدعو الى مؤتمر خاص بأعضاء المؤتمر الإعلاميين في الدوحة، وطرح منذ فترة طويلة فكرة إنشاء فضائية خاصة بالتيار القومي العربي، لكن علينا أن نعترف بأنّ تقدّماً طفيفاً قد حصل في هذا المجال، لا بل إنّ قلة من أعضاء المؤتمر الذين تستضيفهم القنوات والمنابر الإعلامية يشيرون الى مواقف المؤتمر وتوجهاته خلال أحاديثهم.

لذلك لا بدّ من عقد خلية عمل إعلامية لأعضاء المؤتمر من رؤساء التحرير والصحافيين والكتاب ولأصدقاء المؤتمر الإعلاميين لإعداد برنامج متكامل يجري العمل على تنفيذه فور توفر الإمكانات اللازمة وبعد إقراره من الأمانة العامة.

ولتدرس هذه الخلية فكرة إنشاء مؤسسة إعلامية عربية مستقلة تبدأ عملها بالتدرّج من التعاون مع المنابر القائمة وتنظيم مشاركات منتظمة عبر نوافذها الى تأسيس منابر إعلامية جديدة.

أفكار أخرى

هناك بالتأكيد أفكار أخرى تتصل بدور الشباب في المؤتمر الذي يعتز المؤتمر أنه حريص على إطلاق فكرة مخيماتهم مع انطلاقته عام 1990، وعلى دور المرأة التي يتحدّث أعضاء المؤتمر كثيراً عن أهمية مشاركتها فيه وقليلاً ما يتقدّمون بترشيحات لنساء مؤهلات لحضور المؤتمر ممّن لهنّ دور فكري أو ثقافي أو نقابي أو نضالي بارز.

من الأفكار المطلوب مناقشتها وإقرارها هي علاقة المؤتمر بالهيئات الشقيقة المؤتمرات الثلاث ، بالاتحادات والمنظمات العربية، وهو ما بادرت إليه «هيئة التعبئة الشعبية» التي يرأسها أحد أعضاء المؤتمر التي ينبغي تعزيزها وإحياؤها لتكون نواة لجامعة شعبية عربية تضمّ المؤتمرات والاتحادات والمنظمات.

ومن الأفكار التي ينبغي دعمها من أعضاء المؤتمر إطلاق «جبهة ثقافية عربية» تضمّ كلّ الهيئات والمنتديات والملتقيات والشخصيات الثقافية العربية حيث سيدعى في الخريف المقبل إلى «الملتقى الثاني للهيئات الثقافية العربية» بمبادرة مشتركة من المنتدى القومي العربي في لبنان والمركز العربي الدولي للتواصل والتضامن ويرأس كلاهما أعضاء في المؤتمر.

من المؤسسات التي ينبغي الاهتمام بها أيضاً لتجسيد علاقة المؤتمر بالقضية الفلسطينية هو «المنتدى الدولي من أجل العدالة لفلسطين»، والقيّمون على إطلاقه وأغلبية المشاركين في اجتماعه التأسيسي هم أعضاء في المؤتمر، كما أنّ منسقه العام المنتخب هو أيضاً من أعضاء المؤتمر، الذي يسعى لأن يكون إطاراً للتفاعل العربي الدولي من أجل فلسطين.

وفي الختام لا بدّ من الإشارة الى ومضات مضيئة في زمن الظلمة والظلم، والى لحظات مفعمة بالأمل فيما الإحباط واليأس سائدان، والى تراكم قومي يتعاظم يجمع بين التكامل والتواصل والمبادرات الخلاقة.

في الذكرى الـ 57 للوحدة المصرية السورية التقى في بيروت حوالى 180 شاباً وشابة من 16 قطراً عربياً في ندوة للتواصل الفكري الشبابي العربي هي الخامسة التي تقام كلّ عام ويديرها ويقدم أوراقها الشباب وكانت بعنوان «اربع سنوات على الحراك الشعبي العربي: رؤية شبابية». وبالطبع كان القيمون عليها هم أعضاء في المؤتمر، وكانت أغلب مناقشتها تتميّز بالعملية والموضوعية والالتزام القومي العربي.

وفي الذكرى ذاتها، وبمبادرة من هيئات قومية ومقاومة يأتي المؤتمر في مقدّمها، التقى في بيروت ايضاً حوالى 450 شخصية عربية وعالمية في «منتدى دولي من أجل العدالة لفلسطين» وتمّ الاتفاق على أن يكون المنتدى إطاراً لشبكة تضمّ كلّ العاملين من أجل فلسطين من شرفاء الامة واحرار العالم.

في المغرب أيضاً، تحركت احزاب وجمعيات ونقابات ومنظمات حقوقية لمنع زيارة الإرهابي شمعون بيريز الى المغرب للمشاركة في «منتدى هيلاري كلينتون»، وكان في مقدّمة المشاركين في هذه الحملة أعضاء المؤتمر، وقد نجحوا في منع بيريز من زيارة المغرب، كما نجحوا في تعزيز الأمل بموقع فلسطين في حياة الأمة.

وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، بادرت شابة مصرية الى اطلاق مجموعة «بلاد العرب أوطاني»، خاصة بالشباب والشابات الذين شاركوا في مخيمات الشباب القومي العربي منذ 25 سنة، فإذ وخلال ساعات يتلاقى عبر الموقع حوالى الف شاب وشابة وأكثرهم يقول: «لقد كان المخيم نقطة تحوّل في حياتي».

قبل أسبوعين تقريباً أجرت صحيفة «الرأي» الكويتية تحقيقاً لافتاً بعنوان» القوميون يعودون في الكويت» تضمّنت إشارات الى مبادرات تفيد عن حراك يوحي بعودة الروح الى التيار العروبي القومي الديمقراطي في الكويت، ويضمّ أجيالاً متعددة من الكويتيين، بعضهم من رفاق الجيل المؤسّس وتلامذتهم، وبينهم أحد مؤسسي مؤتمرنا الراحل الكبير جاسم القطامي والبعض من الأجيال الشابة، وقد تحدّث كلّ من حاورتهم الصحيفة بكلّ نضج ومسؤولية قائلين ان لا طريق لمجابهة العصبيات الطائفية المذهبية الاّ بالعروبة والديمقراطية والحركة القومية العربية.

مما لا شك فيه انّ كلّ واحد منا له في بلده ومضات تشي بتعاظم نمو التيار القومي العربي المتحرّر من سلبيات واخطاء الماضي المستعدّ لمواجهة التحديات على أنواعها.

قيل قديماً لزعيم عشيرة عربية كبرى: ما أخبار عشيرتكم… فأجاب الشيخ متحسّراً: عشيرتنا بخير لا ينقصها سوى الخام والطعام.

ورقة قدمت في المؤتمر القومي العربي الدورة 26 التي انعقدت في بيروت بتاريخ 2-3-6-2015

الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى