الثوابت الوطنية وضرورة التأكيد على مفهومها ومحدّداتها
رامز مصطفى
تعاني الساحة الفلسطينية بكامل مكوناتها وأطيافها، إشكالية استراتيجية حول مفهوم «الثوابت الوطنية الفلسطينية» ومحدّداتها، بسبب حيويتها إزاء قضيتنا الوطنية، فهي تمثل باختصار شديد جوهرها. هذه الثوابت لطالما كانت ولا تزال مثار جدال ومناقشة دائمين، واستحوذت على قسط وافر من المقالات والأبحاث والدراسات والندوات، وحتى المؤتمرات والمنتديات داخل الوطن والشتات. والمفارقة أن هذه الإشكالية حتى الآن لم يُعمل على صوغها وتحديد عناوينها بدقة على نحو لا يترك للاجتهاد أو التأويل أو التفسير أي مكان لحساسية هذه العناوين.
كثر ومنذ استئناف المفاوضات في منتصف آب من العام الفائت الحديث عن هذه الثوابت وضرورة التمسك بها، والإصرار عليها لعدم التفريط أو التنازل عنها. وذهب البعض في الساحة الفلسطينية إلى تنظيم الوقفات التضامنية وتحت شعارات تنطلق من خلفيات ورؤى سياسية مختلفة من هنا أو هناك. من نماذجها «الثابت على الثوابت» و»حارس وحامي الثوابت» و»التمسك بالثوابت، تمسك بالوطن» و»التنازل عن الثوابت، تفريط بالحقوق الوطنية» و»ثوابتنا على أرض فلسطين من بحرها إلى نهرها» و»لا تنازل عن ثوابتنا في تحرير الأسرى، ووقف الاستيطان، وإقامة دولتنا على حدود العام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية»، الخ.
هذه عينة من التعبير عن الثوابت الوطنية وهي متناقضة في مفهومها ومحددات عناوينها، الأمر الذي قادني في العودة إلى دراسة تحت عنوان «إشكاليات الثوابت الوطنية»، عملت عليها الباحثة راغدة عسيران في أيلول من العام الفائت، أي بعد أقل من شهر على استئناف المفاوضات بين منظمة التحرير والسلطة من ناحية، والكيان الصهيوني من ناحية ثانية.
وليست الوحيدة بل ثمة غيرها. هذه الدراسة التي استندت إلى أحاديث كانت أجرتها الباحثة مع عدد من مسؤولي الفصائل الفلسطينية في لبنان من كلا الإطارين السياسيين، تحالف القوى ومنظمة التحرير. يتضح مما أدلى به هؤلاء المسؤولين أن التباين حول مفهومهم للثوابت ومحدداتها ليست واحدة. وهذا ما خلصت إليه الباحثة عسيران حين ختمت بحثها بالقول «إلاّ أن عرض الآراء وتوضيح التباين حول مفهوم الثوابت الوطنية، والإشكاليات حولها، من شأنه أن يساعد المخلصين في نفض الغبار، وإعادة صوغ إستراتيجية موحدة واضحة، وتخطيط للمراحل القادمة في طريق تحرير فلسطين». وهذا التباين الحاصل شأن الساحة الفلسطينية كلها، خاصة بعد التوقيع على اتفاقات أوسلو عام 1993، إذ تم بموجبها التنازل عن 78 من الأرض التاريخية والاعتراف بالكيان الصهيوني، وهذا معناه أن تحولاً جذرياً حصل على طبيعة الثوابت الوطنية وأسسها. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى جاء شطب الميثاق الوطني لمنظمة التحرير في اجتماعات المجلس الوطني الفلسطيني في قطاع غزة، وبحضور وشهادة الرئيس الأميركي بيل كلينتون بتاريخ 8/11/1998. إذ ألغيت 12 مادة، و16 مادة حذفت منها مقاطع. ليكرس هذا الشطب للميثاق الوطني إقراراً من قبل المشاركين في هذا المجلس، أن تنازلاً جوهرياً في ثوابت القضية الفلسطينية قد وقع.
إذا كانت هذه حال الفصائل والسلطة الفلسطينية وتباينهم حول الثوابت الوطنية في مفهومها وعناوينها ومحدداتها، كلٌّ من خلفية برنامجه ورؤيته السياسية. السؤال التالي يفرض نفسه بقوة وهو أين رأي الشعب الفلسطيني في أمر حيوي ومصيري يعنيه ويتعلق به مباشرة؟ على اعتبار أنه صاحب المصلحة الحقيقية في التأكيد على ثوابت قضيته الوطنية، وإعلان تمسكه بها. لذلك فإن الإشكالية حول الثوابت لم تقف عند حدود التباين بين الفصائل والسلطة، بل أيضاً مع جموع الشعب الفلسطيني ونخبه من خارج الفصائل والسلطة. والأخطر محاولات الالتفاف على الشعب الفلسطيني من خلال تأكيد السلطة في نيتها على دعوة الشعب الفلسطيني إلى الاستفتاء على ما قد تتوصل إليه من نتائج في أي عملية تسوية مقبلة مع الكيان الصهيوني. وهذا معناه الاستفتاء في التنازل عن ثوابته وحقوقه الوطنية. كأن اتفاقات أوسلو لم تكن تسوية مع الكيان وإن لم تكن مكتملة من منظار أطرافها المشاركة والموقعة عليها. إلاّ أن اتفاقات أوسلو شكلت الحلقة الأخطر في مسار التسوية المذلة والمهينة مع هذا الكيان الغاصب. وهذا بذاته استخفاف متعمد بعقول أبناء شعبنا الفلسطيني الذي لم يُدع للأخذ برأيه أو استفتائه. ولو افترضنا الموافقة على طرح السلطة في نيتها تنظيم استفتاء شعبي حول التسوية. الاستفتاء لا يعني بالتأكيد في أي حال من الأحوال الاستفتاء على تسوية أدرجت، اتفاقات أوسلو في داخلها، بل هو استفتاء على الجديد من التسوية في نسختها الثانية، وبمعنى أوضح «أوسلو 2»، أي أن «أوسلو 1» عفا عليه الزمن، وإن كان في مفهوم الدول والأنظمة فحسب، لا في مفهوم الشعوب. وذلك كله محوره ثوابت هذا الشعب وحقوقه التاريخية. ومحاولات تبديدها يميناً ويساراً.
إن الإشكالية حول الثوابت الوطنية ومفهومها ومحدداتها، في اللحظة السياسية الراهنة التي تتعاظم فيها التحديات، بسبب ما تشهده المنطقة من حوادث، هدفها انكشافها تماماً أمام المشروع الأميركي الصهيوني. من خلال الحرب المفتوحة على سورية ومن خلفها محور المقاومة والممانعة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، دخول المصالحة الفلسطينية حيز تطبيقاتها العملية وفق آليات اتفاق تنفيذ اتفاق أيار 2011. يتطلب إعادة الاعتبار إلى هذه الثوابت الوطنية بمفاهيمها ومحدداتها، وبما لا يتعارض والمصالح الوطنية العليا لقضيتنا وتحدّدها بالتأكيد، وإن بخطوطها العريضة جموع الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات، فأي اجتهاد أو تشريع من خارج سياق هذه المصالح إنما هو تبديد فوق تبديد لهذه الثوابت.