مخاطر انهيار الدولة القطرية على مشروع الوحدة العربية… استراتيجيات التفكيك والتجزئة والتقسيم ٤/١
ورقة قدمت إلى المؤتمر القومي العربي الدورة 26 المنعقدة في بيروت في 2-3 حزيران 2015
د. ساسين عساف
أهمية الموضوع وراهنيته
في الواقع العربي الراهن تتقدّم مسألة الدولة القطرية على كلّ المسائل الأخرى لا بل هي وقف عليها حيث لا سبيل إلى استشراف مستقبل مشروع الوحدة العربية من دون أن يعرف مصيرها. فالدولة القطرية تمرّ في مرحلة انتقالية نهاياتها مفتوحة على غير احتمال. من هذه الاحتمالات:
توسيع حدود وتقليص حدود أي نشوء دول لم تكن وانهيار دول كانت موجودة.
ترسيم حدود لدويلات طائفية وإتنية أي تقسيم داخل حدود بعض الدول القطرية.
تفاهمات على أنظمة فيدرالية أي دولة مركّبة مع المحافظة على وحدة الكيان القطري.
عقد اجتماعي جديد لدولة وحدوية أي دولة عضوية.
كلّ من هذه الاحتمالات في حال تحقّقه على كامل مساحة الوطن العربي أو على قسم منها سيترك انعكاساته على مشروع الوحدة العربية.
«اليمن ينهار أمام أعيننا»، عبارة قالها بان كي مون الأمين العام للأمم المتّحدة. وهي عبارة تنطبق على دول أخرى لا يقلّ ما يجري فيها، لا بل أحياناً يزيد عمّا هو جار في اليمن ما ينذر فعلاً بانهيارها أمام أعين العالم.
من هذا «العالم» من خطّط لهذا الانهيار ومنه من موّل ومنه من نفّذ ومنه من سيلقى التبعات.
كيف لهذا «العالم» بأفعاله كافة أن يسعى لوقف ما هو جار؟!
من له مصلحة في وقفه عاجز، ومن له مصلحة في استمراره قادر. الدولة القطرية أولى ضحاياه وربطاً مشروع الوحدة العربية.
بعد احتلال أفغانستان أعلنت أميركا أنّها لن تغادر المنطقة وأنّ لها خططاً طويلة الأجل ومصالح فيها تمتدّ من مضيق باب المندب إلى مضيق هرمز.
منذ احتلال العراق عام 2003 انكشف المشروع الإمبراطوري الأميركي للسيطرة التامة على منطقة الشرق الأوسط والعالم كلّه، فدخلت المنطقة في مسار تغييري متعثّر بفضل المقاومة العراقية وما عرف لاحقاً بمحور الممانعة. مستقبل المنطقة بدأ بالتشكّل على ثنائيةّ الاحتلال والمقاومة.
احتلال العراق لا يمثّل نهاية الاستراتيجية الأميركية بل بدايتها وهي قائمة على تدمير سيادة الدول وتفكيكها وإعادة تركيبها وفق مقتضيات السيطرة وليس وفق ما تريده الإنسانية كما ادّعى بوش في خطاب ألقاه بتاريخ 25 حزيران 2002 حيث قال: «من أجل الإنسانية كلّها يجب أن تتغيّر الأمور في الشرق الأوسط».
والأصحّ في هذا السياق هو ما أفصح عنه كولن باول بعد احتلال العراق بإعلانه أنّ الولايات المتّحدة ستعيد تشكيل الشرق الأوسط بما يتّفق مع مصالحها. إنّه «الشرق الأوسط الكبير» الذي يجعل المنطقة الممتدّة من أندونيسيا في قلب آسيا إلى المغرب وموريتانيا على شواطئ الأطلسي تحت السيطرة الأميركية ويجعل أمن الكيان الصهيوني مضموناً ويمكّنه من الدخول إلى قلب هذا الشرق الأوسط الجديد فهو معنيّ بأمن الكيان ومعنيّ أيضاً بتفكيك الدول العربية وتجزئتها ضمانة وجود واستقرار وتفوّق وسيطرة وبقاء.
