«الشرق الأوسط الجديد»…
عصام الحسيني
لقد تشكلت عبر التاريخ، العديد من أشكال النظم الاجتماعية والسياسية للمجتمعات الإنسانية، منذ ما يعرف بالعالم القديم، بكل صوره البدائية، وصولا إلى دولة ما بعد الحداثة القائمة.
وكان الحاكم يمثل في النظم القديمة، ولاية مطلقة زمنية ودينية واجبة الطاعة، حيث كانت منطقة الحكم تخضع لقوة الحاكم، من حيث الحيّز الجغرافي والبشري. فالبشر هم رعايا، والأرض هي ملكية مقدّسة لذات الحاكم، والعيش عليها منة ومكرمة منه، لقاء عمل الفلاحين الأقنان.
وبعد تطوّر الفكر الإنساني، الاجتماعي والسياسي، والانتقال إلى مرحلة الدولة، بمفهومها المعبّر عنه بعد مؤتمر وستفاليا عام 1648 بالدولة الوطنية، ظهرت النُظم السياسية بالمفهوم الحديث، والتي اعتمدت على العنصر القومي، كمعيار أساسي يشكل عصب الأمة، وعماد الدولة.
وكان من الطبيعي أن تقوم القوى الفاعلة بإخراج شكلها الدولتي السياسي، انطلاقاً من مكوّنها الاجتماعي، وبناء على مصالحها الوطنية العليا، وهذا حق لكل المجتمعات الإنسانية، شرط ألا تتعارض هذه المصلحة مع مصالح المجتمعات الأخرى، فنصبح في حالة نزاع دولي، يحتاج إلى تحكيم دولي عبر المؤسسات القانونية القائمة.
والنزاعات بين المجتمعات الإنسانية هي ظاهرة طبيعية مصاحبة لحركة تطور المجتمعات، ويعمل القانون الدولي على محاولة إنهائها، أو الحد من تفاعلها، وعدم تهديدها للسلم والأمن الدولي.
إذن الأصل في تشكل أي منتظم سياسي، أن يكون هذا التشكل قد ولد من داخل قوى المجتمع الفاعلة وليس من خارجه، وهذا حق طبيعي، أقرّته معظم العهود والاتفاقيات والمواثيق الدولية، وهذا ما أشار اليه صراحة ميثاق الأمم المتحدة، في حق الشعوب في تقرير مصيرها، وفي اختيار أي شكل للحكم تريده، في الديباجة، وفي الكثير من مواده.
لقد أشارت المادة الأولى، الفقرة الثانية من الميثاق، إلى حق الشعوب في تقرير مصيرها، واحترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب.
وأشارت المادة الثانية، الفقرة الأولى من الميثاق على مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضاء الأمم المتحدة.
لقد أقرّ القانون الدولي بحق الشعوب في تقرير مصيرها، ويمكن القول إنّ مضمون هذا الحق يشير إلى حق كلّ شعب في المطالبة بالإلغاء الفوري والكامل للسيطرة الأجنبية عليه، ويترتب على ذلك بالضرورة، حق كلّ شعب في اختيار شكل الحكومة التي يريدها، وطبيعة نظامه السياسي.
وبهذا المعنى، صدر القرار الدولي رقم 1514 بتاريخ 14 كانون أول عام 1960 تحت عنوان «إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة» والذي جاء فيه: إنّ الجمعية العامة تعلن لجميع الشعوب، الحق في تقرير مصيرها، ولها بمقتضى هذا الحق أن تحدّد بحرية مركزها السياسي، وتسعى بحرية إلى تحقيق إنمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
كما أنّ المعنى ذاته قد ورد أيضاً، وبنفس الكلمات تقريباً، في المادة الأولى المشتركة، في كلّ من العهدين الدوليين.
العهد الدولي الأول للحقوق المدنية والسياسية: الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1966، وهي حقوق توصف في مجملها بأنها حقوق أساسية، مدنية وسياسية.
والعهد الدولي الثاني للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية: الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، عام 1966، وهي حقوق تعمّق الاتجاه للدولة الراعية.
إذن ومما تقدّم، أنّ حق كلّ شعب في تقرير مصيره بنفسه داخلياً وخارجياً، وفي اختيار شكل الدولة والمؤسسات الحكومية، وفي استخدام ثرواته الطبيعية على النحو الذي يريده، وفي التمتع بتراثه الروحي والمادي، هو حق أصيل وغير مقيّد بأية قيود.
من هذه الإشكالية، نستعرض ما هو قائم في واقعنا العربي المعاصر، عن واقع الدول وشكلها، وعن دور وخيار الشعوب في اختيار نظمه السياسية بكلّ حرية، بعد أن نالت استقلالها الفعلي وليس الشكلي.
لقد انتقلت الخريطة السياسية للمنطقة العربية الشرق أوسطية مع مطلع القرن الماضي، من الاحتلال العثماني إلى الاحتلال الغربي، الذي قسّم المنطقة وفق مصالحه الإمبريالية، والتي ما زلنا نعيش تداعياتها حتى وقتنا الحاضر.
لقد صاغ الاستعمار القديم الإنكليزي الفرنسي خريطة سياسية لمنطقتنا، خارج إطار ما نصت عليه القوانين الدولية، وخاصة لجهة حق الشعوب في تقرير مصيرها، واختيار شكل وصيغة نظمها السياسية، لا بل أنّ هذا الاستعمار قد خرق كلّ الحقوق الطبيعية الإنسانية، عبر ما قام به من اتفاقيات سرية وعد بلفور، سايكس بيكو ، تستهدف الوحدة الوطنية والقومية للوطن العربي، وأدخل أجيالاً في صراع لا ينتهي.
ولما كانت الحرية هي فعل نضال، وجب على الشعوب أن تناضل في سبيل تحقيق هذه الحرية، بكلّ أشكالها، وتقدير مصالحها الوطنية والقومية، وان تصنع استقلالها السياسي والاقتصادي، مدخلاً إلى سيادتها الوطنية، وإنفاذاً لكلّ ما نادت به الشرائع الحقوقية القانونية، والحقوق الطبيعية الإنسانية.
وخلاف ذلك يعتبر مشاركة لهذا الاستعمار، في استلاب الإدراك والوعي المتشكل في ذاكرة الشعوب، ومدخلاً إلى استلاب الثروات والمقدرات المادية والمعنوية، وهذا مخالف لجوهر ما نصت عليه القوانين الدولية، وخروج عن المنطق الإنساني الطبيعي والوضعي، في صيانة الحقوق وحفظها.
لقد قام الاستعمار القديم بخلق كيانات سياسية وهمية، وأقام فيها ما يشبه السلطة الدولتية، وهي من حيث الوجود مرتبطة بصانعها، وتستمدّ شرعيتها الدولية من خلال الاستتباع له، وليس من الشرعية الشعبية، غير الموجودة.
وهذا ما عبّر عنه في فترة التحرّر الوطني بتعبير العربية الرجعية المرتهنة بالمطلق لمصالح المستعمر، حيث هي في التفسير السياسي محمية استعمارية، تمثل الخروج عن هموم وقضايا شعوبها الوطنية والقومية، وخاصة قضية التحرّر الوطني، والصراع العربي ـ «الإسرائيلي»، قضية ضياع الوطن، في زمن ضياع الوعي.
ويأتي الاستعمار الجديد الولايات المتحدة الأميركية ، ليكمل مسيرة سلفه، لكن بقناع ملوّن، يجمع فيه ألوان الحرية البراقة، لكن بممارسة استعمارية أكثر استلابية، وهي مرحلة ما بعد الاستعمار، مرحلة خلق صراعات ونزاعات وهمية، وخلق أعداء وهميين، وافتعال حروب وهمية عبثية، خدمة لاستراتيجيات المستعمر.
لقد استطاع هذا الاستعمار، أن يحرف الوعي وأسباب تشكله، ويخلق مفردات وإشارات وظيفية، ذات دلالات نفسية سلوكية، درسها وحللها عقله الاستراتيجي، وقدمها كنموذج عن الحضارة الغربية، ديمقراطية ليبرالية تختزن الحرية والمساواة الشكلية، كطريقة تفسّر مراحل تطور الفكر الإنساني.
