الدراما… بين التسويق ومواجهة الاستعمار

عبير حمدان

أضحت الأعمال الدرامية العربية مرتبطة بالموسم الرمضاني وكأنها من طقوسه الأساسية، إذ نجحت فكرة التسويق التجاري في حصر الإنتاجات الدرامية كافة ضمن إطار محدد لتحقيق الربح المرجوّ، أو لترك المجال أمام الكمّ الهائل من المسلسلات المدبلجة والمطّاطة في استيطان البيوت والعقول، كي يعيد طربوش بني عثمان أمجاد احتلاله وسطوته بسلاسة.

لا يمكن فصل الفنّ بمختلف قطاعاته عن السياسة وتشعّباتها، فالفن مرآة الشعوب والقادر على ترجمة رؤيتهم وإيصالها إلى المتلقي كنوع من التلاقي. قد يكون التبادل الثقافي والفنّي دليل عافية إذا ما كان متوازناً ومبنياً على قاعدة الندّ للندّ لا إلغاء مشهد واقعيّ على حساب مشاهد لا تمتّ إلى المجتمع بِصلة.

جدلية النقاش حول سطحية القصص المستوردة وإسقاطها على البيئة العربية أو تحريف الحقائق تحت مسمّيات موروثة لا تنتهي، ومن الصعب معالجة الخلل من خلال مقال قد يعتبره البعض رأياً شخصياً، إلا أنه من الخطأ أيضاً تبرئة رأس المال المتحكم بمسار الفضاء التلفزيوني من انغماسه بملذات الربح ولو على حساب الذوق العام، بحيث تصبح الخيانة بأشكالها كافة وجهة نظر، واللحم الرخيص هروباً إلى الأمام وتشويه التاريخ مجرد فكاهة.

المنافسة على العرض صارت المقياس لدى معظم القنوات، وكل مؤسسة مرئية ترى أنها الأجدر بالمتابعة. منها من سابق الزمن ليقدّم عملاً يرى فيه أيقونته الخاصة، ومنها من سعى إلى استحضار النجوم، ومنها من غاب عن الخريطة الترويجية لأسباب قد تكون مادية. العين لا تمتلك المقدرة على ملاحقة كل ما يُعرض، إلا أن الإشارة إلى جزء من المادة الدرامية ضرورة كعنصر من عناصر المواجهة.

الدراما السورية أسيرة الواقع

لم تسلم الدراما السورية من تداعيات الأزمة التي هشّمت المجتمع وأظهرت الحقد الدفين لدى تجار الموت، لنرى انعكاس صورهم من خلال الشخصيات الدرامية التي تضجّ بها الإنتاجات السورية منذ خمس سنوات. بحيث يصبح فعل القتل والخطف والمتاجرة بالأرواح مشهداً مألوفاً في كل موسم. وبعيداً عن التسابق بين صنّاع هذه الدراما على الأفضلية في مقاربتهم الدرامية للواقع، يرتبط نجاح أيّ عمل بكيفية التسويق له إعلانياً وإعلامياً.

في بداية الأزمة، تم التركيز إعلامياً على مسلسل «الولادة من الخاصرة» وكأنه الفتح الأول لملفات الفساد في تاريخ الدراما السورية وفي ذلك عدم دراية، قد تكون مقصودة، بما قدمته هذه الدراما قبل الأزمة من أعمال لامست الفساد بشكل مباشر، نذكر منها على سبيل المثال «لعنة الطين» و«غزلان في غابة الذئاب». لاحقاً، بدأت الإسقاطات تغزو المشهد ليتمّ الاقتباس من رواية إيطالية، حكاية الأب الذي يكتشف أن أولاده يعيشون حياة لا تشبه توقعاته، وعلى رغم أهمية الأسماء التي شاركت في العمل وباعها الطويل في المجال، إلا أن الواقع السوري كان قادراً على إنتاج عمل سوريّ كامل بمختلف عناصره. لعل الإنتاج المشترك من خلال القصص المستوردة والمعرّبة شكّل خشبة الخلاص لمجموعة من النجوم السوريين كي لا يتم تأطيرهم بصفة محددة، ما أفقد الأعمال الدرامية السورية رونقها وقدرتها على المنافسة بعدما تربعت على عرش الدراما لفترة طويلة.

على رغم حجم التخبّط الذي عانته الدراما السورية، بقيت الأعمال الكوميدية الساخرة بما تحتويه من نقد مباشر حاضرة بقوة مثل «الخربة» و«بقعة ضوء» و«ضبّوا الشناتي» الذي ترجم الواقع بإطار المضحك المبكي.

«وطن» أنزور… و«رماده»

هذا الموسم، حملت العناوين الكثير لناحية تبلور المشهد الآنيّ. وما رأيناه من صوَر في أكثر من عمل، أتى مألوفاً للعين التي تابعت منذ سنتين «تحت سماء الوطن» لاسماعيل نجدت أنزور، فما يقدّمه «غداً نلتقي» و«بانتظار الياسمين» و«شهر زمان»، اختصره أنزور بثلاثيات تكلّمت عن النزوح وتجارة الأعضاء والخطف والتقاتل بين الأخوة حين يكون كل واحد منهم على ضفة مغايرة للآخر. إلا أن أهل الإعلام لم ينصفوا «وطن» أنزور في حينه، ويستمر تجاهلهم له في هذا الموسم أيضاً لتغيب «امرأة من رماد» عن خريطة المتابعة الإعلامية إلا في ما ندر.

«جهاد» هي الشام بتناقضاتها وحنوّها وفرحها وحزنها وجرحها النازف. تمكّن الكاتب جورج عربجي من ملامسة النبض المقيم في ثنايا المدينة وكأنه يرصد ندوب الشام في مواجهة مرارة الوجع وحلو الأمل. وعين المخرج ترجمت الحكاية كما عودتنا منذ «حور العين» مروراً بـ«المارقون» و«رجال الحسم» و«ما ملكت أيمانكم» و«تحت سماء الوطن»، وصولاً إلى «امرأة من رماد». الرماد الذي تراكم وغمر المكان والزمان حيث تغيب الألوان لتغرق المساحة في الوهمٍ الذي نسبوه إلى «الحرية» ولو على حساب التاريخ والحضارة والمقاومة. وتبقى الشام في عين أنزور باعثة للأمل وقادرة على الوقوف بثبات على رغم لغة الانقسام المذهبي التي غزت مفاصلها وقصص الحب فيها. نرى الجار «المعارض» الذي يفتعل المتاريس ويطلق رصاص الموقف على جاره «الموالي»، الذي يبقى في أحد زوايا قلبه ركن طيب يحثه على مدّ يد المساعدة في الشدائد. إنه صراع الخير والشر في الذات البشرية القابلة للانقياد خلف خطاب تدميري وتكفيري في لحظة ضعف، وقرينة لها تقابلها بالتمسك بمبدأ الوجود في ظلال الوطن والدولة.

«حرائر» باسل الخطيب

البيئة الشامية زاخرة بالقصص والرموز. لكن هناك من سعى إلى تشويه الصورة الحقيقية لهذه البيئة من خلال تقديمها وكأنها صندوق للفرجة، و«نميمة حريم» لا تنتهي، وسطوة للرجل المتمسك بسكّينه وحسب. من هنا يأتي إصرار رأس المال الخليجي على تمويل «باب الحارة» والترويج له ليعمّم ثقافة الانحدار التي تشبهه. وهذا لا يُلغي مسؤولية المتلقي الذي يستمر في متابعة هذا النمط من الأعمال.

لا ينفصل باسل الخطيب عن القضية الأساسية، وهو ابن الأرض المغتصبة الذي حمل همّ القدس وربطه بالشام بما تمثله من ممانعة. وكيف لا يراها على هذا النحو وهي التي فتحت ذراعيها لفلسطين وأهلها، ولم تزل حتى الآن تدفع ثمن قدرتها على احتضانهم وتبنّي قضيتهم المحقة، هو «العائد إلى حيفا» الذي حمل «رسائل الحبّ والحرب» ليتلوها «الغالبون» طرق باب التاريخ من خلال «حدث في دمشق»، لينقل للمشاهد حقيقة البدعة الصهيونية وكيف واجهها أهل الشام منذ البداية. اليوم، يقدّم لنا باسل صورة مشرقة من تاريخ البيئة الشامية، حيث «الحرائر» يواجهن الجهل والتخلف والاحتلال العثماني الذي أتقن الإجرام بأشكاله كافة. في «حرائر» تقف ماري عجمي بثبات في مواجهة جمال باشا، تحاول إنقاذ العقول من سلاسل الظلم وتكتب حكاية الثورة والشهداء. وتنجح نازك العابد في دعوة قريناتها إلى رؤية العالم كما هو بلا غطاء أسود فرضه «العثملي» ليُعمي العيون والقلوب، عن حجم عنصريته وجرائمه.

«حرائر»، للكاتبة عنود الخالد صورة درامية وقّعها باسل الخطيب في محاولة لتقديم التاريخ كما هو، حيث أن المرأة السورية في تلك الظروف التي كانت تعيشها كانت تطمح للحرية والتنوير، ومحاربة العادات والتقاليد البالية التي حاول الاحتلال العثماني على مدى 400 سنة، غرسها في نفوس أهل الشام. فالعمل يتحدث عن النزعة التنويرية التي كانت موجودة في ذلك الزمن، والتاريخ أهم مرجع لمعرفة حقيقة ما كان، ويكفي أن نقرأ عن تلك الفترة لنعرف أن دمشق كانت بالفعل منارة حضارية، فيها الصحافة والفنون وحالة التحرر الواضحة.

«الحدوتة» الممّلة… والجرأة المبالَغ فيها

تستمر «الحدّوتة» بإطارها المملّ لنرى الصراع بين أبناء الحارة الواحدة في الجزء الثاني من «الغربال»، إذ تتصاعد وتيرة المكائد ويمكن للمتلقي أن يكتفي بمتابعة الحلقتين الأولى والأخيرة من العمل، ليعرف الحكاية من ألفها إلى يائها. أما المشهد المبالَغ فيه، فنراه في «طوق البنات» في جزئه الثاني، ونغرق في خط التطويل بلا أيّ معنى، حيث الحرب الخفية التي تديرها امرأة من خلال اعتمادها على التعاويذ السحرية، والآغا القادر على خداع الجميع بمن فيهم زعيم الحارة الذي يفترض به أن يكون حكيماً وواعياً إمكانية الغدر به.

في مشهد آخر، يصبح الجنس ضيفاً دائماً في الموسم الرمضاني من خلال سلسلة «صرخة روح» للسنة الثالثة على التوالي. ونحن لا ننفي وجود شوائب من هذا النوع في المجتمعات العربية. ولكن من الخطر اعتماد مبدأ التعميم والترويج لفكرة الخيانة وتجارة الرقيق الأبيض تحت مظلة الجرأة. وإذا كان الهدف من هذه الصرخة معالجة الخلل، فحرّي بالمعنيين أن يقدّموا طرحاً مضاداً بدل أن يكرّسوا فكرة الاستسلام الأنثوي للوحش البشري، سواء بواسطة الإغراء المادي أو الابتزاز المعنوي.

الدراما اللبنانية بين الالتزام والسطحية

حين نمعن النظر في ما تقدّمه الدراما اللبنانية، نجدنا أمام مشهدين: الأول متمسك بخط الالتزام بنمطية المقاومة ولو بتفاوت زمني. والثاني يعتمد على الحب والمنازل الفخمة والوجه الحسن لندرك أن سنوات الصراع بين محورين لم يلغها الزمن والسلم الأهلي الهشّ. في الدراما هناك خط تماس غير مرئي ولو جهد البعض في ادّعاء غيابه.

دراما المقاومة وإشكالية الهوية

منذ قرّر صنّاع دراما المقاومة توثيق تجربتهم في إطار درامي يدخل إلى كل بيت، بدأت الحرب الخفية على الفكرة. وعلى رغم أنهم أعلنوا أنهم يشيرون إلى أنفسهم، إلا أن العتب عليهم كان كبيراً وهذا نقاش يطول. على رغم حجم النقد الذي طاول «الغالبون»، إلا أنه تمكن من حجز مكانه على الخريطة الدرامية وتلاه «قيامة البنادق» و«ملح التراب» بما ضمّاه من هفوات إخراجية. وصولاً إلى «درب الياسمين» الذي خالف التوقعات. إذ إنّ العمل، على رغم تقنية الإخراج، إلا أنه سقط في عددٍ من الهفوات اللامنطقية، ربما لأنه يقدّم صورة مختلفة حول الحرب الاستخباراتية التي تحتّم على الكاتب افتراض القصص، حين لا يملك الحقائق الفعلية حولها. كيف أكون مؤيدة للمقاومة ونهجها وأخفي شكّي بعمالة أحدهم مهما كانت صلة ارتباطي به، ثم أختفي وتستمرّ الحياة بوتيرة طبيعية؟ كيف يمكن لمجتمع ذكوريّ المساومة على حضانة طفلة قُدِّمت الصورة السيئة لوالدتها بشكل واضح، وفي حياتنا الواقعية لا يمكن لهذه الأمور أن تحصل. سقط «درب الياسمين» في فخ التطويل. إضافة إلى الخط الدرامي في المعتقل، لنشعر أن «حمزة» قصته مستوحاة من معاناة أحد أبرز الأسرى اللبنانيين الذي واجه المحتل بفضح ممارساته ورفع دعوى قضائية بحقه، ومن يقرأ التاريخ يدرك المعنى. لذا، تبقى المشكلة القديمة الجديدة بعدم قدرتنا على مقاربة الواقع كما هو، ولو في إطار درامي.

يأتي «عين الجوزة» ليأخذ المشاهد إلى زمن كان فيه الإقطاع سيفاً مسلطاً على رقاب العباد. ولا تغيب القضية الأساسية عن العمل الذي يرسم لنا وجه فلسطين قبيل الاحتلال، وكيف كانت تفتح قلبها لمن جار عليهم أهل السلطة. هي قصة الترحال بحثاً عن متنفس، والثورة ضد الظلم بالعلم والمقاومة، ما يضع العمل في خانة الالتزام بفكرة النضال القديمة الجديدة.

لا ندري ما هي الغاية من استحضار التعصب الديني وإدخاله إلى العقول والبيوت بصورة درامية على مدى شهر كامل، وهل انتهت مشاكلنا الاجتماعية كافة كي نسعى إلى التركيز على إشكالية ارتباط الشاب المسلم بالفتاة المسيحية وما يتبع ذلك من معارك ضارية قد يصل إلى حدّ القتل؟ وهل أضحت الدراما بنظر بعض الكتّاب والشركات المنتجة مجرد قصة حبّ مستحيلٍ أو ممنوعٍ بين البطل والبطلة «الجميلة» لتكريس فكرة أن المتلقي يريد حكاية عابرة للتسلية وحسب. حرّي بالقيمين على هذا «العالم» أن يعيدوا قراءة التاريخ ليدركوا أهمية التعاطي مع الواقع برمّته، والخروج من الزاوية الواحدة التي ترى المجتمع بلون واحد يتم اختصاره بصراع وهمي بين الأديان من خلال الأفراد.

الغزو الصهيوني

هناك عبارة لأحد الفنانين اللبنانيين المخضرمين تنطبق على عمل مثل «تشيللو»، إذ يقول: «إن الفكر الإسرائيلي يتسلّل إلى العقول كالنعاس»، وهذا ما يحدث من خلال مسلسل دراميّ يبيح كل ما هو محظور، ويشّرع فكرة المتاجرة بالجسد والروح ولو على حساب المبادئ. فكيف إذا ما كانت القصة مقتبسة عن رواية لكاتب «إسرائيلي»؟ هل أضحى الاستسهال بالقضايا المصيرية أمراً عادياً في نظر بعض الشركات المنتجة للأعمال الدرامية والسينمائية؟ وكيف لشركة لبنانية سيدرز آرت برودكشن أن تقبل تبنّي رواية لكاتب صهيونيّ يجاهر بولائه للكيان الغاصب، ويتحدث عن عظمة اللحظة التي أعلن فيها عن قيام هذه الدولة؟ هل صار الدم العربي المراق منذ احتلال فلسطين واجتياح لبنان وتصاعد وتيرة المجازر المتنقلة رخيصاً إلى هذه الدرجة، ما يسمح بتمرير أفكار «إسرائيل» الهدّامة تحت مظلة الدراما الناعمة؟

هي مجرد قراءة سريعة للمشهد الدرامي الذي يحتمل الكثير من النقاش، ومن الصعب الإحاطة بالإنتاجات الدرامية كافة أمام الكمّ الهائل الذي يجتاح الشاشات في فترة زمنية محدّدة. لذلك، علينا إنصاف الدراما بجعلها مادة موجودة على مدار السنة شرط أن تنبع من واقعنا الزاخر بالقصص بعيداً عن النمطية الفاخرة والحوار الإنشائي والجمال الخارق الذي يتفوق على النصّ والمضمون في غالبية الأحيان. قد يُكتب للدراما العربية إحداث فرق إذا ما تحرّرت من سطوة رأس المال ومنطق التسويق بهدف الربح من جهة، وإذا خلعت عباءة الاستعمار بمسمياته كافة من جهة ثانية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى