هل يمكن رؤية المشرق من دون مسيحيّين… «الندب» لا يجدي نفعاً
هتاف دهّام
هل سنرى مشرقاً من دون مسيحيين؟ سيناريوات وخطط وضعت من أجل إفراغ هذا المشرق من الوجود المسيحي. يعتبر الغرب أنّ المسيحي حمولة زائدة في المشرق، لا مشكلة إذا قتل، والأفضل عنده أن يُهجّر، فإذا حصل ذلك، يكون قد أحدث توازناً مع ارتفاع عدد «الإسلاميين» المهاجرين من شمال أفريقيا، كون الدول الأوروبية تعاني تناقصاً سكانياً.
إنّ الايحاء الأوروبي بهجرة المسيحيين من الشرق، وضرورة منحهم اللجوء السياسي بذريعة حمايتهم وحماية حقوق الإنسان، تحت عنوان منطقة الشرق الأوسط ستبقى مشتعلة، قابلته مبادرة روسية تجاه المشرق بإفشال خطة ضرب الوجود المسيحي فيه، لا سيما أنّ المخطط الاميركي باقتلاع المسيحيين من أرضهم يعود إلى أيام وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كسينجر الذي أوعز إلى سفيره في لبنان دين براون أن يعرض على الرئيس سليمان فرنجية يومذاك نقل المسيحيّين عبر الأسطول السادس الى أيّ مكان، إلا أنّ مفكرين مشرقيّين يعتبرون أنّ روسيا غائبة عن السمع من عام 1860 بعد انتهاء المسألة الشرقية، فهي خرجت وتركت كلّ المنطقة لقمة سائغة بيد الفرنسي والانكليزي والأميركي.
لم تقم روسيا بخطوات سريعة للحفاظ على الوجود المسيحي، فهي تأخرت في حماية المسيحيين عموماً والأرثوذكس خصوصاً، على رغم أنها تؤكد مواصلتها حشد جهود المجتمع الدولي لحماية المسيحيين، ربما اكتفت بموقف الكنيسة الروسية، فالبطريركية الروسية تلعب دوراً مهماً، وموقف المطران هيلاريون كان هائلاً في المنتدى الروسي – الأميركي للقادة المسيحيين في مدينة شارلوت بولاية كارولينا الشمالية الأميركية، وتأكيده أهمية وضع مجموعة من التدابير للمحافظة على الوجود المسيحي في الشرق يتجانس موقف الكنيسة مع موقف الفاتيكان، الواضح انّ كلّ المسيحيين يجب ان يبقوا في الشرق. الحركة الفاتيكانية عبر الموفدين الروحيين الى المنطقة والزيارات الروحية والسياسية الروسية الى الفاتيكان في المرحلة الأخيرة تصبّ جميعها في خانة حماية مسيحيّي الشرق ومن بينها زيارة «هيلاريون» ولقاء البابا فرنسيس مع الرئيس فلاديمير بوتين منتصف الجاري.
وأمام ما يعانيه المسيحيون المشرقيون من تهديدات إرهابية، أتت القمة الروحية المسيحية التي عقدت في دمشق الشهر الماضي، والتي أجمع خلالها البطاركة على ضرورة أن يتشبّث المسيحيون في أرضهم، فالهجرة لم تعد ناجمة فقط عن الوضع الأمني إنما عن الوضع الاقتصادي، وكلما استطالت الأزمة وتوسعت كلما ازدادت الهجرة، فلا يستطيع أحد أن يبقى أربع أو خمس سنوات من دون عمل ومن دون مساعدة كافية أقله من كنيسته، فكيف لا يهاجر وهناك خطة فعلية مرسومة بدقة وبحرفية من الغرب لتهجير المسيحي من الشرق، وبلجيكا على سبيل المثال التي تستقبل مئات المسيحيين لا سيما من حلب، عمدت في عملية انتخاب أجرتها على مسيحيي حلب إلى اختيار 260 عائلة مسيحية من أصحاب الاختصاص من أطباء ومهندسين، واستثنت المسيحي الفقير الذي لا تريده كونه لن يقدّم لها شيئاً.
وجد مسيحيو الشرق أنفسهم بين سندان المجموعات الإرهابية التكفيرية والحروب الطائفية التي تغذيها الولايات المتحدة والدول الأوروبية، ومطرقة الهجرة التي تسهلها تلك الدول لهؤلاء الذين يئنّون تحت أعباء اقتصادية.
لا يضمّ المشرق سوى بضع أقليات صغيرة من المسيحيين، إلا انّ محاولة تهجيرهم وسلخهم عن سورية والعراق على أشدّها، بالتوازي في تحريض وإشعال وتغذية فتيل الحروب الطائفية المذهبية.
لم يعد هناك من مسيحيين في الجزيرة السورية، الآشوريون الذين كانوا يشكلون 40 ألفاً تركوا سورية نهائياً. تهاجر أسر مسيحية سورية في شكل يومي من القامشلي وغيرها. وتعاني حلب من هجرة مسيحية مخيفة إلى درجة أنّ بنايات كثيرة خلت من سكانها المسيحيين. كان تعداد الأرمن في سورية 90 ألفاً، اليوم لم يعد هناك أكثر من 12000 أرمني، ولم يعد هناك أكثر من 35 ألف مسيحي في حلب. وعلى عكس الجزيرة السورية فإنّ الوضع في الداخل السوري أسهل وأفضل الى حدّ ما، كون المسيحيين الذين تركوا حمص انتقلوا الى المناطق المحيطة بالمدينة كوادي النضارة، زيدل، والفيروزة وغيرهم، ولم يهاجروا، لكن ما إنْ تسنح لهم الفرصة حتى يغادروا.
إنّ ما يجري خطير جداً على مستقبل الديمغرافيا السورية، على مستقبل التنوّع الفكري الثقافي المعرفي العلمي التربوي. تكاد الجزيرة السورية التي تضمّ مناطق الرقة، دير الزور، القامشلي، الحسكة تخلو من مسيحييها، وحوران التي لا يتجاوز فيها عدد المسيحيين 3 في المئة بعدما كانوا يشكلون 51 في المئة في عام 1932، وإذا تطورت الأوضاع الأمنية قد تخلو من وجود هؤلاء. في حين أنّ المسيحيين في المنطقة الوسطى ومنطقة الساحل ودمشق، لا يزالون في أرضهم.
الوضع في العراق أكثر كارثية
ليس الوضع المسيحي في العراق افضل حالاً، فهو أكثر كارثية من سورية. المسيحيون لا يريدون البقاء هناك، الجميع ينتظر جواز سفره ليمشي، والعوائل المهجرة قسراً من الموصل وبلدات سهل نينوى تقطن في الكرفانات.
إنّ العضل الأساسي للمسيحيين هو في سورية، وهناك محاولة فعلية لاقتلاع المسيحيين منها. وأسوأ ما في الأمر انّ من يدّعي في لبنان انه مع المسيحيين لا يعلم البتة ماذا يجري بحق المسيحيين في المشرق، لم يعد هناك من مسيحيين في فلسطين بمعنى الوجود، بات وجودهم لا يتعدّى 1.2 في المئة في القدس. في الأردن انخفض عددهم مع موجات الهجرة، على رغم العلاقات التي تربطهم بالأسرة الهاشمية، صحيح انهم يشكلون العضل الاقتصادي، ويديرون اكثر من 45 في المئة من اقتصاد الأردن لكنهم في السياسة وفي السلطة ليسوا أكثر من ديكور.
إنّ خطورة الوضع تحتاج الى عملية دعم حقيقية، فلا يوجد دول تحترم المسيحيين في الشرق بالمعنى الطائفي. المسيحيون في السياسة ديكور. الأحزاب المسيحية في العراق شرابة خرج. ولا توجد في سورية أحزاب مسيحية دينية ليشعر المسيحي أنه ممثل في هذه الأحزاب، فقانون الأحزاب في سورية يمنع نشوء أحزاب دينية وعرقية، ولا توجد أحزاب قومية، باستثاء حزب البعث العربي الاشتراكي الذي يحمل أوزار وجوده في الحكم والحزب السوري القومي الاجتماعي الذي يضمّ نخبة من المسيحيين والمسلمين المؤمنين بفكره وعقيدته ومبادئه، خصوصاً أنه كرّس نسقاً جديداً متميّزاً في الانعتاق من أسر الطائفية والمذهبية الهدامة.
لكن هل لدى الكنائس خطط خلاقة لبقاء المسيحيين في أرضهم؟ لا يسع رؤساء الكنائس الا طرق كلّ الأبواب المتاحه لمناقشة وضع المسيحيين في ظلّ الأوضاع المتفاقمة في سورية والعراق. لا تمتلك الكنائس بنية تنظيمية، ففي العراق مثلاً، وجراء الحرب المشتعلة، ولانعدام فكرة الاحزاب المسيحية، لجأ المسيحيون الى الكنيسة الكلدانية التي تحمّلت أعباء الهجرة وهي تفتقر الى البنية التنظيمية كحال كلّ الكنائس.
الوضع المسيحي مهدّد ويواجه الكثير من التحديّات والأخطار. المغريات التي يقدّمها الغرب للمسيحيين لتسهيل هجرتهم، وسياسة التهميش في الأنظمة، ليست وحدها السبب، فهؤلاء لا يقاومون ما يتعرّضون له، على رغم أنّ ما يجري من تدمير للكنائس والرموز الدينية وحرقها، يفرض على الجميع ان يخوض حرباً ضدّ الإرهابيين والتصدّي لهم، المسيحي لا يقاوم بمعنى المقاومة، يكتفي بالـ»الندب»، باستثناء بعض المجموعات التي تقاتل ضدّ الإرهابيين في شكل فردي.
إنّ تثبيت وجود المسيحيين والحفاظ على دورهم يطرح نفسه كمعضلة على النخب السياسية والفكرية والدينية في لبنان، وينسجم ذلك مع كلام رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون الذي أكد أهمية الوجود المسيحي، على اعتبار انهم صلة الوصل بين المذاهب الإسلامية، وبإمكانهم أن يكونوا صمام أمان لعدم وقوع الصدام الشيعي – السنّي، وإخراج الصراع من قوالبه الطائفية والمذهبية إلى الأفق الوطنية والقومية التي توحّد الجميع على الأسس والمبدئيات في شكل لا يلغي أهمية التنوّع، ولكن يجعل هذا التنوّع في إطار الوحدة وليس خارجها على الإطلاق.