«غرداية»… إشارة الكارثة الرابعة

د. نسيب أبو ضرغم

ما حصل في «غرداية» – الجزائر، من أحداث مؤسفة أودت بحياة خمسة وعشرين مواطناً، أمر محزن للغاية، إلا أنه إضافة إلى جانب الحزن، ثمة بعد خطير جداً، كنا ـ وفي مناسبات عديدة ـ قد أشرنا إليه، ونعني به حالة الانفصام المجتمعي التي بدأت تنذر بعاصفة مدمرة، ليس على مستوى الجزائر فحسب، بل على مستوى دول الاتحاد المغاربي كلها.

من الخطأ أن نعتبر أنّ السبب الحقيقي لما حدث في غرداية، سابقاً وحالياً، هو سبب اقتصادي على ما ذكرت وسائل الإعلام، ذلك أن أخذنا بهذا السبب سيؤدي إلى خلاصات غير حقيقية لا علاقة لها البتة بجوهر المسألة.

ما حصل في «غرداية» كان له إشارات عديدة، برزت خلال السنوات الماضية، وكلها تشير إلى وجود أزمة هوية لمجموعة أصيلة في المغرب العربي الكبير، وأعني الأمازيغ. إن الأزمة ليست بنت ساعتها، ولكنها تعود إلى عقود طويلة خلت، بخاصة بعد قيام دولة الاستقلال، ليس في الجزائر فحسب، بل في كافة دول المغرب العربي.

فما هي أزمة الهوية التي تقف وراء هذه التمزقات الاجتماعية؟ الأمازيغ هم أصحاب الأرض منذ ما قبل الفتح الإسلامي للمغرب شمال أفريقيا . لهم لغتهم، وثقافتهم، اعتنقوا الإسلام ديناً، وأضافوا إلى لغتهم لغة القرآن الكريم وتكلموا بها، إلا أن ذلك لم يسقط عندهم هويتهم التاريخية التي تعود الى ما قبل الفتح الإسلامي بمئات السنين.

لقد شكلت مرحلة الاستعمار الفرنسي عاملاً توحيدياً، دمج المكونات كافة في المغرب العربي في مشروع تحريري وطني مغاربي واحد، لذلك كان على مدى عمر الثورة توجد قيادات أمازيغية أبلت البلاء الحسن في صناعة النصر على الفرنسيين، والقائد حسين آية أحمد بعض هذه القيادات، تماماً كما لعب الأمازيغ الدور القيادي بفتح الأندلس على يد القائد طارق بن زياد.

كانت محاربة الاستعمار الفرنسي تقوم على قاعدة أن المجتمع المغاربي يعاني بكليته من هذا الاستعمار، وبالتالي راح يتحرك ثورياً كجسم واحد، بعيداً من تعددية ثقافاته، بوجه عدو هو نقسض ثقافاته ووجوده حتى الفيزيائي.

ما جرى منذ نيل الاستقلال، لم يخدم الوحدة المجتمعية، وذلك عائد إلى خيار الدولة الوطنية في عملية التعريب، وهو خيار صحيح بالكامل إذا ما وضع في مواجة الفرنسة التي نجحت بتحويل المغاربيين إلى أشباه فرنسيين، فكانت بداهة أن تعمد الحكومات الوطنية إلى عملية تعريب شاملة لكل ما هو فرنسي انغرز في الحياة المغاربية. لكن الخطيئة التي ارتكبت أن عملية التعريب لم تقف عند حدودها الفرنسية، بل اجتاحت بطريقتها المكون الأمازيغي، فلم تقف عند هذا المكون ثقافة واجتماعاً وتاريخاً ودوراً، وكان حرياً بها أن تعزز لغته وثقافته وتقيم أعياده، طالما هو جزء أصيل من هذا المغرب، وطالما أن وحدة الحياة جعلت منه ومن سواه وحدة اجتماعية طبيعية.

كانت فترة نصف قرن من عمر الاستقلال في المغرب الكبير، هي فترة تخمير لحالة التمزق الاجتماعي-الثقافي التي نراها تظهر أولاً في الجزائر، ولسوف تمتد على مساحة المغرب العربي كله مع الأسف.

بالتأكيد، لا يعلم الجميع، أن الأمازيغ في الجزائر رفضوا إضافة عبارة عربية على اسم دولة الجزائر المستقلة، فأسموها جمهورية الجزائر الديموقراطية الشعبية، أوليس لافتاً للنظر أيضاً أن دول المغرب كافة لحظة استقلالها، لم يرد على أي من أسمائها لفظة عربية، لا في ليبيا السنوسي ولا في الجزائر ولا في تونس ولا في الغرب ولا في موريتانيا… لماذا؟ أليس لأن المكون الأمازيغي في هذه الدول، مكون أساس وفاعل وقد فرض وجهة نظره؟

لقد نجحت تجربة الوحدة في دول المغرب العربي، ولكن على قاعدة الوطنية، ولكن الذي لم ينجح هو السياسات الخاطئة التي فرضتها السلطات على المكون الأمازيغي لناحية عدم احترام ثقافته وتاريخه ووجوده.

أمام الكارثة يسقط «التابو»، وبالعكس فإن التمسك «بالتابو» أمام الكارثة، هو الكارثة بعينها.

في الحقيقة، إن معالجة أسباب هذا التمزق، يستلزم دراسات، إلا أنه بالإمكان الإشارة إلى أساسيات المسألة على مقالة ربما تلقي الضوء على حقيقة وجذور المشكلة.

السؤال المطروح: ما هو الفكر الاجتماعي الذي يمكنه توحيد هذه المجتمعات وحدةً حقيقية على رغم تنوع ثقافاتها؟ هل هذا الفكر تمتلكه القومية العربية؟ أو أي حزب آخر على الساحة المغاربية؟

ولأن «التابو» قد سقط أمام قدسية وحدة الحياة ووحدة المجتمعات، صار لا بد من قول الأشياء بأسمائها، لأن المبادئ للشعوب وليس الشعوب للمبادئ.

لقد أنتجت القومية العربية بقولها إن العرب هم مادة الأمة التي تسعى إليها، وأن القومية العربية هي قومية الأكثرية، أما من هم من غير العرب فهم أقليات ملحقة، هذه الإيديولوجية أنتجت حتى الآن ثلاث كوارث حقيقية، والكارثة الرابعة على الطريق.

الكارثة الأولى: فشل الإيديولوجيا القومية العربية، على رغم تسلمها السلطة على مدى عشرات السنين في خلق الوحدة الاجتماعية في البلدان التي حكمتها. ما زال مشهد الانشطار العمودي في هذه المجتمعات، هو هو، كما كان لحظة وصول هذه الإيديولوجيا إلى سلطة، وفي هذا كارثة حقيقية.

الكارثة الثانية: كارثة شمال العراق، والتي تنبئ بقيام كيان كردي مستقل بإشراف أميركا و»إسرائبل». ولا يخفى على أحد أن سبب جنوح الأكراد إلى التعاون مع المغرب واليهود والسعي لإقامة كيان مستقل، هو عملية تحطيم الذات الكردية الثقافية، وبالتالي طحن هؤلاء عنوة في الطاحونة العربي. في وقت، لم يكن الأكراد عبر التاريخ إلا مواطنون ينتمون إلى هذه الأرض أسوة ببقية المواطنين الآخرين. لم يقدم إليهم فكر يجعلهم يشعرون بالمساواة في المواطنية.

الكارثة الثالثة: كارثة انفصال جنوب السودان، والتي لم تأخذ حقها حتى الآن لجهة إظهار مخاطرها على كامل وادي النيل، الأمر غير المبرر، وكأن ما حصل عملية بسيطة يمكن تجاوزها. إن انفصال جنوب السودان، أنتج تداعيات استراتيجية سوف تفعل تمزيقاً في جسد السودان ومصر، وسوف تسقط إلى حد كبير جداً الحضور في أفريقيا. لماذا وقعت كارثة جنوب السودان؟ أليس لأن الحكم في الخرطوم، لم يقف عند ثقافة السودانيين الجنوبيين، أليس لأن الحكم، لم ير أن هؤلاء ليسوا عرباً، وليسوا مسلمين… وبالتالي فإن فرض القومية العربية عليهم، هو بحد ذاته تحفيزهم على الانشقاق عن الجسم السوداني؟

هل قُدم لهؤلاء وعلى مدى عمر الاستقلال السوداني فكراً اجتماعياً يجعلهم يقتنعون بأنهم وإخوانهم في الشمال مواطنون متساوون؟ بالتأكيد لا… ما كانوا يوماً إلا مواطنين من درجة ثانية، تابعة.

«غرداية» هي الشرارة التي تنذر بالحريق الكبير، ولا شيء سيوقف هذا الحريق إلا رؤية قومية اجتماعية، تقدم لكل هذه المكونات غير العربية، رؤية تدعو إلى أن يكون الرابط القومي هو الأرض، ووحدة الحياة، بعيداً من العرق واللغة والدين واللون… فالجميع مغاربيون، عرباً وأمازيغ، وتنوع الثقافات على هذه القاعدة يكون غنى وقوة، وتكون إذاك العروبة رسالة حضارية-ثقافية، لا تلغي قومية أحد، بل تشكل عاملاً رابطاً تاريخياً بين هذه القوميات والتي هي أربع: سورية، الجزيرة العربية، وادي النيل والمغرب العربي.

لو أخذوا بذلك، أمام أي عالم كنا نحن اليوم؟

وحيث أنهم أخذوا بغير ذلك، أمام أي عالم عربي نحن اليوم؟!

ألا يكفي من الكوارث التي وقعت حتى نتعلم؟

المبادئ للشعوب وليس العكس.

لنتذكر قول وزير خارجية قطر السابق حمد بن خليفة لمندوب الجزائر في مجلس الأمن، عندما قال إن دوركم آتٍ.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى