ربيع الجنرالات والفوضى الأميركية
عامر نعيم الياس
ما يجري في المنطقة ليس من قبيل الصدفة، تصدر الجنرالات للمشهد ليس شيئاً قدرياً بعد انقلاب الطاولة على رؤوس الجمهوريات العربية نهاية عام 2010. ثلاث سنوات ونصف من إبعاد العسكر عن السلطة «بموجة ثورية بدأت في تونس وما لبث أن مرّت على مصر وليبيا وسورية واليمن والبحرين، مرور أبعد النخب القديمة عن الحكم، إنها الجيوش العربية التي أضعفها المد» بحسب لوموند الفرنسية، لكن هل استوت حسابات الحقل مع حسابات البيدر؟ وهل كان ما فكر به الإسلاميون الإخوانيون تحديداً من التنظيم الأم في مصر وصولاً إلى الفرع في غزة، من أن المؤسسات العسكرية انهارت صحيحاً، أم أن إعادة التموضع بانتظار اللحظة المناسبة كانت في أساس تكتيك المؤسسات العسكرية العربية؟
بعد زمن الثوريين الملوّنين بلون الوردي الجورجي أو البرتقالي الأوكراني في بداية الحراك عام 2010، جاء زمن الإخوان عام 2012، زمن «أول انتخابات ديمقراطية حرة» بحسب إجماع الصحافة الغربية، كلمة السر التي شرعنت عملية إبعاد العسكر عن الحكم، وإلغاء دور مؤسسة كانت تعد نفسها «الحليف الضروري لأي سلطة، إن لم تكن اللاعب الأول فيها» الكلام هنا للوموند الفرنسية أيضاً، لكن اليوم تغيّر الوضع كليّاً، بدأ في مصر بثورة على ثورة الإخوان واكبها العسكر ورفعوا رايتها قاطعين الطريق على استراتيجية «التمتين» الإخوانية، ما أدى إلى عودة الأمور إلى نصابها واسترداد المؤسسة الموحدة الحامية للكيان والتي تعد أحد أهم روافع الدولة في كل أنحاء العالم، لهيبتها ووزنها، رشّح المشير عبد الفتاح السيسي نفسه للانتخابات الرئاسية مستقيلاً من منصبه على رأس المؤسسة العسكرية المصرية، ويخوض الانتخابات وسط توقعات بفوزه فيها بشكل شبه مؤكد. على المقلب الآخر تحرك اللواء خليفة حفتر في ليبيا تحت مسمى «عملية الكرامة» لإنقاذ ليبيا من «الإرهابيين والمتطرفين المسلحين» في دولة انهار جيشها قبل دخول الأطلسي إليها وتدمير كيانها، وسط سيطرة الميليشيات الإسلامية والقبلية المناطقية عليها، فضلاً عن مطالب بتقسيم البلاد إلى أقاليم مستقلة والعودة إلى زمن التقسيم.
هنا نحن أمام حفتر والسيسي، حالتان لا تجمعهما سوى الرتبة العسكرية ومحاولة إعادة تموضع المؤسسة ومساهمتها في تحديد شكل الحكم، بعد المراهقة السياسية التي قدّمها الإسلام السياسي الحاكم في الدولتين آنفتي الذكر، والمشهد الدموي الذي لا يزال يمارسه الإسلام السياسي المسلح في كلتا الدولتين، لكن هل نحن فعلاً أمام ربيع الجنرالات في الشرق الأوسط؟
في موضوع نقاشنا، أي مصر وليبيا هناك اختلاف كبير بين الحالتين يجعل من الحديث عن ربيع عسكري عام في المنطقة يشابه العدوى الانقلابية للربيع الإسلامي الإخواني الوهابي، أمراً منافياً للواقع، وذلك للأسباب التالية:
انهيار الكيان، هذا حدث في طرابلس ولم يحدث في القاهرة أبداً.
المؤسسة العسكرية المصرية تحمل في شكلها ومضمونها ودورها معاني ودلالات كلمة مؤسسة، فهي رافعة للدولة المصرية الحديثة بعد التخلص من الملكية والاحتلال البريطاني، وهي كتلة متماسكة ذات تقاليد صارمة لها فعلها الاقتصادي، البعض يقول أن مساهمتها في الاقتصاد المصري تبلغ 25 في المئة فيما يقول البعض الآخر أن مساهمتها تصل إلى حد 40 في المئة. أما في ليبيا فالوضع مختلف تماماً فالجيش لا عقيدة له ولا تقاليد مؤسساتية، بل هو عبارة عن فرقة هناك أسسها شخص وأخرى هناك تابعة لشخص آخر، وهذا ما انعكس على انفراط عقد الجيش والمؤسسة الأمنية فور اندلاع الأحداث المأسوية في ليبيا تحت الرايتين القطرية والأطلسية.
مصر دولة مركزية موحدة لها أسس راسخة، أما في ليبيا فإن الحديث عن التقسيم كان في صلب «الثورة المفترضة» على القذافي حتى قبل قتله وتدمير غرب البلاد من قبل الشرق الثائر بطريقة أقل ما يقال عنها أنها وحشية وخارجة عن نطاق العقل والمنطق.
صحيفة فايننشال تايمز البريطانية نقلت ما أسمته «مخاوف تساور دبلوماسيين غربيين في شأن مستقبل الدولة الغنية بالنفط والسلاح والقريبة من القارة الأوروبية، حيث يخشى الغرب من انتشار الفوضى خارج الحدود الليبية»، وذات الصحيفة، شأنها شأن العديد من الصحف الغربية، وصفت المشير السيسي بأنه «قائد الانقلاب على الرئيس الإسلامي المنتخب محمد مرسي في غمرة احتجاجات مناهضة لحكمه»، هذا الموقف الإعلامي ليس سوى صدىً للموقف الغربي عموماً والأميركي خصوصاً من سقوط الإسلام السياسي، ففي مصر حجب الكونغرس المساعدات العسكرية عن الجيش المصري بسبب موقفه المستقل عن التوجه الأميركي في إعادة ترتيب البيت الداخلي المصري، وذلك في إطار استراتيجية إضعاف الجميع لضمان بقاء دينامية الفوضى على حالها.
إنه اللااستقرار، مفهوم نسبي يختلف من دولة إلى أخرى، ففي ليبيا نحن أمام بلد تمزقه الحرب الأهلية وحرب آبار النفط، وفي مصر فإن الإخوان يثيرون الاضطرابات الأمنية في عموم أنحاء البلاد، وواشنطن ومن ورائها أوروبة تنضح بمخاوفها حول العملية الديمقراطية في البلاد وحسن سير العملية الانتخابية في ظل الظروف الأمنية الإخوانية، مخاوف تهدف إلى تدفيع الشعوب وما بقي من مؤسسات لها ثمن الانقلاب على الانقلاب الأميركي، أما ربيع الجنرالات فالطريق أمامه لا يزال بانتظار فصول طويلة لقطف الثمار وإعادة ما يمكن إعادته.
كاتب سوري