استراتيجية التفكيك والدّمج تشمل الدول العربية وباكستان وإيران وتركيا وأفغانستان والكيان الصهيوني وتذوّب الوطن العربي في محيط جيوسياسي واسع وتدرج الكيان الصهيوني في هذا المحيط. هذا المشروع وضعه «المحافظون الجدد» في إدارة جورج بوش الابن لمنطقة تضم هذه الدول وأعلنه في آذار 2004 كجزء من المشروع الإمبراطوري للسيطرة على العالم وثرواته تحت عناوين جاذبة، منها: تشجيع الديموقراطية والحكم الصالح، بناء مجتمع المعرفة، توسيع الفرص ااقتصادية.
من طلائع هذه المشروع صرف إيران عن التطلّع إلى الدول الإسلامية المنفكّة عن الاتّحاد السوفياتي وشدّ نظرها إلى الدول العربية المرشّحة للتقسيم إلى دويلات شيعية وسنّية وإتنية. ومن طلائع هذا المشروع كذلك تسمية إيران وتركيا أعضاء مراقبين في جامعة الدول العربية ما يذكّر باقتراح شيمون بيريز في كتابه «الشرق الأوسط الجديد» لجعل الدولة العبرية عضواً في هذه الجامعة أو إبدالها بـ «جامعة الشرق الأوسط».
الاستراتيجية الفعّالة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط إثارة الفتنة بين الشيعة والسنّة وتأجيج الصراع بين العرب و»الفرس». هكذا ينتصر الغرب في حربه «الحضارية» على الإسلام ويجد في هذا الانتصار فرصته التاريخية لإعادة التشكيل. عدد من القادة العرب راح يحذّر من تصاعد «الهلال الشيعي» ما أدخل العلاقات العربية ـ الإيرانية أزمة شديدة التعقيد بانت تفاعلاتها في العراق والبحرين وسورية ولبنان والكويت والإمارات واليمن والمنطقة الشرقية من السعودية وذلك على قاعدة سعي إيراني واضح لمدّ نفوذها في تلك الدول. وهذا ما أوجد بدوره معطيات جيوسياسية مختلفة في العراق وبلاد الشام والخليج العربي أسفرت عن تشكيل «درع الجزيرة» وعن تنسيق استراتيجي بين دول «الاعتدال السنّي» ووأميركا والغرب و»إسرائيل» لمواجهة أطراف «التشدّد الشيعي» إيران وسورية وحزب الله ما أوحى بإنهاء الصراع الوجودي مع الكيان الصهيوني وتصويبه في اتّجاه إيران فباتت المنطقة في صراع سنّي ـ شيعي أرادته وخطّطت له الإدارة الأميركية. وهذا ما كشفه تقرير الصحافي الأميركي سيمور هرتش المنشور في مجلّة «ذي نيويوركر» 2007 بعنوان: «إعادة التوجيه».
بعد احتلال العراق 2003 وعدوان تموز على لبنان 2006 بدأ المخطّط الأميركي التقسيمي يسلك طريقه إلى تنفيذ كوندوليسا رايس اعتبرت عدوان تموز على لبنان بداية مخاض لولادة شرق أوسط جديد شرق أوسط جديد يتشكّل منذ ذلك التاريخ ولم تستقرّ له صورة حتى الآن. الحرب على العراق شكّلت بدايات التحوّل و»الرّبيع العربي» شكّل محطّة أساسية في خطّ استمراره.
مع إطلالته في تونس وعبوره إلى مصر وليبيا واليمن وسورية تجدّد الكلام عن سايكس ـ بيكو ثان لشرق أوسط جديد ترسم حدود دويلاته بدم شعوبه. وتعدّدت سيناريوهات التحوّل الجيوسياسي بالارتكاز إلى استراتيجيات ومخططات التقسيم والتجزئة المعدّة لهذه المنطقة منذ بدايات القرن الماضي. السيناريوهات متعدّدة ومتبدّلة أمّا الأهداف فواحدة وثابتة: منع قيام وحدة عربية وتثبيت للكيان الصهيوني.
عام 1907 وضع رئيس الحكومة البريطانية كامبل بنهاية مؤتمر شاركت فيه فرنسا وإسبانيا وإيطاليا وثيقة سرّية تحمل اسمه وتعبّر عن رؤية الاستعمار القديم لمنطقة الشرق الأوسط بما فيها بالطبع الوطن العربي. وهي تهدف إلى استمرار سيطرة الحضارة الغربية على العالم. ما يعنينا من بنود هذه الوثيقة البند الذي أسّس لسايكس ـ بيكو ووعد بلفور:
إقامة دولة قومية لليهود تشكّل حاجزاً مانعاً لأيّ وحدة عربية ممكنة ما بين قسميه الآسيوي والأفريقي.
هذه الوثيقة ببنودها كافة السياسية والثقافية والدينية هي الموجّه لسياسة الاستعمارين الأوروبي والأميركي، سياسة التقسيم والسيطرة.
اتفاق سايكس ـ بيكو هي الجزء الخاص التنفيذي لمعاهدة بطرسبورغ التي عقدت بين بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية في آذار 1916 وقسّمت فيها الإمبرطورية العثمانية. تخطّت تطلّعات العرب لإقامة دولتهم. فرضت التقسيم. ووضعت العرب تحت السيطرة الاستعمارية. جاء بعدها وعد بلفور 1917 ليمنع أيّ إمكان لقيام وحدة عربية.
سايكس ـ بيكو 1916 مكّن الغرب من زرع الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي، أمّا اليوم فمطلوب سايكس ـ بيكو جديد يضمن أمن الكيان وبقاءه على أساس أنّه كلّما ازداد عدد الدويلات في الوطن العربي كلّما ازدادت ضمانات أمن الكيان واستمراره.
سايكس ـ بيكو الأوّل رسمته اتفاقات القصور في الغرب وفرضته على شعوب المنطقة. أمّا سايكس ـ بيكو اليوم فترسمه حدود الدم بين مكوّنات شعوبها.
سايكس ـ بيكو الأوّل قام على التجزئة داخل حدود الوطن العربي. أمّا سايكس ـ بيكو اليوم فيقوم على التجزئة داخل حدود الدولة القطرية.
والسؤال الناتج من هذه المقارنة: هل بات الوطن العربي في مخاض «ما بعد الدولة القطرية» التي تداعت بناها بفعل ما تشهده من حروب «التجزئة داخل حدودها»؟
الاستعمار الغربي البريطاني ـ الفرنسي عبر اتفاقية سايكس ـ بيكو 1916 قسّم الوطن العربي إلى كيانات لا مسوّغ تاريخياً أو جغرافياً أو ثقافياً أو قومياً لإنشائها وخلّف في ما بينها مشكلات حدود. حدود سايكس ـ بيكو هي حدود مناطق نفوذ وليست حدود دول. هذه الكيانات التي اتّخذت لها لاحقاً، أي بعد الاستقلال، صفة الدولة الوطنية سعت إلى اكتساب شرعية وجودها واستمرارها من إرادة شعوبها الموزّعة طوائف ومذاهب وسلالات أقوام لم تتمكّن الدولة من احتواء تناقضاتها وإنجاز وحدتها فظلّت مادّة رهان لإنجاح مخططات التقسيم منذ سايكس ـ بيكو ووعد بلفور إلى مخطّط الشرق الأوسط الجديد. فمنذ مطلع القرن العشرين والمخططات المعادية لوحدة الوطن العربي الجغرافية والسياسية ولوحدة الأمّة العربية الحضارية قائمة وتتجدّد وفق المراحل والمصالح وموازين القوى.
«بلقنة» الوطن العربي وتوظيف تعدّدية مكوّناته الطائفية والإتنية وتحويلها إلى حروب وتمزيق دوله القطرية إلى دويلات، تشكّل استراتيجية ثابتة في التخطيط الاستعماري القديم كما الجديد. فالاستعمار الجديد الأميركي ـ الصهيوني يكمل ما بدأه الاستعمار القديم. منذ احتلالها للعراق وأميركا تنفّذ سايكس ـ بيكو آخر بدأ بتقسيم فعلي للسودان بانفصال جنوبه وبقرار أميركي ـ أوروبي ـ صهيوني.
عام 1980 والحرب العراقية ـ لإيرانية مستعرة صرّح بريجنسكي مستشار الأمن القومي في عهد جيمي كارتر بالآتي: «… إنّ المعضلة التي ستعاني منها الولايات المتّحدة حتى الآن هي كيف يمكن إشعال حرب خليجية ثانية تقوم على هامش الحرب الخليجية الأولى التي حدثت بين العراق وإيران تستطيع أميركا من خلالها تصحيح حدود سايكس ـ بيكو».
وهذا ما هو حاصل اليوم. تصحيح الحدود على حدود الدم. مسعود البارزاني رئيس إقليم كردستان العراق قال في حوار مع جريدة «الحياة» في7 شباط 2015: «إنّ الحدود الموروثة من سايكس ـ بيكو كانت مصطنعة وإنّ حدوداً جديدة ترسم الآن بالدم في العراق وسورية واليمن. حدود مصطنعة أنشأها اتفاق سايكس ـ بيكو يعاد رسم حدوده مجدداً على أسس طائفية ومذهبية وإتنية. جاء الحدث المقرون بالتفتيت الطائفي والمذهبي والإتني من نتائج احتلال العراق، والتدخّل الأطلسي في ليبيا والحرب على سورية ومدّها بغذاء خارجي في اليمن. الدولة القطرية في هذه الدول هي قيد التفكّك. اختفت الهوية الوطنية وبرزت هويات طائفية وإتنية راحت تترسخ معالمها يوماً بعد آخر.
أيّ تحليل للواقع العربي أو الواقع القطري يوصلنا إلى استنتاج مؤدّاه أنّ عدداً من الدول العربية لن تبقى موحّدة فهي مرشّحة لتصبح في عداد الدول الفاشلة لعدم استقرارها أمنياً وسياسياً ولحدّة تناقضاتها البنيوية ولأنّ لا أحد من مكوّنات مجتمعاتها يملك قرارات صالحة للتسوية تحفظ وحدتها. فوضى وحروب مركّبة وفتن ومواجهات مدعومة من الخارج، ومن «ثورة للتغيير والتحوّل الديموقراطي وبناء الدولة المدنية الوطنية» إلى «الدولة الإسلامية في العراق والشام» وإعلان الولاءات لها في سيناء واليمن وليبيا تلك كانت مآلات «الربيع العربي» ومشروع الوحدة العربية لن يكون بمنأى عن تداعياته.
القسم الأوّل: استراتيجيات التفكيك والتجزئة والتقسيم رسائل صهيونية لتقسيم لبنان والمنطقة
إنّ خطّة تجزئة الوطن العربي هي قديمة ومتجذّرة في التفكير الاستراتيجي الاستعماري الصهيوني. يقول بن غوريون: «… إنّ عظمة «إسرائيل» ليست في قنبلتها الذرّية ولا ترسانتها المسلّحة، ولكن عظمة «إسرائيل» تكمن في انهيار دول ثلاث هي مصر والعراق وسورية» ويتابع: «… ليست العبرة في قيام «إسرائيل» بل في الحفاظ على وجودها وبقائها وهذا لن يتحقّق إلّا بتفتيت سورية ومصر والعراق».
شهادة بن غوريون تشكّل الركن الثابت في استراتيجية الكيان الصهيوني وسياساته. فالصحافي الهندي كرانجيا نشر وثيقة سلّمه إيّاها الرئيس عبد الناصر وفيها مخطّطات تقسيمية للدول العربية، في كتابه «خنجر إسرائيل» الذي وضعه عام 1957.
مخطّط تقسيم لبنان بانت خيوطه الأولى في رسالة دافيد بن غوريون الى موشي شاريت في 27/2/1954 ورسالة موشي شاريت إلى بن غوريون في 18/3/1954 وفي رسالة ساسون إلى موشي شاريت في 25/3/1954.
موشي شاريت في ردّه على بن غوريون حسب أنّ الأمر «قد يتحقّق إثر سلسلة من الهزات تضرب الشرق الأوسط وتسقط الأنماط السائدة لتخرج منها قوالب جديدة».
أما ساسون فرأى أنّ تفكيك الكيان اللبناني من شأنه أن يخلخل كيانات الدول العربية ويحبط خطط وحدتها ويعرضها أمام العالم دولاً متنازعة تحاول الواحدة منها ابتلاع جارتها.
«استراتيجية «إسرائيل» في الثمانينيات»… أوديد يينون
وضعها أوديد يينون ونشرها في مجلّة «كيوفونيم» اتجاهات العبرية وهي مجلّة تصدرها المنظّمة الصهيونية العالمية. ترجمها من العبرية إلى الإنكليزية إسرائيل شاهاك ونشرتها مجلّة «الثقافة العالمية» غداة الاجتياح الإسرائيلي للبنان. وصفها شاهاك بأنّها «تظهر بوضوح وبشكل تفصيلي مشروع النظام الصهيوني المتعلّق بالشرق الأوسط والقاضي بتقسيم المنطقة إلى دويلات صغيرة وذلك بعد تفكيك كلّ الدول العربية بصيغتها الحالية». ويقول شاهاك: «هذه النظرية تحكم الاستراتيجية الصهيونية بشكل دائم». وهي فكرة تتردّد مراراً في التفكير الاستراتيجي الصهيوني وأساسها يقوم على أنّ الكيانات العربية هشّة يسهل هدمها بسبب خليط الأقليات الإثنية والدينية المتعادية.
إنّ «استراتيجية إسرائيل في الثمانينيات» تقوم على رؤية واضعها إلى الواقع العربي عموماً وإلى لبنان وسورية والعراق خصوصاً. فهي وفق رؤياه واقع تتنازعه الانقسامات الطائفية التي تجعله قابلاً للتفكيك والتجزئة.
جاء في هذه الوثيقة الصهيونية ما يلي:
« … إنّ تفتيت لبنان … يعدّ بمثابة سابقة للعالم العربي برمّته بما في ذلك مصر وسورية والعراق وشبه الجزيرة العربية … انّ تفتيت سورية والعراق إلى مناطق عرقية أو دينية قائمة بذاتها … يعدّ الهدف الرئيس لإسرائيل على الجبهة الشرقية على المدى الطويل. غير أنّ تفتيت القوّة العسكرية لهاتين الدولتين يعدّ الهدف الأساس على المدى القصير.
سورية سيكون مآلها التمزّق وذلك وفقاً لتركيبتها العرقية حيث ستقوم فيها دويلات عدّة. والعراق الغني بالنفط من ناحية والممزّق داخلياً من ناحية أخرى يعدّ مرشّحاً مضموناً للأهداف الإسرائيلية. وعليه فإنّ تمزيق العراق يعدّ أكثر أهمّية بالنسبة إلينا من سورية إذ أنّ العراق أقوى من سورية. والحالة هذه فإنّ قوّة العراق هي التي تشكّل على المدى القصير أكبر تهديد لإسرائيل. فأيّة حرب بين العراق وسوريةأو بين العراق وإيران من شأنها أن تؤدّي في نهاية المطاف إلى تمزيق العراق وإلى انهياره داخلياً.
إنّ أيّ مواجهة داخل الدول العربية من شأنه أن يساعدنا في المدى القصير ويؤدّي إلى تقصير الطريق لتحقيق الهدف الأسمى المتمثّل في احتدام الخلافات الطائفية داخل العراق كما هي الحال في كلّ من سورية ولبنان.
إنّ التجزئة إلى مناطق عديدة على أسس عرقية دينية تماماً كما كانت الحال في سورية أيام الدولة العثمانية تعدّ ممكنة في العراق.
من ناحية أخرى فإنّ شبه الجزيرة العربية برمّتها تعدّ مرشّحاً طبيعياً للتمزيق تحت وطأة الضغوط الداخلية والخارجية. وهذا الأمر لا مفرّ منه خصوصاً في المملكة العربية السعودية سواء ظلّت قوّتها الاقتصادية سليمة أو أنّها نقصت على المدى الطويل فالانشقاقات والانحلالات الداخلية تبدو واضحة وطبيعية المسار وذلك في ضوء البنية السياسية الحالية».
أمّا بشأن السودان ومصر فترى الوثيقة الصهيونية أنّ تفتيتهما سهل.
إقامة الدويلات الدينية والعرقية فكرة استراتيجية في التخطيط الصهيوني لمستقبل الوطن العربي فتجزئة المجزّأ أي الدول المحيطة بالكيان الصهيوني إلى دويلات متناحرة هو الحلّ التاريخي الوحيد والجذري لضمان أمن هذا الكيان فيكون له الاستقرار والتوسّع والسيطرة ويكون لها أي لتلك الدويلات الفتن واستنزاف الثروة والتخلّف والهامشية أو التبعية.
لهذه الفكرة الاستراتيجية قوّة إسناد نظري تاريخي تلقّته من سياسة الاستعمار القديم قوامه الرهان على الأقليات في تقويض الوحدة العربية أو في التعجيز عن الوصول إليها أو في تسهيل الاختراق والسيطرة.
إنّ فكرة استقطاب الأقليات وإدخالها في «تحالف موضوعي» تؤسّس لإعادة نظر في الخريطة الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط بما يتجاوز حدود الوطن العربي وبما يسمح بتفكيك الدول العربية أي بإمكان العبور إلى ما هو فوق قومي أو العودة إلى ما هو دون وطني أو قطري. وفي الحالين قضاء على الهوية العربية التي يشكّل الوعي بها وعياً بفكرة الوحدة العربية.
إنّ خلفية الفكر الصهيوني مبنية على مجموعة فرضيات حكمية منها:
– لا يمكن للأقلية أن تعيش بكرامة إلّا لوحدها فكرة المعازل وجدران الفصل والغيتوات وأن تصادق أقلية مظلومة مثلها تحالف هويات أقلّوية! .
– الأقليات بحاجة إلى مساعدة قوّة أجنبية.
– وجود الأقليات يمكّن مشاريع التجزئة ويشجّع عليها وهو يشكّل عائقاً أمام الوحدة ورهاناً دائماً لإثارة الفتن. وهو تالياً مجال استثمار صهيوني مفتوح أمام الرغبة «الإسرائيلية» في إضعاف الجسم العربي وإنهاكه.
على خلفية هذه الفرضيات التي ترقى إلى مستوى الفهم الإيديولوجي الإسقاطي لمكوّنات المجتمع العربي ينبني المشروع الصهيوني التجزيئي والتفتيتي.
مركز ديان في جامعة تل أبيب لأبحاث الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الذي تندرج أعماله ضمن استراتيجية «إسرائيل» التفتيتية للوطن العربي يعمل على تدريب قيادات من جماعات إثنية لتكون مؤهلة لتطبيق استراتيجية التفتيت، فاستراتيجية «إسرائيل» التي نجحت في تقسيم السودان وفدرلة العراق لن تتوقف عند العراق ولا السودان وإنما ستستهدف دولاً عربية أخرى، وهذه الاستراتيجية تعتمد بالدرجة الأولى على التقسيم الجغرافي والديموغرافي بالتوجه إلى الأقليات والجماعات الإثنية.
من هنا كان رهان الحكومات الصهيونية على إثارة النزاعات الأهلية في الوطن العربي وفي تقديم الدعم لعدد من الحركات الانفصالية ومساعدة ميليشيات القتل الطائفي وتغذية التيارات الأصولية والسلفية المتشدّدة في نظرتها إلى الآخر وعدم الاعتراف بوجوده وبحقّه في الاختلاف وفي التمايز فأثبتت بذلك قدرتها على التلاعب بالعصبيات الفئوية وتوظيفها وتعميق التناقضات لدى مكوّنات المجتمع العربي ودفعها إلى ما يشبه الحروب الدائمة الطافرة والكامنة وتالياً للاستسلام أمام إرادتها في السيطرة والتسيّد على شؤون المنطقة كما بدا واضحاً في كتاب شيمون بيريز»الشرق الأوسط الجديد».
ما يسعى إليه الكيان الصهيوني القضاء على هوية العرب القومية إمّا تجاوزاً لهويّة شرق ـ أوسطية مصطنعة جامعة دول الشرق الأوسط، شرق أوسط جديد، شرق أوسط كبير وإمّا عودة إلى هويات متشظّية ومتذرّرة دينية وإتنية. وهذا ما يدخل في خطة الأهداف القصوى: محو الهوية العربية بتهديم النظام العربي الرسمي وتقويض مؤسساته كافة وتركيب نظام إقليمي بمؤسسات بديلة يكون موقع القيادة فيه للكيان الصهيوني أو بتفتيت الوحدات القطرية وتحويلها إلى كيانات هشّة ومستتبعة. هذا وذاك يضمنان أمن الكيان وتفوّقه العسكري الاستراتيجي وهما يشكّلان الأساس الايديولوجي لهذا الكيان.
راجع: ساسين عساف الوحدة العربية في مواجهة المشروع الصهيوني مجلة المستقبل العربي- فبراير/شباط 2010 ع: 372