«البناء» تنشر فصولاً من كتابي د. بشار الجعفري «سياسة التحالفات السورية 1918 ـ 1982» ود. عادل سمارة «تحت خط 48 ـ عزمي بشارة وتخريب دور النخبة الثقافية»

نشرت البناء على مدى 3 حلقات فصولاً من كتاب الدكتور بشار الجعفري «سياسة التحالفات السورية 1918 1982»، وتنشر بدءاً من اليوم وعلى مدى 3 حلقات أخرى فصولاً من القسم الثاني من الكتاب وذلك أيام الخميس والجمعة والسبت من الأسبوع الجاري، إضافةً إلى حلقات مماثلة تتعلق بكتاب الدكتور عادل سمارة «تحت خط 48 عزمي بشارة وتخريب دور النخبة الثقافية».

أما كتاب الدكتور بشار الجعفري يقسم إلى قسمين أساسيين:

القسم الأول يحتوي على بابين هما: المؤثرات الداخلية وتتعلق بالأنشطة السياسية الداخلية والأحزاب السياسية، وأما الباب الثاني فيحتوي على المؤثرات الخارجية في شقّيها الأثر الاستعماري الغربي والواقع «الإسرائيلي».

أما القسم الثاني فيتعلق بالتطبيق العملي لسياسة التحالفات السورية، موزّعاً على أبواب ثلاثة هي: التحالف المتكافئ اتحاد سورية والعراق ـ التحالف المتكافئ والانصهار سورية ومصر ـ التحالف غير المتكافئ سورية والاتحاد السوفياتي ، إضافةً إلى خاتمة.

اختارت «البناء» من الكتاب أن تعرض بعضاً من الباب الأول في القسم االثاني «التطبيق العملي لسياسات التحالف السورية» وخصوصاً في الفصل الثالث «اختبار التقارب». إذ يعرض الكاتب إلى المرحلة الممتدة ما بين 1961 و1975 وما جرى خلالها من صراعات على السلطة خصوصاً في دمشق وبغداد وما رافق ذلك من فترات تفاهم وتنسيق وأيضاً من فترات الصراع والخصومة.

الكاتب هو الدكتور بشار الجعفري مندوب الجمهوري العربية السورية في الأمم المتحدة، صاحب الكفاءة العلمية والدبلوماسية المتميزة.

أما الكتاب فهو مرجعية سياسية تاريخية تتعلق بمرحلة مهمة من مراحل التاريخ السوري من وجهة نظر الكاتب. وقد تناول الجعفري عبرها أكثر المواضيع أهمية وخطورةً على الصعيد الاستراتيجي المتعلق بموقع سورية الطبيعية وأثرها على الخريطة الجغرافية السياسية في هذا الجزء من العالم، إضافةً إلى درس المحطات التاريخية التي شكّلت تحوّلات نوعية في مسار السياسة السورية.

«سياسة التحالفات السورية 1918 1982 » للدكتور بشار الجعفري

محاولات التقارب وصراع الأحلاف 1961 – 1975

في هذا العدد يعرض الكاتب مسار التطوّرات والتحالفات السياسية، وكذلك الأحلاف التي قامت بعيد تفكّك الجمهورية العربية المتحدة عقب انقلاب مأمون الكزبري عام 1961، وما جرى بعد ذلك من صراعات، خصوصاً بين الكيانين التوأمين الشام والعراق حتى عام 1975.

والحقيقة أننا اخترنا هذا الفصل من الباب الأول من القسم الثاني فصل «اختبار التقارب»، لما فيه من وقائع تشكل معرفتها قيمة ينبغي الاستعانة بها لفهم المسارات السياسية على مدى سورية الطبيعية، وتأثير هذه المسارات على مجمل السياسة العربية إضافةً إلى إبراز عظمة النتائج المترتبة عن تقارب هذين الكيانين وحدةً أو تنسيقاً.

ثمة أسئلة تثيرها الوقائع الواردة، ومنها ما تعلق بموقف المملكة العربية السعودية الثابت والمعادي دائماً لأي إجراء من شأنه أن يعزّز قدرات دمشق القيادية، وأيضاً معارضة مصر الدائمة لأي تقارب سوري عراقي.

إنها أسئلة يأتي جوابها في فهم حقيقة الجيوبوليتيك لسورية الطبيعية، ومفاعيل ذلك على مجمل الحركة السياسية العربية.

