دعوى

جافاني زماني وضاقت بي السبل. لم يبقَ لديّ سوى شريط ذكريات أستعرضه بين حين وحين. ما عاد هناك في الحياة من جديد. قرّرت الرحيل إلى البعيد، إلى مستقبل ضاع في بلدي بفعل الخفافيش حزمت أمري… حتماً سآخذ معي شتلة ياسمين فلم أعتد الصباحات في بلدي من دون أن يكون فيها شريكاً. ولكن كيف سأرويها بماء معلّب بدل الماء السلسبيل؟!

أشفقت على نفسي عندما أشفقت على شتلة الياسمين من ضياع رونقها وشذاها في بلد غريب بعيد، وقلت صبراً، لا بدّ أن مستقبلي مهما طال إدراكه أفضل في وطني وطن الياسمين.

أثقل كاهلها شقاء العمر، فأعاد تشكيل جسدها من جديد. وجه خطّت عليه بقساوة السنين، وظهر أحنته من دون رأفة. قدماها تتهالك بمشيتها وكأنها لم تألف يوماً المسير. يداها ترتجفان وقد نبضت فيها العروق من شحّ لحم يكسوها. استغربت وجودها في قصر العدل وسألت ما خطبها؟ قالوا: أتت تحتكم للقاضي عقوق ولد تمنّت لو أنها كانت عاقراً ولم تنجبه ليتركها، وقد وصلت أرذل العمر تعاني ما تعانيه. أشفقت لحالها، وأنا التي لم يخطر في بالي يوماً أن في الحياة مثل هذه الصور في الجحود ونكران الجميل. لكنّ حزني الأكبر كان على ابن لم يحسب في عمره حساباً لمصير أسود ينتظره في قادمات السنين.

سيّدي القاضي، جئت إلى عدلكم مدّعية على من سلب منّا حرّيتنا وأمننا وأماننا. والادّعاء بموجب وكالة عامة أصالة عن نفسي وبالوكالة عن أبناء جيلي في وطني الحبيب سورية، وأعرض لكم فيه ما يلي: منذ أربع سنوات تقريباً، دهم غرباء أرض الوطن زاعمين أنهم طلاب عدل وحرّية, وأخذوا يعيثون فيه خراباً. سال دم الأبرياء وانتشرت الأشلاء، وسقط الجرحى بالمئات. سرقوا آثارنا ومصانعنا وأتوا على معظم أوابدنا الأثرية. اغتالوا العلماء وقتلوا الأطفال واعتدوا على الحرمات تحت مختلف المسمّيات. زعموا يا سيدي أن هناك رأياً آخر علينا أن نحترمه وبذلك نكون معهم وإلا فنحن ضدّهم. جعلونا نتوق لحرّيتنا الحقيقية. صار الهمّ عندنا البحث عن الأمان الضائع الذي كان بلدنا مضرب المثل فيه. تشبثنا بتراب الوطن وقرّرنا أن نستظلّ بسمائه فلا نغادره. أصبحنا نتمنّى التجوّل في شوارعه وحاراته من دون خوف من القذائف والتفجيرات. جئت إليك يا سيدي القاضي أشكو الظلم الذي لحق بالبلاد والعباد، وجلّه كان ممّن كنّا نعتقدهم أحباباً وأشقاء. وأنت العالم أن ظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة. اليوم صار الواحد منّا يشعر بذنبٍ إذا حصل على أقل القليل من خيرٍ كان يعيش فيه قبل هذه السنوات العجاف، لأن جاره غير قادر على تأمين هذا القليل. فأكثر الضرورات أصبحت اليوم في عداد الكماليات. انظر يا سيّدي إلى ما آلت إليه الأحوال. فإلى متى؟ لم نعد نحتمل دعاة الحرّية و جرائمهم وافتراءاتهم. لم نعد نحتمل هذه الحرب الضروس التي لم تبق ولم تذر من الخيرات إلا ما نذر. ومن الأرواح إلا كل ذي عمر طويل. لذلك يا سيدي القاضي جئتكم باستدعائي طالبة إنزال أشد العقوبات على كل معتد آثم سارق الخيرات العميمة، وقاتل الأرواح الكريمة، وكلّ خائن وبالوطن العزيز كافر. وفي حكمكم العدل… سيّدي!

رشا مارديني

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى