بشارة من الثانوية حتى عضوية الكنيست
كتاب الدكتور عادل سماره «تحت خط 48 ـ عزمي بشارة وتخريب دور «النخبة» الثقافية»، يلقي عبره الكاتب الضوء على عزمي بشارة كأحد أبرز الوجوه السياسية في الأرض المحتلة ليشرح مسار بشارة السياسي وانتقاله من الإطار الماركسي الشيوعي إلى الإطار القومي العربي في عملية خداع منظّم بينه وبين الموساد «الإسرائيلي» خدمةً للأهداف الصهيونية، إضافةً إلى دور بشارة التخريبي داخل الدول العربية.
والكتاب موزّع على 14 فصلاً تدور حول التطبيع وثنائية القومية والحكم الذاتي ومصالحة الاستعمار واستدخال الهزيمة وتضليل الشباب ودور بشار كفتى موساد، إضافةً إلى فصول أخرى سنأتي على ذكرها.
في عدد اليوم سنعرض لحركة عزمي بشارة منذ بداياته وصولاً إلى عضوية الكنيست، مع الإشارة إلى قصور فهم اليسار العربي التابع للسوفيات في حينه عن فهم طبيعة الكيان الصهيوني، وما ترتب عليه من نتائج سلبية تمثلت في عدم بلورة موقف واضح من الكيان يعبّر عن جوهره.
هذا الكتاب، نتاج ظرف، بمعنى أنني لم أفكر في كتابة كتاب عن بشارة، ولا أرى أنه يستحق ذلك. فحينما كتبت أول الردود عليه عام 1994 مجلة كنعان العدد 59 كانون اول 1994 ، كان ذلك من مدخل عدم اتفاقي معه في تبرير مشاركة فلسطينيي المحتل 1948 و1967 في انتخابات برلمانية، لأن كليهما يتمَّان تحت مظلة استعمار استيطاني اقتلاعي، وبالتالي هما ترسيخ لهذا الاستعمار، بل تطبيع جوهره استدخال الهزيمة بلا مواربة. ولم يكن الأمر بالنسبة لي ولن يكون الاتفاق أو الاختلاف معه، بل كشف مواقفه للجيل الجديد وللقارئ العربي. وهذا موقف من جانبي أسحبه على نقدي لكثيرين من طراز بشارة. بل إنني أعتقد أن غض الطرف عن أطروحات خطيرة متلونة، هو خطيئة لا تُغتفر. وهنا ليس مهماً عمق الأطروحة أو ضحالتها، بل ربما تكون الضحالة آلية اختراق أسرع.
بعد ذلك اكتشفت أن بشارة قد اختار طريقه بل مشروعه الذي يمكن تلخيصه في التالي:
التقاط الانتماء القومي العربي لدى جماهير الشعب الفلسطيني في المحتل 1948، واستثمار هذا الانتماء بإعلان تبنّيه للمسألة القومية العربية، وبهذا يتمكن من القطع مع ماضيه في الحزب الشيوعي الإسرائيلي، لينافس هذا الحزب على الصوت الانتخابي، مستخدماً المسألة القومية التي تورط الحزب الشيوعي في تجاهلها، ولكنه استخدام شكلاني بمعنى استثمار المشاعر القومية لدى الفلسطينيين، ولكن ليس على أرضية الرفض القومي العربي للكيان الصهيوني. ولا شك في نه نجح في ذلك. ويجد القارئ في المقالة الأخيرة في هذا الكتاب معالجتي لهذا الأمر هل تعد عناصر حزب بشارة إلى عناصره الأولية؟
أي أنَّ هذا القطع كان تنظيمياً وليس عقيدياً، مما يبيّن أن المسالة بالنسبة له هي البروز السياسي الشخصي.
تأكد هذا حيث أنشئ حزب التجمع الوطني الديمقراطي كحزب برلماني، تم تسجيله لدى وزارة الداخلية الصهيونية، ما يعني بوضوح أنه حزب يعترف بالكيان الصهيوني الإشكنازي على أرض الشعب الفلسطيني. وهو ما كتبت ضده مجلة كنعان العدد 76 أيار 1996 . وهنا يتضح التفاف بشارة، بمعنى أنه يستخدم الانتماء القومي للتصويت لعضو كنيست يعترف بالكيان الصهيوني. وهذا أشدّ خطراً من الحزب الشيوعي الذي أعرض عن المسألة القومية، ضمن أفق ستاليني معروف قام على اعتبار «الأمة العربية أمة في طور التكوين»، أي لم يعترف بتبلور قومي عربي، بينما اعترف بالكيان الصهيوني الإشكنازي الذي كان من قياداته المبكرة مستوطنون ماركسيون! كيف يجتمع هذان الضدان؟ لا ندري. وبالطبع فمن ينكر القومية العربية يكون إنكاره للانتماء العروبي لجماهير المحتل 1948 تحصيل حاصل، وهذا ما استثمره بشارة ليؤسس وضعه.
في نفس العام 1996 كتب بشارة في نشرة حزبه «فصل المقال» مقالة تحت اسم ابي الطاهر الجنابي، شن فيه هجوماً على الكنعانية زاعماً الدفاع عن العروبة والإسلام، حيث وضع التراثية الكنعانية في تضاد مع المسألة القومية العربية المعاصرة مجلة كنعان العدد 81 تشرين أول 1996 .
واصل بشارة نشاطه في الكنيست وفي حزبه وفي الكتابة، وأعرب عن آراء لافتة تستحق النقد، كما ارتكز إلى عضوية الكنيست للقيام بزيارات إلى اكثر من قطر عربي. ووجدت خلال تلك الفترة أن لا بد من الرد على هذا الشخص، لا سيما من مدخل تفنيد مخاطر عضويته في الكنيست، وتحديداً لأن لا عرب اعترضوا على عضويته هذه، علماً بأن عضوية الكنيست هي قسم يمين الولاء للدولة اليهودية! وقد يقول قائل، ولكن بشارة لم يكن أول فلسطيني يدخل الكنيست ويقسم هذ اليمين. وهذا صحيح، وهنا أود توضيح مسألة مهمة، وهي أن الكثير من الأمور المتعلقة بالكيان الصهيوني شابها الالتباس والغموض لدى الفلسطينيين والعرب والقوى اليسارية في العالم. وأعتقد أن السبب وراء ذلك مبعثه الشعور بالضعف والهزيمة أمام الكيان والمركز من ورائه كما أشرت أعلاه. هذا من منظور القوة العسكرية العارية. ولكن هناك كذلك، الفقر في التحليل، وهو ناتج من فقر نظري من جهة، وتهافت في الموقف القومي من جهة ثانية. ولعل جملة العوامل السلبية قد لعبت دوراً في تغطية جوهر الصراع مع هذا الكيان، ومنها اعتراف الأمم المتحدة بهذا الكيان- وهو اعتراف مشروط ولكن تم التغاضي عن الشرط الأساس أي شرط قبول الكيان بعودة الشعب المشرد. هذا إلى جانب دخول الأنظمة القُطرية العربية في هدنة مع الكيان ما أعطاه شرعية ما. أما هزائم الجيوش الرسمية العربية ومساومة الطبقات الرجعية والكمبرادورية مع الكيان والمركز، فقد سمحت بأن يبدو عضو الكنيست مناضلاً. وهذا مؤشر على أن المهزوم يبحث دائماً عن بطل ولو من فقاعة إعلامية. طريف أن هذا الاعتراف العلني ليس أخطر من الاعتراف الكمبرادوري العربي بالكيان كاعتراف عملي.
لقد تورط اليسار العربي في هذا الاعتراف، مأخوذاً بتبعيته للتحريفية السوفياتية. وهذا أمر انسحب على اليسار الفلسطيني وخصوصاً الحزب الشيوعي. إن من أخطر ما حصل هو عدم وجود تحليل حقيقي وعميق وغياب تراث نظري لطبيعة الكيان، ما أدى إلى تعثرنا في بلورة موقف واضح من الكيان يعبر عن جوهره. وقد ساعد في هذه الضبابية وجود مواقف للقوى اليسارية، مضادة وحتى معادية للمسألة القومية نظرياً وللقومية العربية عملياً، ما قاد إلى الاعتقاد بأن الانتماء العروبي يتناقض مع الماركسية، وبأن هذا الانتماء هو شوفيني. ولعل أكثر الأجنحة اليسارية عداء للقومية العربية هي التروتسكية، والتي لا يخالطني الشك بأنها مخترقة من صهاينة يهوداً. ولعل دورها في بناء المحافظية الجديدة في الولايات المتحدة ودفعها لاحتلال العراق شاهد لا يطاوله الشك. كان بشارة ولا يزال ممّن استثمروا مسألة حل الدولتين، ليتكئ على هذه الموضوعة في تبرير الاعتراف بالكيان كما لو كان طبيعياً. وهذه من المسائل التي وجدت من الضروري الرد عليها ونقضها كنعان العدد 85 نيسان 1997 . هذا مع أن القارئ سيجد دلائل في هذا الكتاب عن قفزات مثيرة لبشارة بين: مع دولة، دولتين…الخ. هذا الرجل خبير في القفز السياسي الحر. وكما بيَّنت أعلاه، لم يكن نقدي لبشارة بهدف تجميع كتاب عنه، ولا لإعطاء حالته تركيزاً خاصاً. ولكن زياراته المتكررة للشام وبيروت كانت لافتة للنظر، ليس لمجرد ذهابه إلى هناك بل لاستقباله في أوساط المقاومة والممانعة. كما واصلت الكتابة ضده بشكل خاص بعد خروجه الطوعي من الأرض المحتلة، وادعائه بأنه نُفي من قبل سلطات الكيان. وكما يلاحظ القارئ فقد أبقيت ما كتبت كما هو حرصاً على أمانة الكلمة. وما أقصده هنا تحديداً بأن موقفي من النظام في سورية هو موقف نقدي منذ منتصف السبعينات وحتى بدء الأزمة والعدوان على سورية. فلم أمحض أي ولاء لأي نظام عربي، لأن البوصلة هي الوطن أولاً وأخيراً، والموقف من أي نظام في حالة العدوان الخارجي قائم على وطنية النظام، وفي غير حالة العدوان الخارجي هو موقفه من الطبقات الشعبية والوحدة والاشتراكية.
وفي الحقيقة، كنت جاهزاً للوقوف مع سورية قبل اشتعال الأزمة، أي منذ تطورات الحراك في تونس ومصر، حيث اقتنعت بأن الحراك هناك يمكن اختطافه من الثورة المضادة، وهو ما عبرت عنه لاحقاً في كتابي «ثورة مضادة، إرهاصات أم ثورة – طباعة دار فضاءات عمان 2012 وبيسان رام الله 2013». لأنني اعتقدت أن الحراك فيما لو بدأ في سورية شعبياً مطلبياً مشروعاً، وهو هكذا، فإنه لا شك سوف يُوظَّف ويُمتطى من الثورة المضادة. وهنا أعتقد يكمن الفارق بين:
رؤية وموقف الصوفية الثورية التي بوسعها الكشف. وبين الطابور السادس الثقافي الذي إما يُصاب بالعمى لتعلقه بديمقراطية الإعلام/الإعماء، أو نظراً لارتباطات مشبوهة، أو لانبهار تابع للخطاب الثقافوي الغربي، أو لنرجسية المثقف الذي يصر على خطأ تحليله لأنه يرى نفسه فوق الوطن والحقيقة.
لقد تمكن بشارة، كما فضائية الجزيرة، من التمتع بما يسمى الربيع العربي. لقد كان ربيعهما بامتياز. وحتى تدمير ليبيا لم يقد إلى انكشاف بشارة، إلى أن كان العدوان على سورية حيث بان كل ما يمكن أن يبين، ولا أعتقد أنه كل شيء.
عزمي بشارة… فلسطيني من بلدة ترشيحا المحتلة 1948 من مواليد تموز عام 1956م. طبعاً في بلد تملؤه التناقضات السياسية والصراع بألوانه وأنواعه نتيجة الاغتصاب الصهيوني لفلسطين عام 1948م، تأثر بالحالة المحيطة به منذ دراسته الثانوية ومن خلال مشاركته في تأسيس اتحاد الطلاب الثانويين العرب، حيث درس في المدرسة المعمدانية في الناصرة، وبعد التحاقه بالجامعة شارك في قيادة الحركة الطلابية الفلسطينية في الجامعات الصهيونية لسنوات، ثم التحق بالحزب الشيوعي «الإسرائيلي» راكاح وهي اختصار اسم الحزب بالعبرية أي القائمة الشيوعية الجديدة حيث انشق عن الحزب الشيوعي «الإسرائيلي» القديم الذي كان يتزعمه حتى 1965 ميكونيس. وراكاح بمعاييره يزعم أنه ليس صهيونياً! لكنه حزب مسجل رسمياً ويعترف بالكيان الصهيوني الإشكنازي، ويشارك في انتخابات برلمانه وله أعضاء في هذا البرلمان، أقسموا يمين الولاء للكيان وهو ما شكل التمهيد الطبيعي لدخول بشارة الكنيست وحتى التفاخر بـ»بطولاته» هناك!
دخل الحزب حينما كان يدرس في جامعة حيفا، ثم درس في الجامعة العبرية في القدس وبعد ذلك سافر إلى ألمانيا، ليكمل دراسته في جامعة هومبولت في برلين وليتخرج بشهادة دكتوراة في الفلسفة عام 1986م. ويبدو أنه حافظ على علاقات ما مع مؤسسات ما في ألمانيا، وذلك لأنه حينما أنشأ لاحقاً مؤسسة الأنجزة باسم «مواطن» في رام الله المحتلة مع د. جورج جقمان لبرالي يميني معلم فلسفة في جامعة بير زيت بدأ تمويل هذه المؤسسة من ألمانيا.