بعد تفكك الجمهورية العربية المتحدة وحدوث القطيعة بين إقليميها، سوريا ومصر، التفت القادة الانفصاليون الجدد في دمشق صوب بغداد لإحداث التوازن، لا سيما مع عودة حزب الشعب للسلطة وانتخاب «ناظم القدسي» لرئاسة الجمهورية و«مأمون الكزبري» لرئاسة المجلس تغير رؤساء الحكومات في عهد الانفصال ثلاث مرات، آخرهم خالد العظم . سرعان ما وقّع البلدان اتفاقاً للتعاون الاقتصادي بتاريخ 2 تشرين الثاني نوفمبر 1961. وبعد أشهر، جرى لقاء بين رئيسي الجمهورية في بلدة «الرطبة» العراقية بتاريخ 26 آذار مارس 1962، وقام وفد عراقي بزيارة دمشق بين 10 و18 حزيران يونيو حيث جرى التوقيع على اتفاقيات اقتصادية جديدة تنص على إلغاء الحواجز الجمركية بين البلدين بشكل تدريجي. وفي الثامن من شباط فبراير 1963 قام العقيد «عبدالسلام عارف»، بمساندة من حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق، بانقلاب عسكري دموي ضد حكم «عبدالكريم قاسم».

جاء الانقلاب البعثي في العراق في أسوأ توقيت ممكن للحكم في سوريا. كانت الحكومة السورية في مرحلة ضعف بسبب مرض رئيسها «خالد العظم»، واعتكافه عن العمل بسبب مناهضته تدخل العسكريين في السياسة، واستقالة ستة وزراء. وانتقد «الحوراني» آداء الحكومة، داعياً لتشكيل حكومة «تقدمية» تقف إلى جانب حكم «قاسم» التقدمي في العراق. وشاءت دمشق التودد لحكم بغداد الجديد، فاعترفت فورا ًبالحكومة العراقية الجديدة، وقال وزير خارجيتها «محاسن» بهذه المناسبة: «لم يعد هناك شيء يحول، من الآن فصاعداً، دون إقامة اتحاد فيدرالي مع العراق يكون نواة لاتحاد جميع الدول العربية». غير أن أصحاب الانقلاب العراقي رفضوا التجاوب مع دمشق، وذهبوا، عوضاً عن ذلك، إلى القاهرة بتاريخ 22 شباط فبراير لمشاركة عبدالناصر في الاحتفال بذكرى الوحدة السورية – المصرية، وأصدروا إعلاًنا مبطناً مع عبدالناصر ينوه بقرب نهاية «النظام السوري». وجرى الإعداد لمشروع اتحاد بين مصر والعراق والجزائر واليمن مع استبعاد سوريا منه. وبقي الوضع قائما ًعلى حاله لغاية 8 آذار مارس 1963 عندما سيطر حزب البعث العربي الاشتراكي على الحكم في سوريا.

حينها أعلن العراق حالة الاستنفار بين قواته لدعم الحكم الجديد في دمشق، وقام وفد عراقي عالي المستوى يضم في عضويته النائب الأول لرئيس الوزراء «علي صالح السعدي» ووزيري الدفاع والخارجية بزيارة العاصمة السورية بتاريخ 10 آذار مارس 1963، حيث جرى فتح المجال أمام سوريا للانضمام إلى المشروع الوحدوي الذي كان قيد الدرس في القاهرة 22-21 شباط/ فبراير1963 . ويضم المشروع ثلاث نقاط أساسية: إنشاء قيادة عسكرية وقيادة عليا سياسية موحدتين، وحق التدخل العسكري المتبادل للدفاع عن الحكومات الثلاث الموقعة على المشروع في حال تعرضها للمؤامرة تهدف الإطاحة بها. ثم أعلن السعدي بتاريخ 16 آذار مارس تبنّي مبادئ عامة متعلقة بالاتحاد.

بعد ذلك، استؤنفت المحادثات في القاهرة بين 7 نيسان أبريل و17 نيسان، وأنهى الخبراء إعداد مشروع الاتحاد الثلاثي ضمن هيكلية الجمهورية العربية المتحدة التي كانت قائمة نظرياً. وجرى الإعلان عنه: بعد تبني فكرة الاتحاد من خلال تنظيم استفتاء شعبي في كل من البلدان الثلاثة الموقعة، سيأخذ شكلاً فيدرالياً مع انتخاب رئيس خلال مهلة خمسة أشهر، وفترة انتقالية تستمر عشرين شهراً بهدف توحيد المجالات السياسية والمالية والاجتماعية للبلدان الثلاثة، أي أن الوحدة ستطبق تدريجياً وتكتمل بحلول شهر أيار مايو 1965.

لكن المحاولات الانقلابية الموالية للناصريين في كل من العراق 23 أيار/ مايو 1963 وسوريا 18 تموز/ يوليو 1963 أدت لإجهاض المشروع، بالرغم من قيام الرئيس العراقي «عارف» بزيارة مصر وسوريا في آب أغسطس وأيلول سبتمبر 86 .

انبرت سوريا للاقتراح على العراق تنفيذ الاتحاد بين البلدين البعثيين أولاً بدون مشاركة مصر، لا سيما وأن حملة مشابهة انطلقت في بغداد ضد الناصريين قادها «علي صالح السعدي» من موقعه كوزير للداخلية، إذ قام وفد سوري برئاسة وزير الداخلية «نور الدين الاتاسي» بزيارة بغداد، ولاقت الفكرة قبولاً لدى العراقيين، فصدر بيان مشترك عن الجانبين يحدد تاريخ الاستفتاء الشعبي في17 أيلول سبتمبر 1963. وكان رئيس الوزراء «صلاح الدين البيطار» قد زار بغداد بتاريخ 16 تموز يوليو ، ثم قام بزيارة أخرى بين 6 و9 آب أغسطس وأرسلت سوريا لواء عسكرياً لمساعدة القوات العراقية على مواجهة المتمردين الأكراد.

وعلى إثر زيارة الرئيس العراقي «عارف» للعاصمة السورية في الثاني من أيلول سبتمبر 1963 صدر بلاغ مشترك يعلن فيه الجانبان تشكيل لجنة عسكرية وإحداث مجلس اقتصادي مشترك لتسريع مسيرة توحيد البلدين. وبتاريخ 8 تشرين الأول أكتوبر أعلن الرئيس العراقي تشكيل مجلس دفاع أعلى برئاسته. لكن الوضع عاد للتأرجح مجدداً عندما قام وفد سوري عالي المستوى بزيارة بغداد، وخلال الزيارة حدث خلاف بين المتصلبين والمعتدلين في جناح حزب البعث العراقي، ورفع الخلاف للتحكيم أمام القيادة القومية للحزب. وبعد أيام عدة قام «عارف» بإقصاء البعثيين عن السلطة بهدف وضع حد لتدخلات الوحدويين في السياسة العراقية. عاد الوفد السوري فوراً إلى دمشق 87 ، وأعلن مجلس قيادة الثورة السوري تنديده بـ«الانقلاب» في بغداد. إلّا أن القطيعة لم تستمر طويلاً، واقترحت الحكومة السورية بتاريخ تشرين الثاني نوفمبر على الحكومة العراقية مساعدة عسكرية وفقاً للاتفاقات الموقعة بين البلدين، فرفضت بغداد العرض بتاريخ 27 تشرين الثاني نوفمبر ، وتلا ذلك استدعاء دمشق للواء السوري الذي أرسل في شهر تموز يوليو لدعم الوحدات العسكرية العراقية ضد المتمردين الأكراد بقيادة الملّلا «مصطفى البرزاني». ثم ألغت دمشق بتاريخ 28 نيسان إبريل 1964 الاتفاق العسكري الموقّع بين البلدين بتاريخ 9 تشرين الأول أكتوبر 1963. وخلال السنوات الثلاث التالية شهدت العلاقات السياسية بين البلدين، فتوراً واضحاً مع الإبقاء على بعض أوجه التعاون الاقتصادي، بفضل المؤسسات الاقتصادية التي تم استحداثها في الجامعة العربية وهي:

– المجلس الاقتصادي العربي في 30 أيار مايو 1964.

– السوق العربية المشتركة في 31 آب أغسطس 1964.

استدعت العاصمتان سفيريهما وبدأت حرب الإذاعات. العراق ينعت المسؤولين السوريين بـ«المراهقين السياسيين الانحرافيين»، وسوريا توصم حكم «عارف» بأنه «رأسمالي وديكتاتوري ورجعي» 88 . ثم أتاحت عودة النظام المدني في العراق بتاريخ 21 ايلول سبتمبر 1965 حدوث تقارب جديد بين العاصمتين، ودعمت دمشق بتاريخ 5 كانون الثاني يناير 1966 العراق في نزاعه مع إيران حول «شط العرب»، فيما اقترحت بغداد في الأول من أيلول سبتمبر 1966 عقد اجتماع استثنائي لمجلس الدفاع العربي المشترك لمساندة سوريا إزاء التهديدات الإسرائيلية المتكررة. واستؤنفت في الوقت نفسه المحادثات المشتركة حول «سد الطبقة» والاستثمار المشترك لمياه الفرات دون أن تتكلل بالنجاح.

وعلى الرغم من النزاع الخفي بين حزب البعث العربي الاشتراكي في دمشق الذي سيطر جناحه المتشدد على السلطة بتاريخ 23 شباط فبراير 1966 والحكم في بغداد، بقيت سياسة التقارب بين البلدين تتعزز باستمرار، تشجعها الانقسامات التي تفجرت على الساحة العربية بين المحافظين والمتصلبين إثر إلغاء القمة العربية المقترحة في الجزائر في أيلول سبتمبر 1966.

وكان «عبد الرحمن البزاز» رئيس الوزراء العراقي، قد انبرى في 17 تموز يوليو 1966لاقتراح قيام اتحاد بين مصر وسوريا والعراق على أساس اتفاق 17 نيسان أبريل 1963. ولكن بعد توقيع سوريا على ميثاق الدفاع العسكري المشترك مع مصر بتاريخ 4 تشرين الثاني نوفمبر 1966، عاد العراق ليذكر بأن ميثاق الدفاع المماثل الذي وقعته دمشق مع بغداد العام 1963 ما زال ساري المفعول. وبعد مضى شهر على ذلك، أعلن رئيس أركان الجيش العراقي في 6 كانون الأول ديسمبر أن القوات العراقية تحتشد على الحدود، وجاهزة للتدخل بأمر من القيادة العسكرية الموحدة، في حال وقوع عدوان إسرائيلي على سوريا. في تلك الأثناء اكتسى الخلاف الناشب بين دمشق وشركة نفط العراق طابعاً رمزياً، وعلى الرغم من الضغوط الرهيبة التي مورست على سوريا آل الخلاف إلى انتصار الموقف السوري، فكان الانتصار شبيهاً بالخطوة التي أقدم عليها «ناصر» العام 1956 بتأميم قناة السويس 89 .

حاكى تصلب الفريق الحاكم في سوريا إزاء إسرائيل، الانغلاق المفروض على القوى السياسية السورية الأخرى الموزعة بين أقصى اليمين وأقصى اليسار: اشتراكيون وحدويون ناصريون واشتراكيون حورانيون نسبة إلى أكرم الحوراني وأنصار القيادة القومية في حزب البعث والإخوان المسلمين وحزب الشعب بزعامة «القدسي» و«الكيخيا» والحزب الوطني بزعامة «العسلي» وبعض الزعماء المستقلين غير المنتمين لأي حزب، لكنهم يتفاعلون مع الحياة السياسية في البلاد 90 .

وعلى الرغم من ضعفه، اعتبرت الجماهير الشعبية العربية الحكم السوري كأحد الأنظمة العربية الأكثر تقدمية في الوطن العربي. ولم تفت تلك الحقيقة الإسرائيليين الذين خصوا السوريين بهجومهم الأكثر عنفاً، وأدرك الإسرائيليون أن الوقت مناسب للهجوم على سوريا، لا سيما وأن فشل التمرد الذي قاده الرائد «سليم حاطوم» ضد اللواء «صلاح جديد» أدى إلى القيام بحملة تطهير في صفوف الجيش السوري، أسفرت عن تسريح مئات الضباط من أصحاب الخبرة العسكرية.

في الخامس عشر من أيلول سبتمبر 1966 صرح «إسحق رابين»، رئيس الأركان الإسرائيلي، قائلاً: «لا يجب أن تقوم قائمة للنظام السوري الحالي…». كانت الحكومة الإسرائيلية، تماماً كما كان حالها العام 1956، تعرف في شهر حزيران يونيو 1967 أن مصالحها تتطابق مع مصالح الغرب تطابقاً كاملاً. وسعت الولايات المتحدة الأميركية، من ناحيتها للقضاء على «النظام السوري» كما فعلت مع المعارضة الديمقراطية في اليونان. وهكذا كانت حكومة تل أبيب على دراية كاملة بأنها إذا انطلقت لمهاجمة النظام السوري سوف تحصل على الحماية الأميركية. ولم يكن الغرض من العدوان الإسرائيلي بتاريخ حزيران يونيو 1967، احتلال الهضاب في الجليل حيث يتسلل الفدائيون الفلسطينيون، بل إسقاط «النظام السوري» في دمشق 91 .

قبل أيام عدة من اندلاع الحرب، زار وفد عسكري عراقي دمشق بتاريخ 20 أيار مايو 1967، وأسفرت الزيارة عن إرسال قوات عراقية، شاركت إلى جانب القوات السورية في التصدي للعدوان الإسرائيلي. لكن قرار القمة العربية في الخرطوم في أيلول سبتمبر 1967 برفع الحظر عن استخدام سلاح النفط، وموافقة العراق على توصيات الجامعة العربية، دفعت بسوريا لمعارضة التوصيات ومقاطعة القمة مع إبقاء علاقتها قائمة مع العراق، وموافقتها على إعادة ضخ النفط العراقي عبر أراضيها بتاريخ 18 نيسان أبريل . وقام الرئيس السوري «نور الدين الأتاسي» بزيارة بغداد بين 11 و13 آب أغسطس ثم في 26 أيلول سبتمبر 1967 وجرى التوقيع على اتفاق تعاون صناعي وفي 23 أيار مايو 1968 جرى التوقيع في دمشق على ميثاق الدفاع العسكري المشترك بين البلدين. وعندما حدث الانقلاب في العراق بتاريخ 17 تموز يوليو 1968، ووصل «أحمد حسن البكر» إلى السلطة في بغداد، لم يحرك الجناح المتشدد لحزب البعث الحاكم في سوريا ساكناً، مع أن «البكر» تمنى الإبقاء على علاقات جيدة مع دمشق. لكن حملة الاعتقالات في صفوف الحزب والحكومة العراقيين والتي استهدفت المؤيدين للتقارب مع سوريا، أثارت موجة انتقادات واضحة لدى السوريين.

بلغ التوتر ذروته لدى اغتيال «عبدالكريم نصرت» في بغداد بتاريخ 29 كانون الثاني 1969، إذ فسرت دمشق الاغتيال على أنه يستهدفها، واعتبرته عملاً عدوانياً ضدها. وفي شهر شباط فبراير حصلت أزمة داخل حزب البعث أسفرت عن إثارة التوتر من جديد بين البلدين. إذ شهد الحزب مجابهة بين اتجاهين: القوميون بقيادة وزير الدفاع حافظ الأسد ورئيس أركان الجيش «مصطفى طلاس» وبعض الحزبيين المدنيين من جهة، والراديكاليين بقيادة الرئيس «نور الدين الأتاسي» الذي يشغل في الوقت نفسه منصب الأمين العام للحزب، والأمين العام المساعد للحزب «صلاح جديد» من جهة ثانية. وسبب الخلاف بين الجناحين تأييد القوميين للتقارب مع العراق ومعارضة الراديكاليين لذلك.

لم يصل الخلاف إلى حد القطيعة بسبب الخطر الإسرائيلي الذي تمثل بغارة جوية على معسكر فلسطيني في ضواحي دمشق. إثر الغارة تم إعداد لائحة مطالب في مقدمها، تشكيل قيادة عسكرية موحدة مع العراق والأردن وافق المتصلبون عليها. وفي الخامس من آذار مارس 1969 التقى «مصطفى طلاس» بنظيريه العراقي والأردني في بغداد، وتم التوقيع على اتفاق يقضي بإحداث «جبهة شرقية» وقيادة عسكرية موحدة لجيوش البلدان الثلاثة. وفي الخامس عشر من آذار مارس أرسل العراق 600 جندي عراقي إلى الجبهة السورية جرى تجميعهم في مدينة درعا الواقعة على الحدود السورية الأردنية. وتعهد العراق بعدم تدريب المعارضين السوريين على أراضيه، مقابل التزام دمشق بوقف هجومها الإعلامي على الحكم في بغداد. تلا ذلك، التوقيع في مدينة الموصل بتاريخ 21 آذار مارس على اتفاق لمكافحة التهريب والمرور غير المشروع عبر الحدود بين البلدين، ثم التوقيع على اتفاق آخر للتعاون الاقتصادي يشمل كلاً من العراق وسوريا ومصر في مدينة بغداد بتاريخ 11 أيار مايو 1969 . أيدت سوريا العراق في قراره بإلغاء المعاهدة العراقية – الإيرانية بشأن «شط العرب» بتاريخ 24 أيار مايو 1969. ثم جلس السوريون إلى جانب العراقيين في اجتماع ثلاثي نظمه الرئيس «ناصر» في القاهرة، بغية التنسيق بين دول المواجهة. وتم التوصل بتاريخ 3 شباط فبراير 1970 إلى اتفاق لإنشاء لجنة دائمة للتنسيق الاقتصادي بين مصر وسوريا والعراق. وفي الفترة من 17 لغاية 25 شباط فبراير 1970 انعقد المؤتمر القومي العاشر للحزب في بغداد، وأقر في ختام أعماله إرادته بتحسين العلاقات مع دمشق بشكل ملحوظ، مؤكدا ًتمسكه بسياسة «الجبهة القومية»، ولم يشارك أي عسكري عراقي في أعمال المؤتمر. من الضروري التذكير هنا أن الموقف العراقي إزاء سوريا تبلور بذلك الشكل الإيجابي بعد فشل محاولة تركيا التوسط بين بغداد وطهران في شباط فبراير 1970 93 . ثم أدى إعلان مشروع «روجرز»، وزير الخارجية الأميركي آنذاك، عن التسوية الجزئية بين مصر وإسرائيل في 19 حزيران يونيو 1970 لإثارة رد فعل سلبي في كل من سوريا والعراق. وأرسل العراق لتلك الغاية وفدين إلى العاصمة السورية في 9 تموز يوليو و13 آب أغسطس .

2 – السياسة الواقعية:

أثارت «الحركة التصحيحية» التي قام بها وزير الدفاع السوري «حافظ الأسد» في السادس عشر من شهر تشرين الثاني نوفمبر 1970 رد فعل حذر في بغداد، مع أنها أوصلت إلى السلطة في سوريا رجالا ًمن أنصار التعاون الموسع مع العراق. وقد أسرعت القيادة السورية الجديدة فور تسلمها سدة الحكم، باتخاذ إجراءات التقارب الاقتصادي مع العراق. وتم بتاريخ 23 تشرين الثاني نوفمبر إلغاء القيود التي تحصر المبادلات التجارية بين البلدين. وبعد ذلك بعدة أشهر، وخلال دورات اللجنة الاقتصادية المشتركة السورية العراقية التي جرت في بغداد في 30 و31 آذار مارس 1971، اتخذ الطرفان قراراً بتعزيز المبادلات التجارية وإنشاء خط حديدي بين مدينتي بغداد والبو كمال على الحدود السورية العراقية. وفي نيسان إبريل قرر البلدان إنشاء خط أنابيب لنقل النفط يصل بين حقل رميلة العراقي وميناء طرطوس السوري وتنسيق سياستي البلدين النفطية.

وبتاريخ 2 حزيران يونيو 1972 قام العراق بتأميم ممتلكات شركة نفط العراق، فأسرعت الدولة السورية، بدورها، لاستملاك منشآت الشركة الموجودة ضمن الأراضي السورية. اكتسى الإجراء السوري العراقي المزدوج أهمية خاصة لأنه تعرّض لمصالح أقدم شركة نفط غربية في المنطقة العربية تسيطر عليها رؤوس أموال إنكليزية وفرنسية وأميركية. ومع أن الحكومة العراقية رفضت من ناحية المبدأ دفع تعويضات للشركة، إلا أنها عادت ووافقت على ذلك، بموجب تسوية تم التوصل إليها في باريس بتاريخ 18 حزيران يونيو 1972، وتقضي بتقديم العراق شحنات نفطية للشركة الأجنبية.

تفاعل تأميم أملاك شركة نفط العراق بشكل خطر في العاصمتين العراقية السورية، إذ طلبت دمشق مضاعفة رسوم الضخ على البترول العراقي الذي يجتاز الأراضي السورية، بينما امتنعت بغداد عن القبول وعلقت مدفوعاتها. ولم يتم التوصل إلى تسوية إلّا بتاريخ 18 حزيران يونيو 1973 عندما جرى التوقيع في دمشق على اتفاق لتطوير قدرة مصافي النفط السورية الواقعة على البحر الأبيض المتوسط، وذلك بعد سلسلة زيارات متبادلة بين البلدين قام بها وزير الخارجية السوري «عبدالحليم خدام» إلى بغداد في 23-20 تشرين الأول أكتوبر 1972، ونائب وزير المالية العراقي «هشام غازي» إلى دمشق في 17-6كانون الأول ديسمبر 1972، ثم وزير الخارجية العراقي «مرتضى سعيد عبدالباقي» في 18-9 كانون الثاني يناير 1973 .

حاول العراق وسوريا عبثاً التوصل، في الوقت نفسه، إلى تسوية خلاف اقتصادي آخر بينهما يتعلّق باقتسام مياه نهر الفرات. وبغض النظر عن هذين الخلافين، بقيت العلاقات الاقتصادية جيدة بين البلدين لغاية العام 1975، لا بل عادت الحرارة إليها عشية حرب تشرين الأول أكتوبر 1973، وخلال زيارة قام بها وزير الصناعة السوري إلى بغداد بين 22 و26 تشرين الأول أكتوبر 1974 وقع البلدان على اتفاق بإنشاء منطقة تجارة حرة بينهما، كما تعهد العراق بتمويل مشاريع صناعية سورية.

لكن العلاقات السياسية كانت مغايرة تماماً، فقد تميزت بالبرود والفتور، وسعى العراق الذي كان يعارض بشدة القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن بخصوص الصراع العربي الإسرائيلي لاستمالة دول عربية أخرى إلى رفضه المتشدد، مع نهاية العام 1971، مركزاً جهده الرئيسي على سوريا. إذ قام «عبدالله خضيري» وزير خارجية اتحاد الجمهوريات العربية كان يضم سوريا، مصر وليبيا بزيارة دمشق في الفترة من 7-6 تشرين الثاني نوفمبر لتنشيط التنسيق بين دول الجبهة الشرقية من دون أن تسفر زيارته عن تحقيق أي شيء ملموس. وبعد ذلك بعدة أشهر أعلن الملك الأردني «حسين» بتاريخ 15 آذار مارس 1972 عن مشروعه لإنشاء «المملكة العربية المتحدة»، فتصدت له فوراً القاهرة ودمشق، واستغل نائب رئيس مجلس قيادة الثورة العراقي «صدام حسين» تلك المناسبة، فقام بزيارة العاصمة السورية في الفترة من 21 26 آذار مارس 1972، حيث استقبله الرئيس «حافظ الأسد». واقترح الضيف العراقي، خلال الزيارة، إقامة اتحاد سوري عراقي مفتوح أمام مصر أيضاً، فوعده الرئيس السوري بعرض المشروع على المجلس الرئاسي لاتحاد الجمهوريات العربية الذي تأسس في طرابلس الغرب بتاريخ الأول من أيلول سبتمبر العام 1971، ويضم في عضويته مصر وسوريا وليبيا.

ولدى نشوب حرب 6 تشرين الأول أكتوبر العام 1973 شاركت وحدات عراقية عسكرية بالقتال على الجبهة السورية ضد إسرائيل، لكن القيادة العراقية استدعتها فورا بعد إعلان وقف إطلاق النار واعتماد مجلس الأمن للقرار 338، وقاطعت القمة العربية التي انعقدت في الجزائر في الفترة من 28-26 تشرين الثاني نوفمبر .1973 ودفع رفض سوريا بتاريخ 18 كانون الأول ديسمبر 1973 المشاركة في مؤتمر جنيف للسلام الرئيس العراقي «أحمد حسن البكر» إلى معاودة الاتصال بالأسد، وتقديم مساعدة مالية لسورية لتعويض خسائر الحرب. ولم يصدر عن العراق أي انتقاد لاتفاق فصل القوات بين سوريا وإسرائيل في الجولان السوري المحتل الذي تم التوقيع عليه بتاريخ 31 أيار مايو 1974 برعاية الأمم المتحدة، ونشرت بموجبه قوات الأمم المتحدة لمراقبة فصل القوات والمعروفة اختصارا باسم «إندوف».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى