سهرة الأسئلة والغياب 2/1

د. محمد معتوق

كانوا أربعة، رجلين وامرأتين. لم يكونوا قد تعارفوا منذ مدة طويلة. شهران فحسب تقريباً. إلا أن التفاهم بينهم كان تاماً. زوجان مقابل زوجين. أدباء جميعاً. لم تمضِ دقائق على المجاملات حتى شمّر كل منهم عن ساعديه وبدأوا يتبارزون بالمعرفة والطرائف. ومن موضوع إلى موضوع وصل الحديث بهم إلى الأدب فالصحافة ومنهما إلى علم النفس والفلسفة، ثم إلى الروحانيات واليوغا، وعودة إلى علم النفس والتنويم المغناطيسي والسياسة والإعلام الأجنبي وكيفية تعامله مع العرب. كان كل منهم يحاول أن يبهر الآخر. طارق صحافي والدكتور جميل يعمل في الإذاعة في القسم الثقافي، وهو أديب أيضاً وزوجته كذلك. ومثلهما زوجة طارق. جميعهم يشتغلون بالكتابة. بنوا كلّ لنفسه اسماً ذا شهرة، بهذا المقدار أو ذاك، من دون أن يكون أي من الفريقين على علم بتفاصيل وضع الآخر. مشهورون، كلّ على طريقته، أو ربما كانوا موهومين بالشهرة ولكنهم في كل حال راغبون فيها كثيراً. من منا غير ذلك؟ خصوصاً في منتصف العمر أو بالأخص في النصف الآخر منه وكانوا كلّهم في النصف الآخر، أربعينيين وخمسينيين. في هذا الوقت يشعر الإنسان بأنه أضاع وقتاً طويلاً ويخالط هذا الشعور ندم وإحساس بقصر العمر. أو ربما كان هذا وضع الذين لم يحققوا ذواتهم ولم يفعلوا ما يرضي طموحهم ولم تملأ أسماؤهم وشهرتهم الأصقاع. وهو غالباً الحال في الأوساط العربية المثقفة أو ربما كان أكثر بروزاً وحدّة في أوساط المغتربين العرب، فهم إما منفيون فارقوا مجداً قائماً أو حلماً كاد يتحقق، وإمّا مضطهدون هربوا من الاضطهاد إلى الغرب حيث الحريات الباردة تغري طالبيها الشرقيين الذين أرهقتهم شمس الاستبداد القاسية وهي شمس تركت آثارها ليس على جلدهم فحسب بل وعلى نفوسهم أيضاً، ولذلك يشتاق إليها العرب ويعودون إليها بين الحين والآخر حتى وهم يلعنونها ويشتمونها ويظهرون تمدنهم بالإعلان عن تخلصهم من هم الانتماء القومي.

«أنا بلدي حيث أمارس حريتي وأحقق سعادتي». يقول لك واحدهم فتكاد وأنت ترى أنه ليس حراً بقدر ما يتوهم وليس سعيداً إلا بقدر ما أتقن من أساليب حديثة للتهرب من همومه أن تقول له: «يجب أن يكون بلدك هذا خارج هذا الكوكب أيها الصديق العزيز». ولكن لماذا تريد أن توقظ رجلاً يحلم بالهناء؟ أليس جبران من حذّر من مثل ذلك؟

إذن، كان الحديث نوعاً من الحرب المتمدنة تلك الليلة. الأسلحة لم تكن فتّاكة ولكن المعارك كانت طاحنة. كلٌّ يريد أن يسجّل انتصاراً إنّما ليس ضد الآخر. ففي مثل هذه الحالات لا مانع في أن يخرج الجميع منتصرين. هذه أهمية تبادل الأفكار والآراء أنك تصبح أكثر ثراء معها. وليس كذلك تبادل الكلمات أو إطلاق النار. أم هل تحتاج هذه النقطة إلى من يدافع عنها؟

بدأت الجلسة تتوغل في الظلمة. فالساعة قاربت الحادية عشرة ليلاً والجميع منسجمون ومسترخون وبين الفينة والفينة ضحكة صغيرة من هنا أو قهقهة تنبئ بالسعادة العصبية من هناك. الكل مرتاح إلاّ اللهم – الدكتور جميل، فنور الغرفة ساطع جداً وسقفها واطئ ويبدو أنه تحمّل المضايقة قدر ما استطاع قبل أن يعلن أن وطأة الضوء تؤذي رأسه الذي خسر مقداراً كبيراً من كسائه في السنوات الأخيرة. لا بأس، نطفئ هذا الضوء ونشعل ذاك. هكذا… ثم عودة إلى الانسجام والاسترخاء والضحكات الصغيرة والقهقهات القليلة العصبية.

