التفاهم النووي اللبناني طائف جديد
روزانا رمال
كان من حق الأفرقاء السياسيين في لبنان أن يقرأوا كلّ في كتاب، وأن يتوقع كلّ منهم ما يرغب في أن يراه ويصوّره قراءة في مسار الأحداث، وفي قلب العلاقة بين التوازنات المحلية والصراعات والخنادق الدولية والإقليمية التي يتموضع فيها هؤلاء الأفرقاء وجهاً لوجه، كان من حق كلّ فريق أن يرى حصانه يصل إلى خط النهاية، وأن يقدّم لجمهوره دائماً القراءة التي تناسب تقديم شحنة معنويات على شكل قراءة في التطورات تنتهي في كلّ مرة برؤية الجبهة التي ينضوي تحت لوائها وهي تحقق النصر، وهو يسخر من خيارات الخصم المحلي ورهاناته الإقليمية.
سورية كانت دائماً ساحة الحرب، لكلّ فريق قراءته لمسار الحرب فيها وتوقعاته لنهاياتها، ومن يقول انتهى الرهان على إسقاط سورية ومن يردّ عليه بأنّ «أيام الأسد باتت معدودة»، والأمر تخطى منذ زمن النقاش بتحديد الوجهة الأصحّ والأسلم أخلاقياً أو وطنياً أو في الحرب على الإرهاب أو في قياس مصلحة لبنان، وصارت مجرد رهانات متعاكسة على حلبة سباق كبيرة.
في مفهوم الربط بالملف النووي الإيراني لم يكن السباق اللبناني في سوق المراهنات يضمّ الكثير من المراهنين على عدم توقيع التفاهم، ولو كانت تمنيات البعض تسير في هذا الاتجاه.
الرهانات كلها تقريباً في مناخ من البرودة العقلية كانت تدور تحت سقف أنّ التوقيع سيحدث، وأنه مهما كانت التفاصيل النووية والتقنية للتفاهم فهو سيضمن لإيران فك العقوبات ونيل الأرصدة المالية المجمّدة والعودة إلى الأسواق العالمية، وفي المقابل يضمن امتناعاً إيرانياً عن عدد من الأنشطة النووية التي تزيد وتنقص ولها هدف واحد اطمئنان الغرب بابتعاد إيران عن فرص امتلاك قنبلة نووية، رغم أنّ الجميع يعرف صحة ما يقوله «الإسرائيلي» عن أنّ هذا كله بلا قيمة نووياً طالما أنّ إيران امتلكت التقنية ويتقنها علماؤها وقد صمّموا الآليات والأدوات اللازمة لها واختبروا كلّ مراحلها إلى ما قبل تحويلها لسلاح فتاك، وهو ما لا يحتاج إلا إلى القرار.
الكلّ يسلّم في العالم وفي لبنان أنه مهما كانت الشروط النووية والمالية للتفاهم، فإنّ إيران تخرج رابحاً كاملاً والتفاوض يدور كيف لا يخرج الغرب خاسراً لأنّ معادلة «رابح رابح» تبدو مستحيلة طالما العقول والتقينات والآليات في متناول يد إيران ويكفي القرار وبضعة أيام لتعود حيث كانت قبل التفاهم.
الرهانات كانت حول معادلة أخرى، قوامها ما كان يقوله أفرقاء الرابع عشر من آذار دائماً عن أنّ إيران ستضطر إلى أن تقدّم تنازلات في مواقفها الإقليمية كثمن لا بدّ منه لتنال هذا الاتفاق الهدية، وأنّ رأس حزب الله سيكون على طاولة المفاوضات ثمناً جاهزاً تسدّده إيران لنيل التفاهم النووي الذي تريده، وكلما ارتفع سقف إيران المقصود في النتائج المالية للتفاهم النووي، انخفض قعر التنازلات المطلوب تقديمها من رصيد الحلفاء، خصوصاً أنّ إعلام هذا الفريق ومن وراءه في المنطقة والعالم دأب يقول إنّ سبب التفاوض الإيراني هو الضائقة المالية الخانقة والزحف إلى استجداء حلّ يفك طوقها عن الخناق الإيراني، ولو كان الثمن من اللحم الحي، واللحم الحي هو لحم حزب الله.
كان هذا الفريق متيقناً وهو ينتظر مصير المفاوضات حول الملف النووي الإيراني من أنّ مصير سورية سيكون على الطاولة أيضاً وفي قلبها مستقبل الدولة السورية ورئيسها بشار الأسد، ولذلك كان الكلام عن الأيام المعدودة بعيداً عن المعلن من رهانات على الوضع العسكري لمعارضة يعرفون محدودية قدرتها ولإرهاب يرون هزائمه في القلمون، فكان الرهان على الملف النووي الإيراني وما سوف تضطر إيران إلى تسديده من رصيدها ورصيد حلفائها ثمناً للتفاهم.
حدث التوقيع وانتهت فترة المراهنات وجاء وقت كشف الحساب، وصدق «الإسرائيليون» والسعوديون كما قالوا من قبل، إنّ التفاهم النووي كارثة تاريخية ليس لأنه يختصر طريق امتلاك إيران للقنبلة النووية، بل لأنه يحرّر إيران من كلّ العقوبات ويحقق لها الانفراج الاقتصادي والشرعية السياسية والقانونية والديبلوماسية ويرضى الغرب بكلّ ذلك ويوقّع، بينما إيران لم تغيّر حرفاً في كتابها الإقليمي، فلا زالت تجاهر بالعزم على إزالة «إسرائيل» من الوجود، ودعم حزب الله والتمسك بالتحالف مع سورية واعتبار الرئيس الأسد خطاً أحمر، ودعم الحوثيين في اليمن، وكلّ قوى المقاومة، ورغم معرفة الغرب بأنّ حلفاءه سيدفعون ثمن هذه الخيارات في مواجهة لم تنته ولم تتوقف مع إيران، بموجب التفاهم النووي، لأنّ إيران انتزعت التفاهم بشرط عدم ربطه بأيّ من الملفات الإقليمية، فإنّ جولات المواجهة المقبلة ستكون في وجه إيران أقوى من قبل وفي وجه حلفائها وقد زاد دعمها لهم وخفّ ضغط الغرب عليها.
تمّ التوقيع وانتهت المراهنات وبدأ كشف حساب الرابحين والخاسرين، فلا ملاحق للتفاهم تطاول مصير الملفات الإقليمية، ولا تنازلات قدّمتها إيران من حساب حلفائها.
لبنانياً هذا يعني أنّ حزب الله القوي سيصير حزب الله الأقوى، وانّ العماد ميشال عون المرشح القوي سيصير المرشح الأقوى، وانّ التفاهم النووي اللبناني يعني أنه كما ولد اتفاق الطائف من رحم سقوط الاتحاد السوفياتي وعملية مدريد للسلام وعاصفة الصحراء الأميركية، سيولد من رحم المرحلة الجديدة مع روسيا الصاعدة وإيران العظمى وسورية المتعافية وحزب الله القوي لبنان جديد فيه رابح وخاسر والخاسر الأكبر هو من يقف في طريق ولادة هذا اللبنان الجديد.