مصر السيسي ستنشغل بنفسها طويلاً…
د. عصام نعمان
شعب مصر فاجأ عبد الفتاح السيسي بعدم الإقبال بكثافة على صناديق الاقتراع. السيسي وفريقه كانا يتطلعان إلى نسبة مئوية من التصويت لا تقلّ عن 80 في المئة. مرأى الملايين الثلاثين الثائرين ضدّ محمد مرسي في الثلاثين من يونيو/حزيران 2013، الهاتفين بسقوطه مع الإخوان المسلمين في شوارع المدن وساحاتها العامة، ما زال حاضراً في مخيّلة السيسي وأركان حملته الانتخابية. فوزه بنسبةٍ تقلّ عن 50 في المئة ممّن لهم الحق بالانتخاب خالطه، اذاً، شعور بالإحباط.
ليس السيسي الشخص من فاز بالرئاسة بل السيسي الرمز أو الرامز إلى القوات المسلحة. الأصحّ القول إنّ الدولة العميقة بقيادة الجيش هي التي فازت. كانت دائماً تفوز لأنّ مصر هي هبة النيل والدولة العميقة معاً.
حكام مصر، ملوكاً ورؤساء، باستثناء مرسي، يرمزون بدرجات متفاوتة من الحضور والفعالية إلى الدولة العميقة. مرسي والإخوان المسلمون سقطوا لأنهم حاولوا السيطرة على مواقع مفتاحية في الدولة العميقة على حساب القوات المسلحة. مَن يقبض على ناصية الدولة العميقة يقبض على مصير مصر. النيل والدولة العميقة حقيقتان خالدتان في تاريخ مصر.
شعب مصر جزء من الدولة العميقة. لم يشكّل حتى «ثورة 25 يناير» لعام 2011 كياناً مستقلاً. بعد الثورة أصبح لاعباً مؤثراً وعصّياً، أحياناً، على أجهزة الدولة العميقة. لكنه لم يتطوّر بعد إلى مستوى كيان مستقلّ عنها بإرادته ورموزه ومؤسسات مجتمعه المدني. سيمّر زمن طويل قبل أن يتمكّن شعب مصر، بتجاربه السياسية والاجتماعية المنفتحة على الديمقراطية، من أن يصبح كياناً ولاعباً مستقلاً ومؤثراً في الحياة العامة.
كيف عبّر شعب مصر، من خلال كتلته الناخبة، عن إرادته ومطالبه في انتخابات الرئاسة؟
ثمة مؤشرات لافتة في هذا المجال أبرزها خمسة:
أولها، أنّ موجة الرفض للإخوان المسلمين ما زالت قوية وجارفة. الدليل؟ أكثر من 23 مليون مصري صوتوا للسيسي الذي كان قام، تنفيذاً لإرادة ملايين المصريين الذين تظاهروا في 30 حزيران 2013 ضد حكم مرسي والإخوان، بطرد هؤلاء جميعاً من السلطة في 3 يوليو/ تموز الماضي.
ثانيها، أنّ الدافع الرئيس لدى غالبية الناخبين المصريين كان الرغبة الجارفة في استعادة الأمن. عضو المجلس القومي لحقوق الانسان جورج اسحق عبّر بصدق عن هذا الاتجاه الجارف بقوله: «المصريون صوّتوا للمشير عبد الفتاح السيسي من أجل استعادة الامن والاستقرار للبلاد».
ثالثها، تدني نسبة المشاركة في التصويت إذ ظلّت، رغم كلّ حملات التعبئة التي نظمها أنصار السيسي وحمدين صباحي، دون الـ 50 في المئة من مجموع المؤهّلين للتصويت. نائب رئيس «مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية» وحيد عبد المجيد ردّ ضعف المشاركة إلى «حالة فقدان الثقة» التي يعانيها الشعب المصري. كشف عبد المجيد أيضاً «أنّ عدد الذين شاركوا في التصويت خلال اليومين الأولين للانتخابات كان تقريباً العدد ذاته الذي شارك في الاستفتاء على الدستور» 38 في المئة في يناير/كانون الثاني الماضي ، مشيراً إلى أن بعض «فئات المجتمع أصابها الإحباط وقررت عدم المشاركة».
رابعها، أنّ الناصريين كانوا منقسمين على أنفسهم، فلم يؤيد كلّ قياداتهم حمدين صباحي، بل إن الجمهور الناصري غير المنظم فضّل السيسي على صباحي ربما لشعوره بأنه يحاكي، بشكلٍ أو بآخر، القائد الراحل جمال عبد الناصر، وأنه سيكون في وسعه إنهاض مصر من كبوتها واستعادة مسيرة النهضة. إلى ذلك، فإنّ تدني نسبة إقبال الناصريين وغير الناصريين على التصويت لصباحي يردّه جورج اسحق إلى «السياسة التي اتبعت منذ بداية الانتخابات والتي صوّرتها بأنها محسومة لمصلحة مرشح واحد، وأنّ المرشح الثاني لم يكن من حقه دخول الانتخابات من الأصل».
خامسها، ثمة شبه إجماع على أنّ العملية الانتخابية كانت حرة ونزيهة وإنْ شابها بعض الشوائب والانتهاكات. صباحي سلّم بنتيجتها وتوجّه إلى الشعب بالقول: «نحترم إرادتك ونريد أن تتوافر لنا جميعاً فرص تليق بنا في انتخابات أكثر عدالة وشفافية». غير أنه شدّد على أنه لن يعطي «أي صدقية وتصديق للأرقام عن نسبة المشاركة». وفيما قوبلت الأرقام المعلنة للمشاركة بتشكيك واسع، فإنّ بعثتي المراقبة التابعتين لجامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي أكدتا عدم وجود انتهاكات مؤثرة في نتيجة الانتخابات. رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي أكد أن الانتخابات تمّت في بيئة متلائمة مع القانون.
إذ تبدو ردود الفعل على الانتخابات الرئاسية مريحة للسيسي، فإنّ المشاكل والأعباء والتحديات التي تنتظره لا توحي له بالراحة أبداً. فهو مضطر، أولاً، إلى مواجهة مشكلتين قبل تسلّم مقاليد السلطة من الرئيس الموقت عدلي منصور. المشكلتان هما إصدار قانون البرلمان الذي ستجرى انتخاباته أواخر شهر يوليو/تموز المقبل، وقانون مباشرة الحقوق السياسية الذي يثير الكثير من الجدل. السيسي يرغب في تفادي الإحراج الممكن أن ينجم عن التأخير في إصدار هذين القانونين وذلك بإقناع الرئيس الموقت منصور بإصدارهما قبل يوم الخميس المقبل، الموعد الأرجح لتسلّمه مقاليد السلطة.
لن تنتهي متاعب السيسي بإصدار قانونيّ البرلمان ومباشرة الحقوق السياسية. فالانتخابات التي ستجرى بعد أقل من شهرين تشكّل بحد ذاتها تحدياً كبيراً. فهي أول انتخابات تجرى في عهده، وأول انتخابات بعد إقصاء الإخوان المسلمين عن رئاسة الدولة وعن البرلمان الأمر الذي يتطلب ترتيبات سياسية وإدارية بالغة الدقة لتفادي أي أخطاء تنعكس سلباً على عهده في بدايته.
قد لا يجد السيسي نفسه مضطراً إلى تغيير حكومة ابراهيم محلب قبل انتهاء الانتخابات التشريعية، لكن تشكيل حكومة جديدة بعد انتهائها تحدٍ بالغ الأهمية إذ ستكون تركيبتها وبرنامج عملها مؤشراً إلى الأهداف والنهج ووسائل العمل التي سيعتمدها السيسي في العهد الجديد.
إلى ذلك، ثمة تحدٍ كبير يواجه السيسي في مطلع عهده هو مواجهة الأزمة الاقتصادية والضائقة المعيشية اللتين يكابد المصريون مفاعيلها المتفاقمة. صحيح أن بعض دول الخليج قد مدّ مصر بالمساعدات والقروض حتى قبل أن يترشح للرئاسة، لكن ذلك وحده لا يكفي لتخليص مصر من أزمتها المتفاقمة.
مقاربة الأزمة الاقتصادية وإيجاد الحلول الملائمة لها سينعكسان بالضرورة على سياسة مصر الخارجية. ذلك أنّ حاجة القاهرة إلى قروض من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي حيث للولايات المتحدة نفوذ كبير، ستدفع السيسي إلى التزام الحذر، وبالتالي عدم مباشرة أي سياسة إقليمية من شأنها إزعاج واشنطن ومن ورائها «إسرائيل».
السيسي سيكون حذراً ايضاً في مقاربة مسألة العلاقات مع إيران وروسيا. فأي تقارب مع إيران يؤدي إلى نتائج إقليمية إيجابية، ولا سيما في علاقات القاهرة مع دمشق، سيثير حفيظة السعودية. وأي تفاهم عملي مع روسيا لتأمين مصدر إضافي لتسليح الجيش المصري قد تكون له انعكاسات سلبية على علاقات الولايات المتحدة مع مصر.
باختصار، مصر ستكون منشغلة بنفسها في مطالع عهد السيسي ولن يكون لها، على الأرجح، دور قيادي بارز في المنطقة يتجاوز ما كان عليه في عهدي مبارك ومرسي.
وزير سابق