كان هناك أمر أراد الدكتور جميل أن يحدّث به مضيفه طارق ويتعلّق بالعمل ولكن الانشغال بمواضيع الحديث المتشعب الكثيرة لم تدع لمثل هذا الموضوع مجالاً ولم يكن طارق متحمساً لفتح الموضوع. لذلك بقي مغلقاً.

كان طارق يتحدث عن حياته الصحافية وبداية عهده بالكتابة وعن تجربة النشر التي بدأها بمقال عن الروحانيات علّق بها على محاضرة سمعها في بيروت. وسأله الضيفان ماذا كانت مادة مناقشتك، فردّ متحدثاً عن علم النفس والتنويم المغناطيسي والإيحاء الذي يستطيع أن يحدث تغييراً فيزيولوجياً وأعطى مثلاً أو مثلين وعرّج في الشرح على الهند واليوغا وتحدث في تجربة له مع «ساحر» من أتباع طريقة اليوغا وكيف أوهم الجميع وبينهم طارق بأنه يتسلق حبلاً واقفاً وغير معلّق بشيء. آنذاك كان رجل آخر قرب طارق يقول له إن هذه خدعة لم تنطلِ عليه وهو يرى الحبل على الأرض والرجل لم يرتقه.

كانت تلك المرة الألف التي يتحدث فيها طارق عن هذا الموضوع. فهو مهتم بالفلسفات الشرقية والرياضيات الشرقية وكثيراً ما استخدم هذا الموضوع مدخلاً ليتحدث عن نفسه وهواياته. لكن هذه المرة بدا أن هناك في الجهة المقابلة من يستطيع أن يقارعه تجربة لتجربة.

كانت زوجتا طارق وجميل تحاولان قدر المستطاع أن تخليا الساحة للرجلين ليمتّنا تعارفهما، خصوصاً أن جميلاً يحمل لطارق اقتراحاً يتعلّق بالعمل وهو الاقتراح الذي لم يفسح مجال لجميل للتحدث فيه، ولم يكن طارق متحمساً كثيراً لافتعال حديث يمهّد له.

عندما انتهى طارق من سرد مروياته، أمسك جميل بطرف الحديث وبدأ وصلته. لم ينفخ الأبواق طبعاً، إيذاناً ببدء الهجوم المضاد، لكن جملة جميل الافتتاحية أوضحت أن رده سيكون طويلاً، ولأن التهذيب صفة رئيسة من صفات التمدن أنصت الجميع. كانت لدى جميل تجربة أراد أن يتحدث عنها. قال إنه في إحدى المرات، وكان ذلك قبل نحو ربع قرن، كانوا في بيروت يتحلّقون حول أستاذهم المتخصص في علم النفس والتنويم المغناطيسي وكان دائماً يعمد إلى تنويم أحدهم دون غيره، فهو أكثر استعداداً للخضوع لسيطرة الأستاذ والتعاون معه. وبعدما أنهى الأستاذ تنويم معاونه التفت إلى جميل وقال له دونك والرجل، اسأله ما تشاء وهو ينيرك ويخدمك. وبقليل من التردد بدأ جميل تجربته فسأل صديقه النائم أين أنت فقال أنا في صيدا. وهذه عاصمة جنوب لبنان. فقال اذهب إلى النبطية فقال لا أعرف كيف، فقال له اذهب إلى ساحة رياض الصلح هناك ففعل، فقال ابحث عن موقف السيارات الخاص بالنبطية ففعل، فقال له اصعد مع أول سيارة ذاهبة إلى هناك ففعل، واستغرقت الرحلة بعض الوقت والرجل النائم مسافر بين صيدا والنبطية حتى وصل إلى حيث يريد هناك. نزل فقال له جميل اذهب إلى الساحة واسأل عن السيارات التي تذهب إلى صير فستجد هناك سيارة خضراء متوقفة أو ستجد أشخاصاً عند الموقف ينتظرونها. فإذا وجدتها اسأل عن السائق ثم انتحِ به جانباً قل له تعرف جميل فلان فسيقول لك نعم. قل له لقد أرسلني لأقول لك أن تحرق أوراق الحزب التي لديك وأن تبلغ سميراً أن الاجتماع المقبل هنا في النبطية في منزل وفيق يوم السبت المقبل الساعة السابعة مساء.

يتبع غداً جزء ثانٍ أخير

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى