لماذا تعرقل السعودية انتخاب رئيس لبنانيّ؟

د. وفيق ابراهيم

عندما تحتجب المعلومات الأكيدة يستند المراقبون إلى قاعدة التحليل بحسب المصالح.

وللإجابة عن الأسباب التي أدت إلى دخول لبنان مرحلة الفراغ الرئاسي تعذر انتخاب رئيس جديد، تنبغي الإشارة إلى أن المراقبين الدوليين والإقليميين، وبإجماع مواقعهم وتناقضاتهم، يعترفون بأن الرئيس اللبناني منتج إقليمي برعاية أميركية. والقوى الأساسية في الإقليم هي السعودية وإيران. وفي خلفية المشهد تراقب سورية الوضع بعناية.

فمن هي القوى التي دفعت في اتجاه إدخال لبنان إلى فراغ مجهول، عواقبه خطيرة.

هي القوى التي تعتقد أن وضعها قد يتحسّن في الشهور المقبلة ـ وتتموضع راهناً في مواقع سيئة تتمثل في تراجع نفوذها في كل مكان.

ولنبدأ بإيران، أصدقاؤها فازوا في انتخابات العراق ويتجهون إلى تشكيل حكومة قوية على قاعدة التحالف مع سورية وإيران، على أن يتطوّر الوضع إلى علاقات عميقة مع روسيا والصين في حال ساءت العلاقات مع واشنطن.

اليمن كذلك، حاله تَعَسٌ، السلطة فيه ضعيفة، والقبائل التي يتقاضى مشايخها المال من الرياض، من حاشد وبليل وسنحان، انقسمت على بعضها بعضاً، والقوة الأساسية فيه هم الحوثيون أصدقاء إيران. من دون أن ننسى علي سالم البيض في الجنوب وله أيضاً علاقاته مع طهران.

نتبيّن حتى الآن أن بلدين يجاوران السعودية أصبحا داخل «صداقة إيران» أكثر من صداقة الرياض. أما البحرين، مقدّم السعودية البحري، فالذي يحميها هو الأسطول الخامس الأميركي المرابط فيها، وليس القوات السعودية والإماراتية التي يمكن استعمالها لرقصة «العرضة» وسباق «الهجن». وعندما تتخذ الثورة البحرينية قراراً بالتصعيد المؤذي، فإن الرياض قد تسحب جيشها وتترك معالجة الوضع للأميركيين. ولن ننسى الأردن البلد المحاذي للسعودية والذي بدأت الاضطرابات تهزّ مناطقه الجنوبية في معان المحاذية وجوارها. ما يجعل الرياض قلقة ومهمومة. والحدود الآمنة الوحيدة لديها هي مع الكويت والإمارات وعُمان، وهي بلدان متواضعة لا قيمة استراتيجية وسياسية لها.

هذه الصورة الموضوعية عن أوضاع المملكة في إقليمها دقيقة جداً، تضاف إليها انتصارات الجيش السوري التي تكاد تؤسس منطقة عامرة بالسكان من حلب إلى درعا أي نحو 80 من الشعب السوري. أمام هذه الوقائع كلّها، ألا يحق للرياض أن تصاب بهلع وذعر سبّبهما أيضاً تراجع الدور الأميركي في المنطقة.

في المقابل هناك إيران المنافسة التي حسّنت علاقاتها مع باكستان، وأصدقاؤها في أفغانستان على وشك أن يكسبوا الانتخابات الرئاسية عبدالله عبدالله في الدورة الثانية، وأصبح لها الكثير من الصداقات في معظم دول آسيا الوسطى، خاصة المتحلقة حول بحر قزوين. وإيران أيضاً جزء من منظومة متعدّدة القطب، فيها روسيا والصين، لثلاثة عقود على الأقل تجسد مدة عقد الغاز بين موسكو وبكين.

أما إذا عدنا إلى المشرق العربي، فإيران قوية في العراق وسورية ولبنان واليمن. ولا تعاني أي ضغوط فعلية في هذه الأنحاء باعتراف المراقبين في الغرب والشرق.

لا يبقى مجال للتنافس إلاّ لبنان، حيث تحاول الرياض منع انتخابات رئاسيّة فيه بألف وسيلة ووسيلة. أبرزها ترشيح سمير جعجع غير المقبول على الإطلاق، والتمسك بترشيحه، مع عدم قدرة طرفي الصراع في لبنان على تأمين ثلثي النواب اللازمين لتوافر النصاب القانوني لانعقاد الجلسة. والسؤال عن مصلحتها من وراء التأجيل موجود في استمرار مراهنتها على فشل المفاوضات الأميركية ـ الإيرانية وسقوط النظام السوري، ما يؤدي تلقائياً إلى تراجع دور أصدقاء إيران في لبنان والعراق والبحرين واليمن.

إنه الفكر الجهنمي المريض نفسه الذي يعتقد أن واشنطن ليست إلاّ هراوة بيد آل سعود، يضربون بها بحسب مصالحهم.

المضحك أن السفير السعودي في بيروت لا ينفك يقول إن الانتخابات الرئاسية شأن لبناني، متعامياً عن أن رئيس حزب المستقبل هو سعودي الجنسية والتمويل والهوى، وتسلّم أبوه الشهيد رفيق الحريري رئاسة الحكومة ممثلاً الحصة السعودية في اتفاق الطائف.

المؤسف أن هذا الوضع يتكرّر منذ نظام المتصرفية في القرن التاسع عشر زمن كانت فرنسا توفر الحماية للموارنة والكاثوليك، وتدعم بريطانيا الدروز، وتناصر روسيا القيصرية الأرثوذكس… الوحيدون الذين كانوا بلا حماية ومطاردون في الجرود العالية هم شيعة لبنان.

هذا يكشف جميع الذين يتشدقون بكلمات معسولة عن السيادة والاستقلال والقرار اللبناني، ولا يخجلون من الانتظار ساعات طويلة لمقابلة سعود الفيصل أو موظف فرنسي من الدرجة الخامسة. وتراهم في لبنان مثل الديكة يعلنون استقلالهم. ويقدمون إعلان بعبدا كأنه «مانيفستو» الحزب الشيوعي الروسي، في حين أنه ليس أكثر من قصاصة ورق تافهة رحلت مع رحيل صاحبها.

هذا هو لبنان بلد العجائب والغرائب، ولولا وجود حزب الله فيه كمقاومة تحفظ بعضاً من كرامة اللبنانيين لقلنا إن هذا البلد مهزلة يثير زعماؤه القهقهة والسخرية عندما يتحدثون عن مصلحة لبنان وما يهمهم هو مصالح جيوبهم وزبائنيتهم، فهل تكون عرقلة انتخاب رئيس مقدمة لانهيار النظام الطائفي في لبنان وتراجع دور السعودية في العالمين العربي والإسلامي. هذا ما تتجه إليه الأوضاع سريعاً، فالوقت كالسيف يقطع من يبدده، ويبدو أن الرياض لا تزال تعيش في القرون الوسطى وتبدد حركة التاريخ.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى