«الإخوان»… من نهج التمسكن إلى خطاب التمكن 2

فؤاد عيتاني

العقل «الإخواني» في تصوره للآخر هو عقل شوفيني يعتقد أنه هو الأفضل، وإذا كان الواقع السياسي فرض عليه أن يتجمل في مرحلة ما ويبتسم في وجوه الناس، طلباً لأصواته كما تقضي الديمقراطية التي أظهر إيماناً شكلياً بها، فإنما ذلك من قبيل المصلحة. تقول القاعدة الفقهية ما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب، والضرورات تبيح المحظورات، وبطبيعة الحال القيادة الراشدة هي التي تحدد المحظور والمباح وتملك هذا الترجيح بما أعطت لنفسها من حق كان محفوظاً للنبي صلى الله عليه وسلم كمبلغ من ربه سبحانه وتعالى.

لكن هذا الحق انتقل بسهولة إلى إمام المسلمين ونائبه، ثم انتقل بشكل أيسر إلى حسن البنا وكلّ قيادة «إخوانية» جاءت بعده « ورأى الإمام ونائبه فيما لا نص فيه، وفيما يحتمل وجوها عدة وفي المصالح المرسلة، معمول به مالم يصطدم بقاعدة شرعية، وقد يتغير بحسب الظروف والعرف والعادات، والأصل في العبادات التعبد دون الإلتفات إلى المعانى وفي العاديات الإلتفات إلى الأسرار والحكم والمقاصد «.

هذا المبدأ السابق يعبر عن أحد أصول الفهم العشرين التي يفهم الفرد «الإخواني» الإسلام من خلالها والتي يقول عنها حسن البنا: «إنما أريد بالفهم أن توقن أن فكرتنا إسلامية صحيحة وأن تفهم الإسلام كما نفهمه في حدود هذه الإصول العشرين الموجزة كل الإيجاز».

إذن هذا الإطار النظري الذي تقدمه «الجماعة» إلى أفرادها هو إطار حاكم للعقل «الإخواني» فلا يتحرك الفرد «الإخواني» بعيداً عنه ويرتب عليه هذا الإطار أن ينتظم ضمن صف «الجماعة» ويسمع لقيادتها ويطيع وهو في ذلك يتعبد لله بهذه الطاعة التي يعرفها البنا بقوله: «وأريد بالطاعة إمتثال الأمر وإنفاذه تواً في العسر واليسر، والمنشط والمكره. واسمعوا وأطيعوا لقيادتكم في العسر واليسر،والمنشط والمكره، فهي رمز فكرتكم وحلقة الإتصال فيما بينكم».

تأمّل كيف تُرى تلك المفردات وكيف أنها مفردات عسكرية، تتحدث عن جيش تسمع قواعده لقيادته وتنفذ في حزم وعزم، فقد استقر في وجدان أتباع التيار الإسلامي من أتباع الفكر الشمولي أنهم لا يستطيعون تحقيق أهدافهم إلّا بالحكومة الإسلامية، وهذا يتطلب إعداد قوة عسكرية، ودفعهم هذا إلى تكوين ما يمكن تسميته بالميليشيات الإسلامية التي بلغت مبلغاً لا يستهان به من القوة قبل ثورة 1952. والحكومة الدينية التي يسعى هذا التيار إلى تحقيقها، وهو أمر يتفق مع شكل نظام الحكم الإسلامي وشكل التنظيم الذي أقاموه، تعتمد على فكرة القائد والطاعة أو نظام الحكم الفردي، وهذا يطابق نظام الحكومة العسكرية التي قامت بعد ثورة 1952، لذلك أضحى مستحيلاً أن يجمع بينهما نظام سياسي واحد، وبالتالي بات ضرورياً أن يفسح أحدهما المجال للآخر، بعدما أصبح الصدام أمراً حتمياً. هل تغير شيء من ذلك المعنى اليوم، خاصة بعد دخول «الإخوان» الحكم وخروجهم منه بثورة شعبية انحازت فيها المؤسسة العسكرية إلى الشعب مثلما انحازت إلى إرادته في 25 يناير وأرغمت مبارك على التنحي.

الدعوة والكم معا

حاولت جماعة «الإخوان» دوماً أن تجمع بين الدعوة والحكم،ولم تنجح جماعة طوال تاريخنا الإسلامى في الجمع بينهما البتة، وانتهت كل محاولة للجمع بينهما بتعرضهما معاً للخطر. للدعوة فضاء ومقتضيات ورجال، وللحكم فضاء ومقتضيات ورجال، ولكل عدته. وتحت مفهوم صحيح يقول أن الإسلام لا يفرق بين الدين والسياسة وهو لا يعني سوى أن الإسلام لا يبيح أن يكذب السياسي أو يخدع أو يكون ميكيافيلياً وأن السياسة في المجتمعات الإسلامية يجب أن تتقيّد بالإسلام. هذا لا يعني أن يشتغل الفقهاء أو الدعاة بالسياسة فيتحولوا من دعاة للدين إلى فتنة حقيقية في الدين، بل ينهضون بمهمتهم في حراسة القيم والأخلاق والدعوة إليها حتى يخرج إلى المجتمع السياسي الذي يتقيد بالأخلاق والمواطن الصالح أياً يكن موقعه وعمله ليكون لبنة صالحة في مجتمعه، فما أحكم ما قاله د.حسان حتحوت أحد رجال «الإخوان» الذي ترك «الجماعة» في منتصف التسعينات وسافر إلى أميركا ليعمل للدعوة فحسب: «لعلي الآن رغم حماستي آنذاك كنت أرى ألا يستعجل الإخوان إقتحام الميدان السياسي، خاصة في ما يختص بالحكم لنترك «العظمة للكلاب» ونتفرغ لتحويل شعب مصر كله إلى شعب يؤمن بربه ويطيعه لا في العبادات فحسب بل في المعاملات جميعاً، بخاصة الأخلاق والعمق الروحي، فإذا تم ذلك فالباقي سهل فلا يتحرك الإخوان والرأي العام يتعاطف معهم، إنما هم الرأي العام وهل المجتمعات في حاجة إلى تلك الحركات سوى في أن تنهض إلى جانب الدولة في حماية القيم الإسلامية والدفاع عنها والدعوة إليها وتربية الناس عليها من دون الحاجة إلى تنظيمات حركية تعمل سراً وتضع ولاءها في من يمكن توظيفه لخدمة الأعداء بوعي أو من دون وعي أو على الأقل كما حدث، تتحول تلك المجموعات إلى طوائف دينية تنعزل عن المجتمع وتناصبه العداء وتبقى تناقضاً مع مسيرته نحو أهدافه التي لا تلتقى البتة مع أهدافهم. ولكنها شهوة الحكم التي تتملك العقول والأفئدة».

بالطبع، ضاعت صيحات جميع العقلاء الذين حاولوا الاشتباك مع العقل «الإخواني» بهدف ترشيده أو دفعه إلى المراجعة، فقد تكفلت البنية المعرفية التي نشأ عليها أفراد الجماعة مع القيادة التي تعلمت عبر التلقين الشفهي والمكتوب كيف تستميل القلوب أساساً وتمتلكها وتزين لأعضاء «الجماعة» أنهم نتاج إصطفاء إلهي وتشريف من الله بأن اختارهم لتلك المهمة التي ذهل عنها المسلمون والتي انصرفوا عنها لمتاع الدنيا الزائل.

ما موقع السلمية الآن في عقل الجماعة؟

هل «الإخوان» لا يؤمنون بالقوة كمنهج للتغيير؟ هذا ما حاولت الجماعة عبر عقود تكريسه في الوعي الجمعي للمصريين طوال العقود التي تلت وفاة القائد الراحل جمال عبدالناصر وخروجهم من السجون على يد المقتول السادات. السؤال يجيب عنه حسن البنا نفسه، فتحت عنوان « متى تكون خطوتنا التنفيذية أيها الإخوان المسلمون؟» وبعد أن يقدم لكلامه بقوله و«أريد ان أكون معكم صريحاً للغاية فلم تعد تنفعنا إلا المصارحة. وفي الوقت الذي يكون فيه منكم معشر الإخوان المسلمين ثلاثمائة كتيبة قد جهزت نفسها روحياً بالإيمان والعقيدة وفكرياً بالعلم والثقافة وجسمياً بالتدريب والرياضة في هذا الوقت طالبوني بأن أخوض بكم لجج البحار وأقتحم بكم عنان السماء وأغزو بكم كل عبيد جبار – فإني فاعل إن شاء الله -وصدق رسول الله القائل «ولن يغلب إثنا عشر ألفا من قلة تأمل كيف يتماهي الرجل مع الحديث النبوي، وكيف يركب آلة الزمن ليعود بين الصحابة يتحدث بلسانهم؟ ويعدّ عدتهم وهو في ذلك يؤكد في نفوس أتباعه دوماً وعبر كل مناسبة أنهم امتداد لمسيرة الجماعة المسلمة الأولى يواجهون ما واجهته من عنت في سبيل نشر دينها من دون أن ينتبه أنه يتحدث عن معركة يخوضها وسط مجتمعات مسلمة في مجموعها وأن الإسلام اكتمل واستقر في واقع الناس.

لم يسقط الرجل إذن القوة من حساباته بل جعلها مرهونة بإستكمال العدة والعدد، لذلك لم يكن غريباً أن يجعل شعار جماعته سيفين يتوسطهما مصحف دُوّنت تحته كلمة و«أعدوا»! ولكن أعدوا لمن؟! وكيف؟! هذا ما عرفناه عبر تجربة «جماعة» تخفت طويلاً في خطاب المظلومية والتمسكن حتى كشفت عن وجهها الحقيقي يوم أصدر محمد مرسي إعلانه الدستوري في 21 تشرين الثاني 2011 ليدشن دكتاتورية دينية لم يقبل بها الشعب وثار عليها في أشهر قليلة. كان حسن البنا واضحاً في تضمين أفكاره هذا المبدأ استخدام القوة: «إن الإخوان المسلمين سيستخدمون القوة حيث لا يجدي غيرها وحيث يثقون أنهم قد استكملوا عدة الإيمان والوحدة وهم حين يستخدمون هذه القوة سيكونون شرفاء صرحاء وسينذرون أولاً وينتظرون بعد ذلك ثم يقدمون في كرامة وعزة ويحتملون كل نتائج موقفهم هذا بكل رضاء وإرتياح».

تكشف النصوص التي أوردنا بعضها كيف أنها تجعل من العقل «الإخواني» عقلاً يشعر بتفرده مقابل الأخرين، فهو وحده الذي يتصدى لمؤامرة كونية تستهدف هذا الدين وأن الله اصطفاه لهذا الدور وهذا تشريف يجعله لا يبالي بأي تضحية في سبيل ذلك، لذلك كان الوقوف في رابعة العدوية لديهم أو غيرها من مشاهد الإحتجاج التي خلطوا فيها بين الدعوة وأدواتها اللسان والبرهان، بالحرب وسلاحها الدرع والسنان، ووقفوا يطلبون ما يعتقدون أنه الشهادة في مشهد هو جزء من معركة سياسية أردات قيادتهم تحويلها إلى معركة دينية في تكرار ممجوج لسائر معارك الحكم عبر تاريخنا، والتي هلكت في ساحاتها أعز النفوس وأخسّها.

أدارت الجماعة ولا تزال تدير الصراع السياسي مع خصومها بعقلية عمياء تستدعى فيها أجواء الصراع بين أهل الحق وأهل الباطل، فالنصر أو الشهادة، وهي آفة جميع الحركات الإسلامية عبر التاريخ، خلوّ قاموسها من مفردة الانسحاب حتى لو كان تكتيكياً، فهي إما مقتولة أو مسجونة، وهذه كانت دوماً خياراتها المفضلة، لذلك لا يغبط المعتقل أخاه الحر بقدر ما يغبط أخاه المقتول، فهو لديه شهيد اختاره الله، إذ إستشعر إخلاصه بينما يشعر هو بضعف إخلاصه، ولو تمهل قليلا لشعر بضعف في عقله، وليس إخلاصه، لكن ماذا يفعل في السمع والطاعة والمشروع الإسلامي الذي ينتظر النصرة؟ وقد خذله الجميع هو لها إذن وسيبقى مثلما أمره البنا: «كن كالجندي في الثكنة ينتظر الإشارة التي يبقى في انتظارها لتحمله إما إلى القبر، وإما إلى القبو»، وهو في كل الأحوال فائز، مثلما علمته ولقنته طويلاً «الجماعة».

سعى «الإخوان» إلى الحكم عبر عقود طويلة في الحفاظ على تنظيمهم الذي تحوّل الحفاظ عليه إلى هدف وليس وسيلة لتحقيق الأهداف، وإذا كانوا تجملوا في مواجهة العالم طوال ثمانية عقود قبل أن يدلفوا في لحظة استثنائية إلى الحكم.

كانوا مثل رجل بلغ من العمر عتياً في طاعة الله وعبادته، وطال عمره في انتظار أن يرزق بالولد، فلما رزق بالولد وفرح به مثلما يفرح شيخ بطفل أتاه قبل مغيب العمر، مات الغلام بعد عام واحد فلم يعصم الرجل إيمانه بربه ولم تعصمه صلواته وعباداته، وأبى إلّا أن يحرق الدنيا التي لم تتسع لغلامه، في لحظة كاشفة. ودعت «الجماعة» كل ميراثها الأخلاقي الزائف، وغلبتها شهوة حكم لم تقض منه نهمتها بعد فخرجت تحرق الأخضر واليابس في محاولة استعادته، وهي في ما هي فيه لا ترى سوى كرسي الحكم الذي تسلل من بين أقدامها فاستدعت كل قاموس العنف الكامن لديها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى