أنطون سعاده.. كم نحتاجك الآن
سامي مهنا
لقد اُغتيل أنطون سعاده، لأنه أسّس نهضةً فكريةً، قوميةً إنسانية، تصادمت، مع الكيانات «المستقلة» التي استقلّت من الاستعمار شكلًا، وبقيت مرتبطةً بعقلية الاستعمار، وبقايا الاستعمار، ومصالح الاستعمار ونهجه وسيطرته.
أنطون سعاده سعى إلى خلق الشخصية العربية، التي تُحْيي المنجزات الحضارية، وتواجه تحدّيات العصر، بروح محلقّة بأبعد مما يرسمُ لها أعداؤها، والمتواطئون معهم من أبناء العرب وزعاماتهم.
أنطون سعاده، أراد رفع العرب، من حضائر القبيلية والطائفية والمذهبية، إلى مشاعر العروبة الموحِّدة والموحَّدة، ومحاضر الإنسانية، التي ينخفض منسوبها، كلّما تأججت في الإنسان النزعات والنعرات المذهبية والتعصبات الدينية والقبلية المتقوقعة بجميع أشكالها ومسمياتها. ونستذكر في هذا السياق، مقولته الشهيرة: «يجب أن نقف في العالم أمةً واحدة، لا أخلاطًا وتكتلات متنافرة النفسيات». وفي زمننا الراهن، الذي يُذبح فيه الإنسان بِاسم الله، وتُذبح الأوطان بِاسم العقائد، وتُذبَحُ الأرض بِاسم السماء، تتحقق مقولة سعاده: «إنّ اقتتالنا على السماء أفقدنا الأرض». فكم نحتاج في هذا الزمن القاتم، إلى قائدٍ فكريّ وسياسيّ مثل أنطون سعاده؟ وكم نحتاج إلى إحياء هذا الفكر، وتذويته ونشره.
لقد حلم مؤسّس الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه، ورائي الفكر القومي، بأمّة سورية كاملة المقوّمات، كلُبنةٍ في بنيان القومية المتكاملة. أمة يُبنى فيها الانسان بموازاة بناء المشروع السياسي الوطني والقومي. لقد حلم سعاده وأسس لنهضةٍ فكرية ثقافية، حلم بأمةٍ قوية منتصرة على المشاريع المضادة لها، وعلى رأسها المشروع الصهيوني. حلم بشطب الطائفية والمذهبية، والتعصّب الديني، من قاموس الوجدان العربي، حلم بأمةٍ تحْيي أمجادها وتبني مجدها المتجدد الحداثيّ المعاصر. المؤامرة التي أدّت إلى اغتيال أنطون سعاده، استهدفت هذا الحلم، واستهدفت مشروع القومية السورية، ومشروع التحرّر من الاستعمار البديل، ومقاومة بدعة «سايس ـ بيكو»، ومقاومة المشروع الصهيوني، والتبعية العربية، والرجعية، وفسيسفاء الشعوب غير المنسجمة، لا بل المتناقضة، والتي تشوّه لوحة الأوطان وروح الإنسان. ولو لم يكن عظيماً لما تآمرت عليه أنظمةٌ ودولٌ كبرى مجتمعة، فأين نقف الآن من هذا الفكر وهذا المشروع؟ وكم تخلّفنا عنه بعدما مرّ أكثر من ستةّ عقودٍ على اغتياله المشؤوم؟
واقعياً، نحن في مرحلة الأوطان المدمّرة، والشعوب المتمزّقة، والمؤامرات الخارجية والداخلية على أوطاننا. وفلسطين لا تزال تحت الاحتلال، ولا تزال اللغة السائدة في السياسة اللبنانية، لغة الطوائف. نحن أمام خطر نشوء دوليات مذهبية، لم يتمدّد حلم سعاده كما حلم عندما قدّم حياته قربانًا مستخِفًّا بفناء جسده، أمام حلم بقاء الفكرة وتجسيدها.
إنما، وعلى رغم سوداوية الحالة الراهنة، تعلّمنا من فكر أنطون سعاده، أن البقاء للفكرة الجبارة. فعلى رغم كلّ ما يحدث في العالم العربي، إلا أن النهضة كما علمّنا التاريخ تنبثق من نقطة الاشعاع الصغيرة المتمركزة داخل الدائرة المضادة لها، وهذا النور الخافت في اللوحة السوداء العامة، سيتسع، ويتمدّد حتى يتمركز، وستتداعى الحالة الظلامية بفكرها وسلوكها وقوتها السياسية والعسكرية، لأن النهضة طاقة لا تفنى. فإنّ الرّوح التي حلم بها أنطون سعاده والمؤمنون بهذا الفكر باقية، وستنبعث وتتجدّد، طالما، بقي الحلم، وبقي المشروع وبقي من يؤمن به، ساعيا إلى تحقيقه. وستتردّد دوماً في نفوسنا، صدى كلمات الشهيد أنطون سعاده الأخيرة: «تحيا سوريا»، وستحيا سوريا، عندما يحيا صوت الإنسان فينا، وصوت النهضة. وحينئذٍ، سنقف في أنفسنا، ونقف في العالم أمةً واحدة، لا أخلاطًا وتكتلات متنافرة النفسيات، كما قال القائد الشهيد، أنطون سعاده.
شاعر من فلسطين، ورئيس الاتحاد العام للكتّاب العرب الفلسطينيين 48