وطرح الاستعمار الجديد، مفاهيم حديثة عن قضايا الحرية، ومفهوم العدالة، وأعطي نظرية في تفسير انهيار المنظومة الاشتراكية العلمية، وكتب عن نهاية التاريخ وسيادة النظم الليبرالية، ووضع نفسه كمدافع عن الحريات الدولية، متجاوزاً ما نصت عليه القوانين الدولية، في معالجة النزاعات عبر الطرق القانونية، مروراً بالأمم المتحدة، والهيئات الدولية الأخرى.
واختصّ في رسم خارطة جديدة لمنطقة الشرق الأوسط، تقوم في البداية على:
1 إسقاط كلّ القوى المناوئة للمشروع الإمبريالي الجديد، والتي تشكل، أو يمكن أن تشكل نقاط قوى تهدّد مصلحة هذا الاستعمار.
2 خلق نزاعات وهمية في المنطقة، على أسس مختلفة دينية، مذهبية، عرقية، اثنية، مناطقية ، مقدمة لتقسيمها إلى كيانات وكانتونات، متعددة متناقضة متصارعة ضعيفة، وسيكون بمثابة سايكس بيكو جديد رقم 2، مع النكهة الأميركية، والمضمون الاستعماري الأكثر وحشية.
3 فرض مشروع سلمي جديد في المنطقة، يقوم على الاعتراف الكامل بالعدو الصهيوني، وجعله الشريك الاقتصادي الأول لهذه الكيانات.
لذلك، مهّد الاستعمار بالمساعدة في إسقاط الأنظمة القومية العربية، وأدخل مقولة فشل هذه النظم الشمولية، في التصدّي لمتطلبات الحداثة، وقال بضرورة إسقاطها واستبدالها بنظم ليبرالية، تتماشى مع طموحات العصر.
وأتى البديل عبر «الربيع العربي»، الإسلام السياسي كفكرة مستساغة، بديلة لما جرى ترويجه عن انهيار الفكر السياسي القومي، ولتدخل المنطقة في حالة صراع عنفي، مشتبهة الانتماء والولاء، وهي مرحلة صراع مفتوحة في الزمان والمكان، نظرية «الفوضى الخلاقة».
وقد فسّرت الديبلوماسية الأميركية هذه المرحلة بالقول: «إنّ مخاض الولادة مرحلة تجتاحها الآلام، لكنها تسفر عن حياة جديدة أفضل».
إنّ استلاب عامل الوعي في ضمير الأمة، هو المدخل الإلزامي لاستلاب إرادتها، وجعلها كيانات تابعة له، محمية منه، وهو فعل إرهاب فكري غير قانوني، وغير إنساني.
إنّ ولادة شرق أوسط جديد، بناء لمصالح الاستعمار واستراتيجياته، يعني المزيد من التقسيم والتفتيت، والمزيد من الانحراف والضياع، وزيادة لأصوات الدول الكرتونية الوهمية في الأمم المتحدة.
في حين أنّ المطلوب تحقيقه، هو الوحدة الوطنية والقومية، لصنع قوة فاعلة، تستطيع الدفاع عن مصالحها ومصالح شعوبها في وجه الاستعمار وأدواته.
إن ولادة شرق أوسط جديد، تقرّره شعوب المنطقة، انطلاقا من مصالحها، ومن ممارسة حقها المنصوص عنه في القانون الدولي، في حق تقرير المصير، وفي حق اختيار شكل الدولة والحكم، وليس في ما يقرّره الاستعمار.
إنّ ما تمرّ به الأمة في تاريخنا المعاصر، من انهيار لنظمها السياسية والأخلاقية، ليس سوى مرحلة عابرة في التاريخ، لأنّ تشكل عامل الوعي متأصّل في فكرنا، وفي مخزوننا الثقافي، الوعي المتجدّد الذي يرفض منطق الخضوع والتبعية.
إنّ ولادة شرق أوسط جديد، هي ولادة لمفهوم وعي الإنسان بذاته، وبالحقوق الطبيعية والقانونية لهذا الإنسان، المنصوص عنها في المواثيق والعهود الدولية، مضافاً اليها ما يحمله هذا الإنسان من فكر حضاري، يقوم على الاعتراف بالأخر وليس بإلغائه.