وهـب الأعضاء البشرية وزرعها بين العلم النافع والتديّن الأعمى
بدري رفيق تقي الدين
تحقق في النصف الثاني من القرن العشرين تطوراً عظيماً أذهل البشرية وذلك في العلوم الطبية. وأبرز ما جاء في هذا المجال عمليات نقل وزرع الأعضاء البشرية، والجدير بالذكر أن هذا الموضوع هو قديم قدم الإنسان، وإن لم يكن بهذا الشكل المتطور. فقد عرف الإنسان منذ العصر البرونزي عملية «الترنبه» وهي عبارة عن إزالة جزء من عظم القحفة نتيجة إصابة الرأس، ومن ثم إعادة هذه القطعة إلى مكانها. كما وعرف المصريون القدامى عمليات زرع الأسنان ونقلها عنهم في ما بعد اليونان والرومان، أما الأطباء المسلمون فقد عرفوا زراعة الأسنان في القرن العاشر الميلادي، وفي القرن السادس عشر الميلادي قام الطبيب الإيطالي تاجيليا كوزي بإعادة تركيب أنف مقطوعة بواسطة رقعة مأخوذة من ذراع المريض، وكان الطبيب المذكور أول من تنبه لظاهرة الرفض التي تحدث عن نقل الأعضاء من شخص إلى آخر. وأنه خلال القرن التاسع عشر ميلادي تمت عمليات نقل كثيرة للأعضاء مثل الأوتار والعضلات والجلد والأعصاب والغضاريف والقرنيات والمبايض وأجزاء من الأمعاء، ومع نهاية القرن التاسع عشر اختلف المضمون العلمي حيث قدم العلم قائمة كبيرة من الاكتشافات العلمية والطبية.
وفي السنوات الأخيرة من القرن العشرين تحديداً أجريت العديد من العمليات الجراحية بخاصة بعد اكتشاف عقار «السيكلو سبورين» وهو عقار دواء توصل إليه العلماء في عام 1980 يساعد العضو الغريب المزروع على البقاء في جسم المريض وبفضل استخدام هذا العقار ارتفعت نسبة نجاح عمليات زرع الأعضاء إلى حوالى 80 في المئة. وقد تجاوب القانون مع التقدم الطبي بظهور فرع جديد من فروع القانون وهو القانون الطبي، لأن الطب يقدم الأمل والقانون يقدم الحماية.
في حماية جسم الإنسان دينياً
إن التعاليم المسيحية تؤكد أن صحة الإنسان هي القيمة الأولى لأن الإنسان هو القيمة المطلقة، أما في الإيمان فالله خلق الإنسان لذاته والله بذاته في خدمة الإنسان. وهنا يمكن الاستنتاج بأن الإنسان هو القيمة المطلقة وبالنتيجة فإن الحياة البشرية هي كذلك والإنسان عليه حقوق ولديه واجب للحفاظ على صحته خصوصاً من لديه حاجة ما. كما قال أحد الآباء إن الأصحاء ملزمون بالسقماء من باب الأخوة الآدمية والبنوة الإلهية. وهنا نستعيد قولاً للقديس أيليوناوس «مجد الله هو الإنسان الحي وإن الله يمجد بصحة الإنسان» خصوصاً أننا أعضاء بعضنا بعضاً. وهنا يشدد على أن الوهب فضيلة إنسانية دينية مسيحية مميزة فائقة، ويشير الدكتور لويس الخوند أيضاً إلى أن القضية الطبية هي التي تحكم من ناحية نقل الأعضاء.
والكنيسة تترك الأمر للطب من الناحية العلمية، وإنها تتفق مع العلم الطبي بأن موت الإنسان المحتم هو الموت الدماغي وبالتالي هو لن يكون موجوداً في جسمه البيولوجي. تأسيساً على ما تقدم فمن يوصي بأعضائه للمحتاجين إليها كذا وكذا وكذا…. كل ما لم يتمكن من وهبه في حياته يعطيه في مماته وبتفوق. وإن جميع الكنائس المسيحية تبارك عملية الوهب وتنادي بها تأسيساً على مبدأ لا يجوز أن ندفن كنوزاً غالية في التراب، كما أن الكنيسة تشدد على مجانية وسلامة الوهب على رغم قيمة الأعضاء، لذا يكون الوهب لدى الطوائف المسيحية فضيلة إنسانية. أما الشريعة الإسلامية الغراء فقد خصّت كلاً من حق الحياة وحق سلامة الجسم بحماية خاصة، وقد نصح النبي وأوصى في قوله: «يا أيها الناس تداووا، فإن الله لم ينزل من داء إلا انزل له دواء»، وكان يحض على العلاجات الطبيعية، ويؤثر الغذاء في الدواء. والمتفق عليه بين علماء الشريعة الإسلامية أن تعلم الطب ودراسته والعمل به فرض من فروض الكفاية، وواجب حتمي على كل شخص لا يسقط عنه إلا إذا قام به غيره وذلك لحاجة الجماعة للتطبيب ولأنه ضرورة اجتماعية. وقد عُرّف الطبيب بأنه العارف بتركيب البدن وجراح الأعضاء والأمراض الحادثة فيها وأسبابها وأعراضها والأدوية النافعة. ويمكن القول بأن الدين المسلم يحرم وهب الأعضاء بحيث ما يتداوله البعض، ولكن أحد الفقهاء قال بأن هذه الأفكار خاطئة، وقال بأن معارضة فكرة وهب الأعضاء ما هي إلا رأي ضعيف يقابله رأي راجح توافق عليه جميع المذاهب الفقهية لا بل تشجع الإنسان على التبرع بأعضائه في حال الموت، وفي الحياة أيضاً، وقالوا بالتبرع بالأعضاء التي لا تشكل خطراً على المتبرع. وهنا يستحق البحث استطراداً كافياً لا مجال لذكره الآن، ومن الفقهاء من قال تحديداً بعدم جواز نقل الخصيتين ولا المبيض لأنها تنقل الصفات الوراثية… ومن جهة أخرى، شدد الفقهاء أيضاً على عدم جواز تلقي أي بدل مادي نظير عملية الوهب، حتى ولو كان إكرامية للمتبرع. وهناك قاعدة شرعية تنص على أن الضرورات تبيح المحظورات فترفع الحرمة عن الإنسان إذا ما وجد الشخص نفسه في حالة يخشى فيها حصول ضرر على نفسه بحيث يكون ضرراً حقيقياً فيلتجئ إلى المنهي عنه والمحظور من أجل دفع الضرر المتأتي جرّاءه إذا كان قد أشرف على الهلاك.
وبإيجاز نقول بأن جميع الآيات القرآنية تدعو إلى الخير وكذلك الأحاديث النبوية التي تحث على مساعدة الإنسان لأخيه الإنسان، بحيث ينفّس كربه وهمه فالذي يُحيي نفساً واحدة يحيي الناس جميعاً، وبينما يفيد أحد إنساناً واحداً كأنما أمّن الإفادة للإنسانية جمعاء وهذا ما يستدل به عن معاني الرحمة في الإسلام.
في حماية جسم الإنسان في القانون الوضعي
في هذا البحث لا بد من فهم الحق في حماية جسم الإنسان وتبيان أفعال الاعتداء على الحق في سلامة الجسم، ومن ثم عرض مشروعية الأعمال الطبية. لذا يمكننا القول بأن الحق في حماية جسم الإنسان هو من الحقوق التي يشملها قانون العقوبات بالحماية، فللحق في سلامة الجسم جانب موضوعي يتمثل في التكامل الجسدي لجسم الإنسان من جهة، وجانب فردي يتمثل في حق الفرد في أن يكون جسمه مكفول الحماية ولا يقوم أحد بالاعتداء عليه من جهة ثانية. كما أن هناك جانباً متعلقاً بالمجتمع الذي له حق أيضاً في حماية الجسم من الاعتداء إذ إن الفرد يؤدي للمجتمع بعض الواجبات، فإذا كان هناك مساس لسلامة جسمه فإن ذلك يعدّ اعتداء على حق المجتمع. ومن هنا يتضح أن الحق في الحياة هو المصلحة التي يحميها القانون في أن يبقى الجسم مؤدياً القدر الأدنى من وظائفه، أما الحق في سلامة الجسم فهو المصلحة التي يحميها القانون في أن يظل الجسم مؤدياً كل وظائفه. مع الإشارة إلى أن الصحة تتخذ صفة الكمال إذا كانت جميع أعضاء الجسم تسير بكل وظائف الحياة في الجسم على النحو العادي، وإن لكل شخص نصيبه من الصحة. وبالتالي يمكن أن نوجز تعريف الجسم: بأنه الكيان الذي يباشر وظائف الحياة وهو محل الحق في سلامة الجسم، وإن قانون العقوبات ينظر إلى أجزاء الجسم من دون تفرقة. فللجسم إذاً هو كل ما صدرت عنه وظائف الحياة على تعددها واختلاف أنواعها، وإذا فقد جزء منها فقد انتقصت هذه القيمة وعُدّ هذا الانتقاص مساساً بسلامة الجسم يحرّمه القانون. هذا من جهة. ومن جهة ثانية: فالمشترع اللبناني أشار إلى تعبير الإيذاء مثلاً في بعض الفقرات المبينة في الفصل الأول الخاص بالجنايات والجنح على حياة الإنسان وسلامته.
استناداً إلى كل ما تقدم، فإن صفوة القول تتمثل بأن الحق في سلامة الجسم هو مصلحة المجتمع والفرد يقرّها المشرع ويحميها في أن تسير وظائف الحياة في الجسم على النحو الطبيعي وفي أن يحتفظ بتكامله وأن يتحرر من الآلام البدنية، وجميع الأعمال الطبية التي يقوم بها الأطباء والجراحون كما يحدث في العمليات الجراحية تستلزم المساس بالحق في سلامة الجسم وتسبب آلاماً للمريض، وقد يترتب على ذلك شفاؤه كما قد ينشأ عنه ازدياد المرض والألم، فاحتمال الشفاء من العلاج مع انصراف ذهن الطبيب الى هذا الشفاء يكون قد أدى هذا الأخير مهمته طبقاً لأصولها الفنية كافٍ لرفع المسؤولية. وهنا ليس من سبيل إلى استعراض أسباب مشروعية العمل الطبي إن في حالة الضرورة وإن تجاه المريض وإن في عدم توافر القصد الجنائي وإن في شروط ممارسة الأعمال الطبية، وإن جميع هذه المواضيع على جانب من الدقة والعمق ولا يوجد متسع لشرحها الان.
في المرسوم الاشتراعي رقم 109 الصادر بتاريخ 16/9/1983
أخذ الأنسجة والأعضاء البشرية لحاجات طبية وعلمية لبنان :
إن هذا المرسوم الاشتراعي الذي يتكون من تسع مواد قد يضمن السماح بأخذ الأنسجة والأعضاء البشرية من جسم أحد الأحياء لمعالجـة
مرض أو جروح خص آخر وفقاً لشروط محددة، أي أن يكون الواهب قد أتم الثامنة عشرة من عمره، وأن يعاين من قبل الطبيب المكلف بإجراء العملية، وأن يوافق الواهب خطياً وبملْء حريته، وأن يكون إعطاء الأنسجة أو الأعضاء على سبيل الهبة المجانية. كما أشار في المادة الثانية منه إلى أنه يمكن أخذ الأنسجة والأعضاء البشرية من جسد شخص ميت أو نقل ميتاً إلى مستشفى، على أن يكون المتوفى قد أوصى بذلك أو أن تكون عائلة المتوفى قد وافقت على ذلك، كما يشترط موافقة المستفيد من العملية المسبقة، ويجوز فتح الجثة لغايات علمية.
مع الإشارة المهمة إلى أن المادة 30 من قانون الآداب الطبية رقم 288 لعام 1994، قالت بإجراء استئصال عضو لإنسان بالغ حي في سبيل إجراء عملية زرع ذات هدف علاجي وذلك بعد موافقة الواهب الخطية، وذكرت أيضاً عدم جواز إجراء عملية التلقيح الاصطناعي أو الحمل بواسطة التقنيات الخصوبة المساعدة إلا بين الزوجين وبموافقتهما، كما حرم القانون المذكور المتاجرة بالأعضاء البشرية.
ختاماً، إن ما يهمنا من استعراض هذه الأفكار العلمية الطبية وبإيجازٍ التوصل إلى إرساء ثقافة إنسانية واعية وراقية ومتحضرة وعلمية ونافعة أولاً وأخيراً، بحيث نسعى بحزم وبقوة إلى شدّ أزر اللجنة الوطنية لوهب وزرع الأعضاء والأنسجة البشرية إلى جانب ترتيب مهمات تنسيق ومتابعة عمليات الوهب في لبنان. ونشير إلى أن جميع بلدان العالم يوجد لديها لوائح انتظار لمرضى بحاجة إلى زرع أعضاء وهذه اللائحة لا تزال في لبنان في طورها التأسيسي، الأمر الذي يقتضي معه إعادة تشكيل هذه اللائحة تشكيلاً علمياً وطبياً دقيقاً. كما أن على الطوائف كافة تسهيل العمل بالوصايا المسجلة لديها والتي يمكن من خلالها أن يوصي الموصي بالتبرع بأحد أعضائه بعد وفاته الأمر الذي يستدعي العجلة والتنبه، وتنفيذ إرادة الموصي بحذافيرها من دون تردد وحجج واهية متزمتة ومتدينة لا تستقيم علمياًً ولا إنسانياً.
آملين في المستقبل القريب أن يكون لدينا العديد من بنوك للأعضاء البشرية تفي بالغرض وتبعث الحياة من الموت.